“في 12 آذار/مارس، خاطب ديريك چوليت، إلين لايبسون، مايكل دوران، ومايكل ماندلباوم منتدى سياسي في معهد واشنطن. وتم عقد هذا المنتدى في أعقاب نشر قصة الغلاف المثيرة للجدل في مجلة “أتلنتيك” بعنوان “عقيدة أوباما”. وچوليت هو مستشار قانوني ومستشار أقدم للشؤون الأمنية والسياسة الدفاعية في “صندوق مارشال الألماني للولايات المتحدة”. ولايبسون هي زميلة متميزة ورئيسة فخرية في “مركز ستيمسون”. ودوران هو زميل أقدم في “معهد هدسون”. وماندلباوم هو بروفيسور “كريستيان أ. هيرتر للسياسة الخارجية الأمريكية” في “كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة”. وفيما يلي ملخص المقرر لملاحظاتهم، التي هي ليست نسخة حرفية”.
ديريك چوليت
منذ حملته الرئاسية الأولى، سعى الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى إعادة تعريف القوة الأمريكية وإعادة توازن الدور القيادي الأمريكي في الشؤون العالمية. ولا يفكر أوباما بطريقة عقائدية، بل يرى التحديات العالمية بطرق أكثر تحديداً ويُفضل معالجتها من خلال منهجيات طويلة الأمد.
حين تولى منصبه، اعتقد أوباما أن سياسة الولايات المتحدة لم تكن متوازنة، وسعى إلى استعادة التوازن على عدة جبهات: بين الأولويات في مناطق مختلفة، وبين الأولويات المحلية والدولية، وفي مختلف الشراكات الأمريكية، وفي تطبيق مختلف أدوات فن الحكم. إن مفهومه للتوازن الاستراتيجي يعترف بحدود القوة الأمريكية ومواردها. وبينما قد يكون هذا الرأي غير صحيح سياسياً، إلا أن الاستراتيجية الكبرى تفرض تحديد الأولويات وتخصيص الموارد المناسبة لها. ومما يزيد هذه العملية تعقيداً حقيقة أن الولايات المتحدة تواجه مطالب أكثر من أي دولة أخرى، إلا انه لا يمكن لأمريكا تلبيتها جميعاً.
ويرى أوباما الاستدامة على أنها في غاية الأهمية بالنسبة لأي سياسة، لذلك وضع نصب عينيه تطوير التزامات مستدامة في الشرق الأوسط تكون متوازنة مع مصالح أخرى. فهو يعتبر أن القيادة الأمريكية وقدرتها على وضع جداول الأعمال العالمية، إما علناً أو من وراء الكواليس، تشكلان عنصراً أساسياً لأي سياسة مستدامة ومتوازنة. وفي بعض المناطق، مثل أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، أدت هذه المنهجية إلى تحسين العلاقات على نحو بارز، إلا أن المنطقة الوحيدة التي لم تتحسن فيها الأمور بشكل ملحوظ هي الشرق الأوسط. بيد أن ضبط النفس أمر بالغ الأهمية لتحقيق التوازن والاستدامة، وعلى الرغم من أن إجراءات أو خطابات معينة قد تكون مواتية سياسياً، إلا أن الرئيس الأمريكي يشعر بالقلق من أي شئ قد يخل بتوازن السياسة الخارجية الأمريكية بشكل عام.
ووفقاً لذلك، يُظهر سجل أوباما تفضيله لأدوات القوة الأمريكية الأكثر دقة وسرية، مثل هجمات الطائرات بدون طيار والعمليات الخاصة والعقوبات المحددة الأهداف. فالدقة توفر القدرة على المناورة والمرونة، ولكن الصبر مطلوب في مبادراته الخاصة، من بينها الجهود المبذولة لمعالجة وضع إيران و تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») والتغيّر المناخي. ومع ذلك، ففي ما يخص بعض السياسات، فإنه من المنطقي أن نتساءل عما إذا كان لدى الولايات المتحدة متّسع من الوقت للتحلي بالصبر.
ويعترف أوباما أيضاً بأن جزءاً من عظمة الولايات المتحدة مستمد من قدرتها على الاعتراف بإمكانية خطئها وتصحيح مسارها عند الضرورة. فهو يشكك في أولئك الذين يقدمون إجابات سريعة ومبررات سهلة، ويتوخى الحذر من أن تؤدي المناقشات السياسية في واشنطن إلى تقييد التفكير الاستراتيجي. وبالتالي، فإن منهجيته طويلة الأمد والمتفائلة تخالف الاتجاهات السياسية القائمة في الداخل الأمريكي، ولكنه يعتقد أنها أفضل وسيلة لتمكين الاستثنائية الأمريكية في الخارج.
وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها الإدارة الأمريكية لإعادة التوازن، إلا أن التطورات التي تجري تحت عين أوباما اليقظة لا تدعم الرأي القائل بأن الولايات المتحدة تُبعد محورها عن الشرق الأوسط. فالقوات المنتشرة في المنطقة اليوم تتخطى تلك التي كانت متواجدة قبل الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر. كما تعمل القوات الأمريكية على تعزيز وضع شركائها في الخليج، وقد شهدت السنوات السبع الماضية بعض من أكبر عمليات مبيعات الأسلحة في التاريخ. وبالمثل، حافظت واشنطن على دعمها لمصر في ظل الانتقادات في الداخل، في حين أن الدعم العسكري والاستخباراتي لإسرائيل وصل إلى مستويات قياسية. إلى جانب ذلك، كان أوباما قادراً على القضاء على الغالبية العظمى من الأسلحة الكيميائية في سوريا من دون استخدام القوة العسكرية.
وحتى مع ذلك، ستواجه الإدارة الأمريكية المقبلة مشكلة إعادة الطمأنة في آسيا والشرق الأوسط وأوروبا حيث يشعر شركاء الولايات المتحدة بقلق كبير حيال التطورات الإقليمية. فجميعهم يريدون المزيد من واشنطن ولديهم طموحات متطرفة حول ما يجب أن تقوم به الولايات المتحدة في العالم.
إيلين لايبسون
نظراً لأن الرئيس أوباما يتمتع برؤية عالمية الأفق للعالم، فهو يتعاطف جداً مع تجربة البلدان الأخرى للقوة الأمريكية. وقد دفعه هذا التوجه العقلي إلى تحسين فهم دقيق لقوة الولايات المتحدة وتطويرها في عصر العولمة.
وعلى الرغم من الاتهامات القائلة بأن الولايات المتحدة تنسحب من الشرق الأوسط أو تتحول نحو آسيا، إلا أن خطابه الذي ألقاه في القاهرة عام 2009 أظهر طموحاً كبيراً لتحويل العلاقات بين الولايات المتحدة والعرب. ففي حين اعتبر البعض أن رد فعله على “الربيع العربي” يظهر انعدام الخبرة، رأى هو فيه فرصة لتغيير العقد الاجتماعي بين حكومات الشرق الأوسط ومجتمعاتها. إلا أنه في الآونة الأخيرة أشار إلى الدول العربية كـ “منتفعة مجاناً”، وهي وجهة نظر رجعية لأن القادة العرب، وخصوصاً السعوديين وشركاء آخرين في الخليج أطلقوا المزيد من المبادرات وتولوا مسؤوليات إضافية في السنوات القليلة الماضية.
وفي الوقت نفسه، يعتقد أوباما أن بعض مشاكل المنطقة ليست قابلة للحلول الأمريكية، فبعض القضايا الوجودية لا يمكن معالجتها إلا من قبل الشرق أوسطيين أنفسهم. ولا ينبغي أن يساء تفسير الأمر على أنه لا مبالاة أو عدم التزام، ولكن إدارته تريد أن تتحمل المنطقة المزيد من المسؤولية في مشاكلها. ويقيناً أن الولايات المتحدة لا تزال تحتفظ بشراكات أمنية في المنطقة، ولكن هذه العلاقات معقدة، فهي ليست عبارة عن اتفاقيات دفاع متبادلة وملزمة – مماثلة لتحالفات “منظمة حلف شمال الأطلسي” (“الناتو”) أو التحالفات الأمريكية في آسيا.
وفي سوريا، إن المداولات السابقة حول ما إذا كان اللجوء إلى القوة رداً على استخدام نظام الرئيس السوري بشار الأسد للأسلحة الكيماوية، قد تم تحديدها من خلال رفض الرئيس الأمريكي إطلاق حملة عسكرية أخرى في بلد مسلم في ظل عدم وجود خارطة طريق للمرحلة التي تلي التدخل. أما اليوم، فيُنظر إلى هذا المنطق من منظور مختلف، فقرار الامتناع عن التدخل بقوة أكبر في عام 2013 يبدو الآن مكلفاً.
وعلى نطاق أوسع، تتخطى مسؤوليات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط المصالح المعلنة لأي دولة في المنطقة. فإذا كان الاستقرار الكلي هو الهدف الأساسي، يجب على واشنطن أن تسعى إلى تحسين العلاقات بين الدول العربية وإيران على المدى الطويل، على الرغم من أن إيلاء الكثير من التركيز على هذه الجهود في الوقت الراهن قد يؤدي إلى نتائج عكسية.
وأخيراً، كانت أهمية السياسات في المنطقة آخذة في التراجع ببضع درجات بسبب استقلال الولايات المتحدة المتزايد في مجال الطاقة. وفي المستقبل، ربما تقبل واشنطن مخاطر أكبر في الشرق الأوسط، وسيكون تدخلها في المنطقة أقل ترجيحاً.
مايكل دوران
أوباما هو مفكر استراتيجي، وقد ارتكز جزء كبير من عملية تفكيره الخاصة بالشرق الأوسط على تقييمين: أن المنطقة ليست ذات أهمية استراتيجية حيوية للولايات المتحدة، وأن أمن إسرائيل لا يشكل مصدر قلق بالغ الأهمية بالنسبة لواشنطن. وفي حين سعى الرؤساء السابقون إلى تعزيز وضع الحلفاء في وجه الخصوم، ينظر أوباما إلى الخصوم، وبشكل رئيسي إيران وروسيا، على أنهم من أصحاب المصلحة الإقليمية المشروعين.
لقد كان الاتفاق النووي الإيراني جزءاً من الجهد المبذول للعمل مع هؤلاء الخصوم من أجل تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط وتقليل التزامات الولايات المتحدة في المنطقة. وقد اختار البيت الأبيض عدم إجبار إيران وروسيا على دفع ثمن أنشطتهما في سوريا، ويعود ذلك جزئياً بسبب الأولوية التي منحها للمفاوضات النووية. ولكن بالرغم من أن «خطة العمل المشتركة الشاملة» قد تمنع إيران من امتلاك السلاح النووي لمدة عشر سنوات إلى خمس عشرة سنة، إلا أن هذا ليس سوى تأخير مؤقت في أحسن الأحوال، وسيكون على حساب سباق التسلح النووي في المنطقة.
وبشكل مماثل يعكس “الخط الأحمر المتعلق باستخدام الأسلحة الكيميائية” الذي أُعلن في عام 2013 اعتراف الإدارة الأمريكية بالمصالح الإيرانية في سوريا. إذ لم يرغب أوباما باستخدام القوة لأنه اعتقد أنها ستهدد التقدم الذي يعمل على إحرازه مع الإيرانيين. وبدلاً من ذلك كتب رسالة إلى المرشد الأعلى الإيراني وحجب المساعدات عن الجماعات المعارضة السورية، الأمر الذي ساعد على تغيير ميزان القوى لصالح نظام الأسد وطهران.
وتطرح استراتيجية الرئيس الأمريكي إشكالية لأن روسيا وإيران تقوضان بنشاط مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في الشرق الأوسط. ونتيجة لذلك، لن تستقر المنطقة بما يكفي لانسحاب الولايات المتحدة منها، وسيستمر نظام التحالف الأمريكي في التراجع. وفي المقابل، يزداد التحالف الروسي الإيراني قوة – وهو يمثل أكبر تحوّل في المنطقة، بينما لا تخصص واشنطن موارد كافية لاحتواء هذا التهديد.
وتوفر شبكة الميليشيا الإيرانية الآخذة في التوسع، والتي تستند على نموذج «حزب الله»، وسيلة رخيصة لتقويض خصومها. فالسعوديون والأتراك والإسرائيليون لا يمتلكون أصولاً كافية لمكافحة هذه الشبكة بشكل فردي، كما أن انقساماتهم المشتتة تمنعهم من مواجهة التحالف الإيراني الروسي بشكل مشترك. وبالتالي، فإن وضع الولايات المتحدة هو الأفضل لتنسيق البعثات والتحالفات من أجل معالجة هذا التهديد وترتيب نظام إقليمي مستقر. وتستلزم إعادة التوازن حلفاء أقوياء، وسيتوجب على الرئيس الأمريكي القادم تعزيز العلاقات الأمريكية في المنطقة وعكس الفكرة القائلة بأنه لا يمكن لواشنطن استخدام القوة العسكرية بشكل فعّال.
مايكل ماندلباوم
بالنسبة للولايات المتحدة، يُعتبر الشرق الأوسط حالياً أقل أهمية نسبياً مما كان عليه بين العامين 1989 و 2014. فخلال تلك الفترة ما بعد “الحرب الباردة”، كانت أوروبا وشرق آسيا تشهدان فترة سلام إلى حد كبير، الأمر الذي سمح لواشنطن بتخصيص المزيد من الموارد والاهتمام للشرق الأوسط. لكن الوضع مغاير حالياً، فالتحديات الاستراتيجية الجديدة تتطلب إيلاء الاهتمام لشرق آسيا وأوروبا وأجزاء أخرى من العالم، مما سيتطلب بلا شك إعادة تخصيص الموارد في المستقبل.
وهناك ثلاثة عوامل رئيسية تثير قلق الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وهي: منع أي بلد منفرد من فرض هيمنته، ومنع الانتشار النووي، والحفاظ على الوصول العالمي إلى النفط في المنطقة. وعلى الرغم من أن التكنولوجيا الجديدة قد جعلت الولايات المتحدة أقل اعتماداً على موارد الطاقة في الشرق الأوسط، إلا أن اليابان وأوروبا الغربية لا يزالان يعتمدان عليها، ولذلك فإن الحفاظ على علاقات الولايات المتحدة مع هؤلاء الحلفاء المقربين من واشنطن سيتطلب على الأرجح الإستمرار في إعطاء الأولوية لأمن النفط في المنطقة. ومن جانبها، لا تزال إسرائيل بحاجة إلى مساعدة في مكافحة الانتشار النووي بين جيرانها.
وفي حين يشكل تنظيم «الدولة الإسلامية» التهديد الرئيسي بالنسبة للأمريكيين في المنطقة، إلا أن إيران هي الخطر الرئيسي الذي يهدد مصالح الولايات المتحدة والتزاماتها في الشرق الأوسط. فهي دولة انتقامية تسعى إلى الهيمنة الإقليمية وتبقى مصدر قلق فيما يتعلق بانتشار الأسلحة النووية. ووفقاً لذلك، فإن احتواء إيران يجب أن يكون الهدف الرئيسي لواشنطن في المنطقة.
وحتى لو لم تكن لدى الولايات المتحدة مصلحة في الأساس النظري الكامن وراء الصراعات الطائفية في المنطقة، فالحقيقة هي أن معظم حلفائها هناك هم من الحكومات السنية. وبالتالي، يمكن لعملية الحفاظ على هذه التحالفات أن تكون صعبة لأن بعض الشركاء السنّة غير قادرين على تخصيص قوات للقتال على الأرض أو مترددون في القيام ذلك، مما يعقّد هدف إدارة أوباما القائم على مواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية» من دون تدخل بري أمريكي كبير. ومن غير المرجح أن تقوم الدول السنية بشكل خاص بالتزامات مماثلة في الوقت الذي لا تثق فيه بجهود واشنطن للتفاوض مع إيران حول دورها الإقليمي. كما أن قيام روسيا بمواءمة أهدافها مع طهران والائتلاف الشيعي الأوسع يزيد من تعقيد أي تدخل عسكري أمريكي واسع النطاق على الجانب السني. أما المشكلة الأخرى فهي افتقار إدارة أوباما لاستراتيجية واضحة للمرحلة التي تلي هزيمة «داعش»، الأمر الذي يطرح خطر نشوء جماعة إسلامية متشددة جديدة تحل محل التنظيم.
ويراعي أوباما أولئك الذين يعارضون قوة الولايات المتحدة، لكنه أقل مراعاة للذين يعتمدون على القوة الأمريكية. بيد، تتمتع المصداقية بأهمية كبيرة عند مواجهة الخصوم الاستراتيجيين. إن مسيرة أوباما السياسية السابقة قد تبلورت برمتها تقريباً في عصر كانت الولايات المتحدة تفتقر فيه إلى الخصوم الاستراتيجيين، وبالتالي لم يتكيف جيداً مع ظهور هؤلاء الخصوم في هذا العصر الجديد.
باتريك شميت
معهد واشنطن