إشكاليات الاستيعاب: الأدوار السياسية لمجموعات “الألتراس” في الدول العربية

إشكاليات الاستيعاب: الأدوار السياسية لمجموعات “الألتراس” في الدول العربية

رغم التغيرات التي لحقت بموجات الحراك الاحتجاجي المصاحبة للثورات والانتفاضات في عددٍ من الدول العربية بعد مرور ما يقارب أربع سنوات على اندلاع تلك الثورات؛ لا تزال أدوار بعض الفاعلين داخل الدول مثار جدلٍ محتدمٍ على غرار “الألتراس”، بالنظر إلى كونها جماعة غير سياسية لديها القدرة على الحشد والتنظيم، بشكل دفع بعض الدول العربية إلى تبني سياسات مغايرة تستهدف استيعابها وإعادة دمجها تدريجيًا في المجتمع.

ظاهرة عربية:

لا يُمكن اعتبار الألتراس أحد مستجدات الثورات العربية؛ حيث انتشرت روابط مشجعي كرة القدم في الدول العربية، بدايةً من تونس بتأسيس رابطة “أفريكان وينرز” من مشجعي فريق الأفريقي التونسي عام 1995، ثم انتقلت الفكرة إلى دول الجوار خاصةً المغرب التي باتت تضم أكثر من 50 مجموعة ألتراس تتقدمهم مجموعة “الوينرز” التي تشجع فريق الوداد، و”الجرين بويز” التي تشجع فريق الرجاء البيضاوي. وعرفت الجزائرُ الظاهرة أيضًا، حيث شهدت تأسيس عشرات مجموعات الألتراس منذ عام 2007 على رأسها “ألتراس كوماندوز” و”ألتراس ميجا بويز” و”ألتراس فيرديليون”.

كما انتقلت جماعات الألتراس إلى مصر منذ عام 2007 من خلال مجموعات “ألتراس أهلاوي” من مشجعي النادي الأهلي، وألتراس “الفرسان البيض”White- Knights  من مشجعي نادي الزمالك، و”النسور الخضراء” Green Eagles من أنصار النادي المصري، وغيرها من روابط المشجعين التي انتشرت بقوة قبيل الثورات العربية، وتتابعت مواجهتها مع قوات الشرطة خلال المرحلة الانتقالية، خاصةً عقب أحداث استاد بورسعيد الدامية في 1 فبراير 2012، والتي راح ضحيتها أكثر من 73 من مشجعي النادي الأهلي ومئات المصابين.

وعلى مستوى آخر، ارتبطت الثورات العربية بانتشار مجموعات الألتراس على امتداد الدول العربية كنموذج جديد للتشجيع الرياضي؛ حيث شهدت الأردن تكون مجموعات الألتراس بدايةً من عام 2008 عبر ألتراس “جرينز” التابع لنادي الوحدات، ثم انتشرت هذه الفكرةُ بتأسيس ألتراس “إيجلز” التابع للنادي الفيصلي. وانتقلت الفكرة للمملكة العربية السعودية في عام 2011 بتأسيس “ألتراس جولدن تايجرز” التابع لنادي الاتحاد السعودي، و”ألتراس الموج الأزرق” المشجع لنادي الهلال، و”ألتراس العالمي” التابع لنادي النصر، و”ألتراس الملكي” التابع للنادي الأهلي. بينما شهدت دولة الإمارات تكون “ألتراس جنون” المشجع لنادي الوصل.

تصاعد العنف:

تصاعدت وتيرة تسييس الألتراس والانتقال من مساحات التشجيع الرياضي إلى الاحتجاج السياسي وممارسة العنف ومناوأة السلطة إثر الثورات العربية، وعلى الرغم من تفاوت الحراك الاحتجاجي في الدول العربية، فإن مجموعات الألتراس لا تزال تحتفظ بقوةٍ دافعةٍ وقدرةٍ على الفعل. ففي مصر اشتبكت مجموعات ألتراس “أهلاوي” مع قوات الأمن بمحيط النادي الأهلي بعد محاولتها اقتحام النادي في 23 ديسمبر 2014، وذلك عقب بيان أصدرته فصائل ألتراس الأهلي، في 12 ديسمبر، يتضمن رفضًا لقرارات منع حضور الجمهور للمباريات، وتهديدًا باقتحام المباريات وحضور مباريات النادي بغض النظر عن رفض وزارة الداخلية.

في السياق ذاته؛ لا تزال الصدامات مستمرة بين قوات الأمن وألتراس “وايت نايتس”، خاصة عقب إعلان رؤساء عشرة أندية مصرية، في 14 سبتمبر، عن اعتبار روابط الألتراس جماعات إرهابية بسبب الأعمال التخريبية التي قامت بها هذه المجموعات خلال الأعوام الماضية، وتكليف رئيس نادي الزمالك مرتضى منصور برفع دعوى قضائية للمطالبة بحلها، واعتبارها مجموعات إرهابية، وهى القضية التي سيتم الفصل فيها في 26 يناير 2015، مما أدى إلى تأجيج الاحتجاجات من جانب روابط الألتراس ضد رؤساء الأندية، واندلاع اشتباكات متتالية مع قوات الأمن. ويرتبط ذلك بالاعتداء على رئيس نادي الزمالك من جانب ألتراس “وايت نايتس”، واتهامه لبعض عناصرها بالشروع في قتله في منتصف أكتوبر 2014.

بينما شهدت المغرب اشتباكات دامية بين مجموعات الألتراس، على غرار الصدامات بين ألتراس “عسكري” المساند لنادي الجيش الملكي ومشجعي فريق الدفاع الحسني، في 20 أكتوبر 2014، والتي تخللتها اشتباكات مع قوات الأمن بسبب رفض المشجعين مصادرة شعاراتهم وأدوات التشجيع، وهو ما أعقبه في 28 ديسمبر، تعرض مشجعي الجيش الملكي لاعتداءات من جانب مشجعي الفريق الخصم أسفرت عن سقوط عشرات الجرحى. ولعل تكرار أحداث العنف والشغب بين مجموعات ألتراس “بلاك آرمي” وألتراس “عسكري” وجماهير القنيطرية المغربية، هو ما دفع وزير الداخلية المغربي محمد حصاد للتهديد بحل روابط الألتراس في مطلع نوفمبر 2014.

كما شهدت الجزائرُ تراشقًا بالشماريخ بين فريق شباب بلوزداد ومولودية الجزائر، في 9 نوفمبر 2014، مما أدى إلى إصابة بعض الجماهير بحروق، وهو ما يرتبط بموجة العنف التي تجتاح الملاعب الجزائرية التي أدت إلى مقتل اللاعب الكاميروني ألبير إيبوسي مهاجم نادي شبيبة القبائل، في 7 سبتمبر 2014، نتيجة إصابته بقطعة خشبية حادة ألقاها الجمهور من المدرجات بسبب الهزيمة من نادي اتحاد الجزائر، وفق تصريحات وزير الشباب والرياضة الجزائري محمد التهامي. ولا ينفصل ذلك عن أحداث الشغب، في منتصف مارس 2014، بين جماهير فريقي مولودية الجزائر واتحاد جحوط التي أسفرت عن إصابة 30 مشجعًا والعشرات من رجال الأمن الذين استخدموا القنابل المسيلة للدموع لتفريق المشجعين ممن اتهمتهم قوات الأمن بالإخلال بالنظام العام، وتحطيم الممتلكات العامة، وامتلاك الأسلحة البيضاء.

وعلى الرغم من ضعف نزعات العنف لدى روابط الألتراس في الأردن، فقد اصطدم ألتراس الفيصلي بقوات الأمن، في 5 أغسطس 2014، بسبب رفع شعارات سياسية تتعلق بالتضامن مع غزة والمقاومة الفلسطينية خلال مباراة فريقها مع نادي الحسين في إربد، وهى الأحداث ذاتها التي تكررت مع ألتراس نادي الوحدات وغيره من الأندية الأردنية التي باتت أكثر ميلا لرفع شعارات سياسية خلال المباريات.

محفزات التسييس:

تكمن خصوصية الألتراس مع اختلاف سياقاتها في كونها جماعة رياضية متماسكة تمثل فئة الشباب لديها مكامن للقوة التنظيمية، تتمثل في الانتشار في أرجاء الدولة، والتضامن، والتماسك، والجماعية، ووجود لغة ومصطلحات مشتركة، ورموز وأعلام وتفاهمات خاصة بهم، وتقنيات للتشجيع الجماعي الحماسي، لا يتقنها غيرهم، فضلا عن روابط الانتماء والولاء الوثيقة التي تربطهم بالنادي الذي ينتمون إليه، فضلا عن كونها مجموعات مسطحة بلا رئيس ولا بنية هرمية. بيد أن الدور السياسي للألتراس يرتبط بعدة محفزات، أهمها ما يلي:

1- نزعات التمرد: تُسيطر على فكر الألتراس نزعات التمرد، ورفض السلطة بما فيها سلطة إدارة النادي الذي يقومون بتشجيعه نتيجة سيطرة الشباب على تكوين هذه المجموعات ممن يغلب على تفكيرهم الاستقلالية، ورفض القواعد التي يعتبرونها بمثابة قيودٍ على الإبداع في التشجيع، فضلا عن ميلهم الفطري للمغامرة والمخاطرة وتصعيد المواقف باعتبارها قيمًا تُظهر التميز الفردي لاحتلال موقع مركزي داخل المجموعة، وهو ما يجعل انضمامهم للحركات الاحتجاجية أكثر احتمالية، على غرار مشاركتهم في الاحتجاجات في دول الثورات العربية خاصةً في مصر وتونس.

2- رفض السلطة: يتجلى رفض السلطة لدى مجموعات الألتراس في توتر علاقتهم بالشرطة، ورفعهم شعارات عالمية الانتشار مناهضة للشرطة مثل “A.C.A.B” وهو اختصار لعبارة معناها “كل الشرطة أوغاد” تعبيرًا عن العداء المستحكم ضد عناصر الشرطة، وهو ما يتجلى في الاشتباكات المتكررة مع قوات الشرطة التي تتولى تأمين مباريات كرة القدم، وترديد الألتراس لأناشيد معادية للشرطة خلال التشجيع، خاصةً في ظل منع الشرطة لأدوات التشجيع التي يعتمد عليها الألتراس، لا سيما الشماريخ وزجاجات المياه والعصى المستخدمة في رفع الأعلام، وهى الأدوات التي تُستخدم في أعمال الشغب. وقد اتسعت الهوةُ الفاصلة بين الألتراس والشرطة في مصر عقب أحداث استاد بورسعيد في فبراير 2012 نتيجة لوم بعض الألتراس للشرطة بسبب عدم حماية المشجعين، وهو ما أدى إلى تصاعد العداء للشرطة، وسعى وزارة الداخلية إلى دفع اتحاد كرة القدم للاعتماد على شركات الأمن الخاصة في تأمين المباريات.

3- توظيف العنف: تقوم فكرةُ الألتراس على الدفاع عن النادي الذي تشجعه الجماهير ضد المنافسين، واعتبار مجموعات الألتراس المنافسة كخصوم، وهو ما يتجلى في ثقافة الألتراس في بعض دول المغرب العربي خاصة، والاشتباكات التي عادةً ما تتكرر بين مشجعي الأندية الرئيسية في المغرب والجزائر، والتي تتدرج بدايةً من محاولة سرقة أدوات التشجيع الخاصة بالخصوم مرورًا بالتراشق بالألفاظ والاشتباكات بالأيدي وانتهاءً بالعنف وأعمال الشغب الجماعية. وعلى الرغم من رفض بعض قيادات ومجموعات الألتراس لهذه الممارسات، فإن تعدد المجموعات ولا مركزيتها وافتقادها قيادةً أو بنيةً تنظيمية مؤسسية يُصعِّب من احتواء العنف.

4- الانتماء البديل: تقوم روابطُ الألتراس على اعتبار النادي بمثابة دائرة الانتماء الأول قبل الانتماء الوطني بسبب حالة الاغتراب التي انتشرت لدى الشباب في بعض الدول العربية، واختلال العلاقة بين المجتمع والدولة، ومن ثمَّ يميل أعضاء الألتراس للتعظيم من ناديهم، واعتباره “وطنًا” و”دولة” تقترن به كافة المقومات المعنوية للانتصار والمجد، ونتيجة لهذا التعارض بين دوائر الانتماء يميل الألتراس إلى رفع شعارات الحرية، ورفض الضوابط والقيود التي تفرضها قوات الأمن، وهو ما يؤدي إلى تأجيج التوترات والصدامات بين الأمن والألتراس.

5- استقطاب الجماعات الدينية: قد يؤدي ضعف روابط الانتماء للدولة إلى استقطاب بعض طوائف الألتراس من جانب الجماعات والتيارات الدينية على غرار التحالف بين بعض كوادر ومجموعات “وايت نايتس” ومؤيدي حازم أبو إسماعيل خلال المرحلة الانتقالية، ومحاولة بعض قيادات الإخوان المسلمين استقطاب عناصر ألتراس “أهلاوي” في مصر. وعقب الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين تكونت مجموعات احتجاجية تُحاكي أساليب الألتراس في التشجيع باتت تقود المظاهرات، وتعد هى الأكثر عنفًا ودافعية للاشتباك مع الأمن وممارسة أعمال العنف، مثل مجموعات ألتراس “نهضاوي”، وحركة “أحرار” المنبثقة عن حركة “حازمون” ومؤيدي حازم أبو إسماعيل، وغيرها من المجموعات التي باتت تعتمد على محاكاة أناشيد الألتراس المعادية للشرطة، واستخدام الطبول والشماريخ في المظاهرات، خاصة عندما انضم إليهم بعض عناصر الألتراس من ذوي الانتماءات الدينية والمتعاطفين مع تلك التيارات.

سياسات الاحتواء:

أخفق الاعتماد على الأدوات الأمنية وسياسات المنع والتقييد والملاحقة في التعامل مع الألتراس في مختلف الدول العربية باعتبارها تزيد من العداء بين مجموعات الألتراس وقوات الأمن، وتؤدي إلى تصاعد حالة الاغتراب لديهم، فضلا عن افتقادها للفاعلية في ظل تعدد مجموعات الألتراس، وسيولتها التنظيمية، ولا مركزيتها الغالبة، ناهيك عن كون الأنشطة الإبداعية للألتراس في التشجيع تعد بمثابة نوع من الأنشطة الشبابية المتميزة إذا لم تقترن بالعنف والاصطدام بالأمن والمنافسين.

ومن ثمَّ، بدأت بعض الدول العربية في تبني سياسات الاستيعاب تجاه الألتراس، والتي تستهدف منحهم فرصًا للتشجيع وإعادة دمجهم تدريجيًّا في المجتمع، ومصالحتهم مع الدولة، على غرار تصريحات وزير الشباب والرياضة المصري خالد عبد العزيز، في 30 ديسمبر 2014، حول إعجاب الرئيس عبد الفتاح السيسي بأنشطة الألتراس الإبداعية في المباريات، ومطالبته بالاستعانة بهم لتقديمها في افتتاح مشروع قناة السويس، وهو ما سبقه في سبتمبر 2014 إعلان الوزير عن سعيه للتعاون مع مجموعات الألتراس، ومحاولة تنظيمهم في مؤسسات تستوعبهم، والاستجابة لشكاواهم.

وإجمالا يمكن اعتبار وجود الألتراس بمثابة واقع لا يمكن إنكاره تختلط في إطاره الجوانب الإيجابية والسلبية. وفي ظل التسييس المتصاعد لمختلف الأنشطة المجتمعية؛ من غير المرجح أن تنحسر الأبعاد السياسية لدور الألتراس، خاصة في ضوء الخصائص الحاكمة لتفكيرهم وقدراتهم التنظيمية، وهو ما قد يستوجب تحقيق التوازن بين سياسات الاحتواء والاستيعاب، والتأمين، والضبط المجتمعي، وتوسيع مساحة المجال العام، وترشيد مستويات التدخل الأمني في الأنشطة الرياضية، وإتاحة فرصٍ للألتراس للمشاركة في الأنشطة المختلفة عبر المؤسسات المعنية لتعزيز روابط الانتماء الوطني، وتحييد نزعات العنف والاغتراب والتمرد.

المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية

http://goo.gl/dVMBhi