طفرة الغاز القادمة: الموقف القَطَري في أسواق متغيرة

طفرة الغاز القادمة: الموقف القَطَري في أسواق متغيرة

ملخص تحتل دولة قطر المرتبة الرابعة ضمن أكبر منتجي الغاز عالميًا، وقد شهد إنتاج قطر من الغاز الطبيعي المسال طفرة خلال العقد الماضي؛ ساعدها في ذلك ارتفاع الطلب العالمي وسط قلة العرض خصوصًا بعد كارثة اليابان عام 2011، لتقفز صادراتها من 18 مليون طن سنويًّا في عام 2002 إلى 77.2 مليون طن سنويًّا في عام 2013، وهو ما يمثل أكثر من 42 في المائة من التجارة العالمية للغاز الطبيعي.رغم ذلك فإنَّ هذا الوضع الريادي لدولة قطر ربما يواجه تحديات كبيرة خلال العقد القادم، نتيجة تغيرات كبيرة قد تطرأ على أسواق الطاقة العالمية؛ حيث يمكن لخارطة الغاز العالمية أن تتغير جذريًّا مع دخول المزيد من المنافسين، وظهور مراكز جديدة مصدرة للغاز الطبيعي المسال، خصوصًا في أستراليا والولايات المتحدة الأميركية. ثمّ إنَّ الزيادة في الإمدادات من دول مثل الولايات المتحدة الأميركية وكندا وأستراليا وروسيا وبعض الدول الإفريقية، قد يؤدي إلى تخمة في الأسواق ربما تدفع إلى انخفاض الأسعار، وبالتالي تراجع الإيرادات المالية لدولة قطر والمتأتية من صناعة وتصدير الغاز.تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ استمرار انخفاض أسعار النفط قد يهدد استراتيجية الدوحة لتعزيز استقرار إنتاج النفط في ظل التكاليف الباهظة لبعض المشاريع بالرغم من أن الحكومة القطرية. وخلاصة القول تكمن في أن التطورات التي تشهدها أسواق الطاقة العالمية لا تشكِّل تهديدًا وجوديًّا لصناعة الغاز الطبيعي المسال في دولة قطر، إلَّا أنه قد ينبغي على الدوحة التأقلم مع إيرادات مالية أقل من مبيعات الغاز في ظل منافسة تحتدم مع مرور الوقت.

مقدمة

تمتلك قطر ثالث أكبر احتياطيات من الغاز في العالم، أو حوالي 871.5 تريليون قدم مكعب (24.7 تريليون متر مكعب)، وهو ما يمثل نحو 13.3 في المائة من احتياطيات الغاز العالمية المؤكدة في عام 2013. وبلغ إنتاج قطر في العام الماضي 158.5 مليون متر مكعب، أو ما يعادل 4.7 في المائة إنتاج الغاز العالمي؛ مما جعلها تحتل رابع أكبر منتج للغاز في العالم (بعد روسيا والولايات المتحدة وإيران)(1). ووفقًا للبيانات التي أوردها الاتحاد الدولي للغاز، صدَّرت قطر أكثر من 84 في المائة من إنتاجها من الغاز على شكل الغاز الطبيعي المسال (LNG)، وأكثر من ثلثي ذلك الغاز المسال (71.4 في المائة) تم شحنه إلى دول آسيا(2). وقد شهد إنتاج قطر من الغاز الطبيعي المسال طفرة خلال العقد الماضي؛ ساعدها في ذلك ارتفاع الطلب العالمي وسط قلة العرض خصوصًا بعد كارثة اليابان عام 2011، لتقفز صادراتها من 18 مليون طن سنويًّا في عام 2002 إلى 77.2 مليون طن سنويًّا في عام 2013(3)، وهو ما يمثل أكثر من 42 في المائة من التجارة العالمية للغاز الطبيعي(4).

المصدر: الاتحاد العالمي للغاز

لكن هذا الوضع الريادي لدولة قطر ربما يواجه تحديات كبيرة على مدى العقد القادم؛ نتيجة تغيرات عميقة قد تطرأ على أسواق الطاقة العالمية. حيث يمكن لخارطة الغاز العالمية أن تتغير جذريًّا مع دخول المزيد من المنافسين، وظهور مراكز جديدة مصدرة للغاز الطبيعي المسال، خصوصًا في أستراليا والولايات المتحدة الأميركية. ثمّ إنَّ الزيادة في الإمدادات من دول مثل الولايات المتحدة الأميركية وكندا وأستراليا وروسيا وبعض الدول الإفريقية، قد يؤدي إلى تخمة في الأسواق ربما تدفع إلى انخفاض الأسعار، وبالتالي تراجع الإيرادات المالية لدولة قطر بشكل كبير. أضف إلى ذلك أنّ توافر الإمدادات البديلة في الأسواق الآسيوية قد يسمح للمشترين هناك بزيادة قوتهم التفاوضية والعمل بشكل جادٍّ من أجل تعديل عقود توريد الغاز طويلة الأجل لصالحهم، وهذا الأمر قد يعني بالمحصلة تحديًا للنموذج الذي تعمل به دولة قطر حاليًّا بربط عقود الغاز المسال طويلة الأجل بأسعار النفط.

نظرة عامة على أسواق الغاز الطبيعي المسال

تبدو صورة أسواق الغاز الطبيعي المسال اليوم مختلفة تمامًا عن تلك التي كانت سائدة عام 2011؛ فبعدما صعد الطلب بشكل متسارع على إثر توقف عشرات المفاعلات النووية اليابانية عن العمل، انقلب الوضع حاليًّا للحديث عن “تخمة” قادمة في الأسواق. وعلى النقيض من السابق، تملك حاليًّا الدول المنتجة للغاز الطبيعي المسال قدرة إنتاجية (استيعابية) أكثر مما يحتاجه العالم. حيث وصلت مع نهاية عام 2013 القدرة التصديرية لنحو 17 دولة حوالي 290 مليون طن سنويًّا من الغاز الطبيعي المسال، في حين بلغ حجم التجارة العالمية للغاز الطبيعي المسال حوالي 237 مليون طن(5)، وهي أقل من الرقم القياسي الذي سجلته عام 2011 وهو حوالي 242 مليون طن(6).

وفي إطار الحديث عن أهمية القطاع، فقد شكل الطلب على الغاز الطبيعي المسال حوالي 10% من إجمالي الطلب العالمي على الغاز الطبيعي في نهاية عام 2013. وتبقى آسيا أكبر الأسواق العالمية بدون منازع؛ فقد شكلت نحو ثلاثة أرباع الطلب العالمي على الغاز الطبيعي المسال، تليها أوروبا (14.3%)، والأميركتان (9.3%) والشرق الأوسط (1.3%)(7). لكن اللافت أن حصة أسواق التسليم الفوري والصفقات قصيرة الأجل قد ارتفعت في نهاية العام الماضي إلى 77.3 مليون طن سنويًّا مقارنةً بـ 73.5 مليون طن عام 2012. وبالمحصلة ارتفعت نسبتها إلى نحو ثلث إجمالي التجارة العالمية للغاز الطبيعي المسال. ولا تزال حصة الأسد من نصيب قطر ونيجيريا، حيث بلغت 44% من إجمالي العقود غير طويلة الأجل(8).

المصدر: الاتحاد العالمي للغاز، وكالة معلومات الطاقة الأميركية و IHS

وعلى جانب العرض، تجاوزت القدرة الإنتاجية (الاستيعابية) العالمية في 17 دولة 290 مليون طن سنويًّا، يتركز نحو الثلثين منها في 5 دول فقط، وهي على الترتيب: قطر، ماليزيا، أستراليا، إندونيسيا، ونيجيريا مع نهاية عام 2013(9). وتبقى منطقة الشرق الأوسط أكبر منطقة مصدِّرة للغاز الطبيعي المسال بحصة سوقية بلغت 41.5% (98.3 مليون طن)، تليها آسيا والمحيط الهادئ بنسبة 37.1% (87.9 مليون طن). وتربعت قطر على عرش أسواق الغاز الطبيعي المسال؛ حيث وصلت صادراتها العالمية من الغاز الطبيعي المسال إلى (33%)، تليها ماليزيا (11%) وأستراليا (10%)(10).

المصدر: الاتحاد العالمي للغاز، وكالة معلومات الطاقة الأميركية وIHS

لكن يرجح لهذا الوضع أن يتغير بشكل دراماتيكي على مدى الخمس سنوات القادمة، مع وجود مشاريع قيد الإنشاء تصل طاقاتها الإنتاجية 117 مليون طن سنويًّا، ومن المتوقع أن تنمو تلك الطاقة الإنتاجية العالمية للغاز الطبيعي المسال بنسبة 36% على مدى السنوات الخمس المقبلة لتصل إلى 397 مليون طن سنويًّا عام 2018(11) (انظر جدول 1).

أستراليا: “الملك” الجديد القادم

تمتلك أستراليا 3 مرافق لتصدير الغاز الطبيعي المسال، بسعة إجمالية تتجاوز 24 مليون طن في السنة(12). وتصدر أستراليا الغاز الطبيعي بشكل حصري تقريبًا إلى الأسواق الآسيوية؛ فقد أشترت اليابان نحو 80% من صادرات أستراليا في عام 2013، معظمها من خلال عقود طويلة الأجل. في حين أن المستهلكين الرئيسيين الآخرين هم: الصين (16%) وكوريا الجنوبية (3%)، وتايوان. ورغم أن أستراليا تعتبر حاليًّا ثالث أكبر دولة في إنتاج الغاز الطبيعي المسال، إلا أنه من المتوقع أن تسود الأسواق خلال السنوات الخمس المقبلة، لتزيح قطر عن المرتبة الأولى وتتربع على “العرش” وتصبح أكبر دولة منتجة للغاز المسال بحلول عام 2017. وفي الوقت الراهن هناك سبعة مشاريع قيد الإنشاء بسعة إجمالية قدرها 61.8 مليون طن سنويًّا (53% من القدرة الإنتاجية العالمية قيد الإنشاء) بقيمة إجمالية تصل إلى 200 مليار دولار. وطبقًا للأرقام التي أوردتها وكالة الطاقة الدولية، 90% من مشاريع الغاز الطبيعي المسال القائمة في أستراليا تم التعاقد على شراء إنتاجها(13).

ورغم هذه الصورة المتفائلة، إلا أن هناك عدة عوامل قد تعرقل عمليات الإنتاج في أستراليا، ولعل أهمها التباطؤ في الطلب العالمي على الغاز الطبيعي المسال، فضلاً عن أن تراجع أسعار النفط العالمية وانخفاض أسعار السلع الأولية خصوصًا النفط يهدد بتقويض الاستثمار. وفي هذا السياق فقد خفضت مؤسسة غولدمان ساكس توقعاتها للنمو في الطلب على الغاز الطبيعي المسال العالمي إلى 5 في المائة بحلول عام 2020؛ عازية ذلك إلى ضعف الطلب الأوروبي وزيادة خطوط أنابيب نقل الغاز إلى الصين من روسيا ودول الاتحاد السوفييتي السابق المنافسة للغاز الطبيعي المسال .(14) كما أن المنافسة من المنتجين في الولايات المتحدة الأميركية، الذين يطمحون لتصدير كميات الغاز الطبيعي المسال إلى آسيا، دفعت العديد من المشترين في اليابان وأماكن أخرى من العالم لتأخير التفاوض على الأسعار مع شركات الطاقة العالمية التي تعمل في أستراليا. وفي حال عدم وجود عقود التسعير على المدى الطويل، فمن المتوقع أن يمتنع المستثمرون عن اتخاذ قرارات بشأن مشروعات جديدة تبلغ تكلفتها مليارات الدولارات.

خارج أستراليا، وحتى نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول عام 2014، يوجد مشروع واحد فقط قيد الإنشاء لإنتاج الغاز الطبيعي المسال في الولايات المتحدة الأميريكة وهو سابين باس، (Sabine Pass LNG)، بطاقة إنتاجية تمثل نحو 18 مليون طن سنويًّا(15). بالطبع، فإنَّ هذا الإنتاج وحده لن يكون كافيًا للتأثير بشكل كبير على أسواق الغاز العالمية، ومع ذلك، فإن المشاريع الستة التي تمت الموافقة عليها من قبل وزارة الطاقة الأميركية في منتصف عام 2014 (ومن ضمنها سابين باس) يمكنها في حال الانتهاء من تشييدها إضافة ما يقرب من 66 مليون طن سنويًّا إلى أسواق الغاز العالمية في بداية العقد المقبل، أو نحو 20% من إجمالي تجارة الغاز الطبيعي المسال العالمية المتوقعة(16). ورغم أن الولايات المتحدة الأميركية وحدها قد لا تؤثر بشكل جذري (مثلما هي الحال مع أستراليا) على أسواق الغاز الطبيعي المسال على الأقل في المديين القصير والمتوسط، لكن مشروع سابين باس يضيف إنتاجًا جديدًا يعزز مرونة الأسواق ويزيد من خيارات المشترين.

لكن طفرة النفط الصخري في الولايات المتحدة الأميركية قد تشكِّل منافسًا قويًّا للشركات القطرية خلال السنوات القليلة القادمة في أماكن أخرى. حيث تعتبر قطر حاليًّا أكبر مورد لدول آسيا من المكثفات النفطية (condensate)(17) وتشكِّل صادراتها أكثر من 30% من التجارة العالمية. ومن المتوقع أن يبلغ إنتاج قطر ذروته في عام 2015 عندما يبدأ تشغيل مشروع برزان للغاز التابع لشركة قطر للبترول وإكسون موبيل(18). كما تفوقت قطر مؤخرًا على السعودية كأكبر مصدِّر في الشرق الأوسط لغاز البترول المسال (LPG)(19)، بعد أن شهد الإنتاج في قطر توسعًا كبيرًا من 1.5 مليون طن سنويًّا في 2002 إلى أكثر من 11 مليون طن سنويًّا بنهاية عام 2013(20). وطبقًا للإحصائيات السنوية لمنظمة أوبك، فقد صدَّرت قطر في العام الماضي 511 ألف برميل يوميًّا من المكثفات النفطية، وغاز البترول المسال، وسوائل الغاز الطبيعي (NGLs)(21)، قرابة 99% منها توجه نحو آسيا(22). وتعتبر اليابان أكبر سوق للمكثفات القطرية؛ حيث اشترت نحو 182 ألف برميل يوميًّا في عام 2013(23).

لكن هذا الوضع قد يتغير في المدى القصير؛ حيث من المنتظر أن تدخل الولايات المتحدة الأميركية منافسًا قويًّا في أسواق المكثفات والغاز البترولي المسال. وفي هذا الإطار يتوقع “سيتي بانك” في دراسة موسعة أجراها مؤخرًا، زيادة إنتاج الولايات المتحدة الأميركية من المكثفات النفطية إلى نحو مليوني برميل يوميًّا في عام 2020(24). ولا يقتصر الأمر على ذلك، فمن المرجح أن تزيد الولايات المتحدة الأميركية قدرتها التصديرية للغاز البترولي المسال إلى مليون برميل يوميًّا بحلول عام 2016، أو 12% من الطلب العالمي(25). وفي دراسة أخرى نشرها معهد جيمس بيكر للسياسة العامة توقعت أن تملك ولاية تكساس الأميركية وحدها طاقة تصديرية من غاز البترول المسال أو غاز البترول السائل (LPG)، مساوية لتلك التي تملكها كلٌّ من قطر والسعودية معًا في موعد لا يتجاوز عام 2016، وربما في عام 2015(26). ومع اقتراب انتهاء مشروع توسعة قناة بنما رسميًّا مع نهاية عام 2015، أو 2016 فإن ذلك قد يغير قواعد اللعبة عالميًّا؛ نتيجة تأثير سوق المكثفات النفطية الأميركية.

وفي مناطق أخرى من العالم (انظر الجدول 1)، لا تزال أغلبية المشاريع الكندية تنتظر المضيَّ في اتخاذ القرارات الاستثمارية النهائية. هذا الوضع يعكس بكل تأكيد صعوبة الجمع بين التكاليف الرأسمالية المرتفعة نسبيًّا مع الإصرار على ربط المشاريع الكندية بأسعار النفط، التي إذا واصلت التراجع قد تضفي مزيدًا من الشكوك حول إمكانية إنجاز معظم هذه المشاريع(27). ومع ذلك هناك نحو 15.2 مليون طن سنويًّا أخرى قيد الإنشاء في دول مثل بابوا غينيا الجديدة وماليزيا وإندونيسيا. ومع اكتمال مشروع غينيا الجديدة، يرتفع عدد الدول المنتجة (بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية) إلى 19 بلدًا(28). ومن المشاريع الأخرى الجديدة التي وصلت إلى مرحلة قرار الاستثمار النهائي (FID)، هناك مشروع (يامال) للغاز الطبيعي المسال في روسيا (16.5 مليون طن سنويًّا) ومشروع (روتان إف إل إن جي) (1.5 طن سنويًّا) في ماليزيا. وفي شرق إفريقيا، أدت الاكتشافات الكبيرة في موزامبيق وتنزانيا إلى اقتراح 7 مشاريع يبلغ مجموع قدراتها الإنتاجية حوالي 35 مليون طن سنويًّا(29).

الجدول (1): قدرة تسييل الغاز الطبيعي(*) حسب المنطقة في عام 2008 و2013 و2018

المنطقة/السنة

2008

2013

2018

(المتوقعة)

النمو الحقيقي

2008-2013

النمو المتوقع

2013-2018

إفريقيا

58.7

66.8

71.5

%14

%7

آسيا-الباسفيك

81.2

89.4

163.2

%10

%83

أوروبا

3.4

4.2

4.2

%25

0

دول الاتحاد السوفيتي السابق

9.6

20.6

%115

أميركا اللاتينية

15.5

19.95

19.95

%29

%0

أميركا الشمالية

1.5

18.0

الشرق الأوسط

46.8

100.8

99.1

%115

-2 %

الطاقة الاستيعابية

207.0

290.0

396.6

%40

%36

المصدر: بيانات مؤسسة IHS

* ملاحظة: قدرة التسييل (القدرة الإنتاجية) تشمل فقط المشاريع القائمة والأخرى قيد الإنشاء.

عقدة النفط وآليات تسعير الغاز الطبيعي المسال

هذه المشاريع مجتمعة لو تحققت كلها، يمكن أن تؤدي بالنهاية إلى وفرة عالمية من الغاز الطبيعي المسال بحلول نهاية هذا العقد؛ مما يشكِّل تحدِّيًا للنظام المرتبط بالنفط كأساس لتسعير الغاز الطبيعي المسال. ولعل ما جعل الأمور تبدو أكثر تعقيدًا تراجع أسعار النفط بشكل دراماتيكي منذ منتصف يونيو/حزيران 2014؛ حيث فقد البرميل الواحد حوالي 50 بالمائة من قيمته في غضون 6 أشهر فقط. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما علاقة النفط بأسعار الغاز الطبيعي المسال؟

وفقًا للأرقام التي أوردتها وكالة الطاقة الدولية أخيرًا، 71% من تجارة الغاز الطبيعي المسال العالمية تتم على أساس الارتباط بأسعار النفط مع بعض عقود الغاز الطبيعي المسال التي تتم على أساس التسليم الفوري وتتوجه إلى أميركا الشمالية وأوروبا أو حتى آسيا(30). وليس من المتوقع أن يتغير هذا الوضع كثيرًا في المديين القصير المتوسط، خصوصًا إذا أخذنا بعين الاعتبار أن معظم مشاريع الغاز الطبيعي المسال في أستراليا الجديدة تعتمد على المؤشر المرتبط بأسعار النفط. وتمثل هذه المشاريع ما يقرب من نصف القدرة الإنتاجية قيد الإنشاء (83 مليار متر مكعب سنويًّا أو أكثر من 61 مليون طن في السنة).

وفي حال استمرار هبوط أسعار النفط يمكن أن يؤدي ذلك إلى عدة تبعات؛ أولاً: يخفض بكل تأكيد فاتورة التكاليف بالنسبة للدول المستهلكة. ثانيًا: هذا التراجع في أسعار النفط قلب المعادلة للمشترين، حيث قد يؤدي إلى تراجع أسعار الغاز الطبيعي المسال خصوصًا في أسواق التسليم الفوري، كما أن الفوارق السعرية بين الأسواق باتت تتقلص، وفي حال استمرت أسعار النفط بالهبوط، ربما لن تصبح عقود الغاز المرتبط بمؤشر (هنري هب) الأميركي هي الأرخص أو الأكثر جاذبية. وأخيرًا، فقد أشعل احتمال انخفاض أسعار الغاز النقاش حول جدوى مشاريع الغاز الطبيعي المسال الجديدة المخطط لها في أستراليا والولايات المتحدة الأميركية ودول أخرى. ولعل هذا النقاش قد يزداد سخونة مع المزيد من الهبوط في أسعار النفط الخام(31).

ويضغط المستوردون في آسيا منذ سنوات لإنهاء الربط بين أسعار الغاز الطبيعي المسال والنفط. لكن التراجع الكبير والمفاجئ لأسعار النفط قلب كل الموازين؛ حيث دفع نحو تراجع كبير في أسعار الغاز المسال في أسواق التسليم الفوري (Spot Markets) وعزز التوقعات بتراجع أسعار العقود الأخرى. فبالفعل هناك توقعات بتراجع أسعار الغاز الطبيعي المسال في آسيا بنسبة تصل إلى 30 في المائة في عام 2015، نتيجة وفرة المعروض وتأثير انخفاض أسعار النفط(32). لا، بل إن تراجع أسعار النفط قد بدأ يعمل في الاتجاه الآخر؛ حيث بدأ المراقبون يدركون أن أسعار الولايات المتحدة الأميركية لن تكون هي الأرخص كما كان يعتقد البعض؛ الأمر الذي بدأ يقلِّل من رغبة المشترين في البحث عن آليات بديلة(33).

لكن الوضع بالنسبة للمصدِّرين يبدو على النقيض تمامًا؛ حيث أدى تراجع أسعار النفط إلى تردي الجدوى الاقتصادية لقطاع الغاز الطبيعي المسال، خصوصًا مع تنامي احتمالات تراجع كبير في الإيرادات المالية. والمشكلة الثانية تكمن في أن صناعة الغاز الطبيعي المسال تواجه مخاطر جديدة ومعقدة، مثل: ضبابية المستقبل، والتأخير في الإنجاز، والارتفاع في التكاليف، والنقص في المهارات المطلوبة، ولا يوجد هناك دلائل قوية على أن الوضع قد يتغير في المستقبل القريب(34). هذا فضلاً عن أن السياسة والعوامل الجيوسياسية لصادرات الغاز الطبيعي المسال تُضفي تعقيدات على القطاع، خاصة في الولايات المتحدة الأميركية، وأيضًا في أماكن أخرى مثل كندا وتنزانيا. وهناك توقعات بأن يتم تأجيل مشاريع للتنقيب عن النفط والغاز العالمية تبلغ قيمتها أكثر من 150 مليار دولار مع تراجع أسعار النفط وتزايد الشكوك حول جدواها الاقتصادية(35).

الاستراتيجيات القَطَرية للتعامل مع التغيرات

إن تزايد المنافسة المتوقعة خصوصًا من دول مثل أستراليا والولايات المتحدة الأميركية، ربما يكبح خطط قطر لمواصلة الاستثمار في بناء قدرات إنتاجية جديدة على الأقل في المديين القصير والمتوسط. لكن الوضع الحالي في قطاع الغاز الطبيعي المسال ربما يمنح الدوحة فرصة لالتقاط الأنفاس والتفكير بالخطوات القادمة. لذا يجري حاليًّا تركيز الاستثمار في قطاعات التكرير والبتروكيماويات، والعمل على تعظيم الإنتاج من حقول النفط الناضجة وسوائل الغاز. بينما يركز التنويع في صناعة النفط أكثر على البتروكيماويات وربما تحويل الغاز إلى سوائل (GTL). وقد تسعى قطر أيضًا إلى تنويع فرص تصدير الغاز الطبيعي لتشمل أسواقًا جديدة. هذا ويمكن زيادة القدرة الاستيعابية لخط الأنابيب الموجود في منطقة الخليج (الدلفين)، خلال السنوات المقبلة. وأخيرًا وليس آخرًا يمكن لدولة قطر من خلال فك الاختناقات تحسين الإنتاج وربما زيادته بشكل معتبر.

وفي ظل هذه التغيرات التي تلوح في الأفق بدأت دولة قطر بتغيير استراتيجية المبيعات عبر تقديم أسعار أقل من منافسيها من أجل الاحتفاظ بالزبائن الحاليين وكسب آخرين جدد. وبدأت الدوحة تقدم صفقات قصيرة الأجل (3 سنوات) إلى دول آسيا بأسعار تنافسية، كما لجأت إلى تخفيض أسعار الصفقات طويلة الأجل (20-25 سنة) للعملاء الآسيويين وبيعها بأسعار أقل من منافسيها خصوصًا أستراليا(36).

من ناحية أخرى، تبنَّت دولة قطر للتعامل مع المنافسة المتزايدة في أسواق الغاز الطبيعي المسال استراتيجية ما يسمى “شراء المنافسة”. ولعل مشروع غولدن باس للغاز الطبيعي المسال المشترك مع شركة إكسون موبيل في ولاية تكساس الأميركية، يمثل العمود الفقري في هذه الاستراتيجية؛ حيث تخطط دولة قطر من أجل تصدير الغاز إلى المملكة المتحدة؛ حيث تقوم بإعادة تحويله في محطة ساوث هوك، (التي تملك قطر الدولية للبترول حصة فيها)، وبيعه إلى المملكة المتحدة والعملاء الأوروبيين. ويُعتقد أن قيمة الاستثمار تصل إلى نحو 10 مليارات دولار، بسعة تصدير تقدر بنحو 15.6 مليون طن سنويًّا. وتملك قطر للبترول حصة 70% من المشروع، وفي حال البدء بتشغيله فسيزيد محفظة إمدادات قطر من الغاز الطبيعي المسال بنحو 11 مليون طن سنويًّا(37).

يتمثل المنطق القطري في هذه الصفقة ببساطة في أن مشروع الولايات المتحدة الأميركية سيصب في صالح خدمة زبائن قطر في ضفَّتي الأطلسي: أميركا وأوروبا، في حين أن الغاز الطبيعي المسال القطري يتحول إلى آسيا. الأهم من ذلك، مشروع تكساس –الذي يمكن توسيعه بسهولة نسبية- يوفر أيضًا لدولة قطر القدرة على زيادة كميات الغاز الطبيعي إذا ما أبقت على وقف تطوير حقل الشمال على المديين المتوسط والطويل(38). إنَّ التطورات الحاصلة حاليًا بأسعار النفط ربما تزيد تنافسية مشاريع أخرى في أميركا وأوروبا، لكنه يبقى منافسًا قويًّا للمشاريع الأسترالية من ناحية التكلفة، ومن المتوقع أن يتم اتخاذ قرار الاستثمار النهائي في عام 2015.

قامت دولة قطر أيضًا وعبر شركاتها العاملة بشراء حصص في شركات تعمل في مجالات الغاز الطبيعي المسال؛ فقد اشترت قطر للبترول الدولية، حصة 23% في مشروع شركة باركيه المياه داس كونشاس في المياه العميقة قبالة سواحل البرازيل بمليار دولار. ويمثل هذا أول استثمار قطري في قطاع النفط والغاز في أميركا الجنوبية. وهناك المزيد من الاستثمارات المتنوعة جغرافيًّا؛ ففي ديسمبر/كانون الأول 2013، أكملت قطر للبترول الدولية عملية شراء 15% من إجمالي أصول شركة توتال في جمهورية الكونغو(39)، كما استحوذت دولة قطر على حصص في رويال داتش شل وتوتال إس إي الفرنسية، وكلاهما تشغِّلان مشاريع للغاز الطبيعي المسال في جميع أنحاء العالم(40).

والأهم من ذلك، أن دولة قطر تنتج الغاز الطبيعي المسال بتكلفة رأسمالية أقل من جميع منافسيها، (انظر جدول 2). وعلاوة على ذلك، يتم تسليم الغاز الطبيعي المسال القطري في الوقت الراهن إلى أكثر من 23 سوقًا في أربع قارات، من خلال أسطول بحري ضخم يشتمل على 54 سفينة للغاز الطبيعي المسال، ويمثل نحو 20 في المائة من إجمالي أسطول الغاز الطبيعي المسال في العالم(41). ومن إجمالي تلك السفن هناك 29 مملوكة بالشراكة مع عدة شركات أجنبية، والـ 25 المتبقية، مملوكة حصرًا من قِبل شركة “ناقلات” القطرية. كما تعتزم دولة قطر توسيع أسطولها البحري المخصص لنقل الغاز الطبيعي المسال من خلال إضافة ناقلتين عملاقتين خلال الفترة القادمة(42). وهذه التطورات بالمحصلة تؤدي إلى زيادة تنافسية المنتجات القطرية من ناحية الأسعار والاستمرارية.

الجدول (2): التكلفة للأجل الطويل في مناطق مختلفة

البلد

دولار أميركي لكل مليون وحدة حرارية بريطانية

شمال أستراليا

4.2

غرب أستراليا

3.7

إندونيسيا

3.7

تنزانيا

3.6

روسيا

3.5

موزمبيق

3.3

بابوا
  غينيا الجديدة

2.6

غرب كندا

2.3

ماليزيا

1.8

قطر

1.3

المصدر: الحكومة الأسترالية، تقرير سوق الغاز، نوفمبر/تشرين
الثاني 2014

* ملاحظة: مليار متر مكعب = 0.74 طن.

خاتمة

وأخيرًا، يمكن القول إن المكثفات ربما تكون نقطة الضعف الرئيسية لقطر في ظل استمرار تراجع أسعار النفط العالمية. كما أن استمرار انخفاض أسعار النفط ربما يهدد استراتيجية الدوحة لتعزيز استقرار إنتاج النفط في ظل التكاليف الباهظة لبعض المشاريع خصوصًا البوحنين، بالرغم من أن الحكومة القطرية تقول إنها لا تزال عازمة على المضي قدمًا بالمشروع(43). والخلاصة، أنه مع أن التطورات الجديدة لا تشكِّل تهديدًا وجوديًّا لصناعة الغاز الطبيعي المسال في دولة قطر، إلَّا أنه قد ينبغي على الدوحة التأقلم مع إيرادات مالية أقل من مبيعات الغاز في ظل منافسة تحتدم مع مرور الوقت.

الهوامش
1– BP, (June 2014). Statistical Review of World Energy 2014
http://www.bp.com/en/global/corporate/about-bp/energy-economics/statistical-review-of-world-energy.html
2– International Gas Union, (October 2014). – World LNG Report – 2014 Edition.
http://www.igu.org/sites/default/files/node-page-field_file/IGU%20-%20World%20LNG%20Report%20-%202014%20Edition.pdf
3- مليون طن من الغاز الطبيعي المسال = مليار متر مكعب من الغاز
4- World LNG Report – 2014 Edition.
5- Keith Johnson, (October 21, 2014). The Looming Gas Glut. Foreign Policy
إضغط هنا.
6- World LNG Report – 2014 Edition.
7- المرجع السابق
8- المرجع السابق
9- International Group of Liquefied Natural Gas Importers, (April, 2014). The LNG Industry 2013. إضغط هنا.
10- المرجع السابق
11- World LNG Report – 2014 Edition.
12– EIA, (August 28, 2014). Australia Analysis Brief Overview
http://www.eia.gov/countries/cab.cfm?fips=AS
13- IEA, (September 1, 2014). The Asian Quest for LNG in a Globalising Market.
14- Financial Times, (November 23, 2014). Standoff threatens to stymie LNG development in Australia. إضغط هنا.
http://www.ft.com/cms/s/0/81827e705b8011e4a67400144feab7de
html#axzz3KDBKFsZ9
15- World LNG Report – 2014 Edition.
16– IEA, (September 1, 2014). The Asian Quest for LNG in a Globalising Market.
17- مهم لعمليات التكرير وصناعات البتروكيماويات
18- MEES, (September 19, 2014).Qatar Faces US Condensate Challenge. Vol.57 Issue: 38
19- يستخدم كوقود في أجهزة التدفئة، ومعدات الطهي، والمركبات.
20- Bassam Fattouh, (July 22, 2014). The US Shale Revolution and the changes in LPG Trade Dynamics:  A Threat to the GCC?
http://www.oxfordenergy.org/wpcms/wp-content/uploads/2014/07/The-US-Shale-Revolution-and-the-changes-in-LPG-Trading-Dynamics-A-Threat-to-the-GCC.pdf
21- تستخدم في المنشآت الصناعية والتجارية والمباني السكنية، والمركبات، وكذلك في قطاع الزراعة
22- OPEC, (November 2014). Annual Statistical Bulletin 2014.إضغط هنا.
23- MEES, (October 17, 2014). US Shale A Threat To Mideast Condensate, Despite Oil Price Slide. Vol. 57, Issue: 42
24– Citi GPS:, (November, 2014). Energy 2020: Out of America. إضغط هنا.
25- المرجع السابق
26- Al Troner, (October 7, 2014). Shale Gas and Tight Oil. The James A. Baker III Institute for Public Policy.
http://bakerinstitute.org/media/files/files/47ee20e6/Pub-CES-Troner-100714.pdf
27- The Asian Quest for LNG in a Globalising Market
28- World LNG Report – 2014 Edition.
29- المرجع السابق
30- The Asian Quest for LNG in a Globalising Market.
31– Financial Times,  (November 13, 2014). Oil’s dive set to transform LNG market
http://www.ft.com/cms/s/0/14a5df06-6af1-11e4-ae52-00144feabdc0.html#axzz3JGKMaXVT
32- Reuters, (December 10, 2014)Asian LNG prices seen falling by up to 30 pct in 2015
http://in.reuters.com/article/2014/12/10/asia-lng-idINL3N0TP35K20141210
33- MEES, (November 28, 2014). Qatar Looks Resilient To Lower Oil Prices Vol. 57 Issue: 48
34- Justin Jacobs, (November 2014). Falling oil prices cast shadow over global gas
business. Petroleum Economist
http://www.petroleum-economist.com/Article/3400192/Falling-oil-prices-cast-shadow-over-global-gas-business.html
35- Reuters, (December 5, 2014). More than $150 bln of oil projects face the axe in 2015.
http://uk.reuters.com/article/2014/12/05/uk-oil-investment-idUKKCN0JJ0D220141205
36– The Economist Intelligence Unit, (January 31, 2014). Qatar LNG changes tack to adjust to emerging reality.
http://country.eiu.com/article.aspx?articleid=1481488932&Country=Qatar&topic=Economy#
37- Business Monitor International, (July  23,  2014). Qatar Oil & Gas Report Q3 2014. London: BMI, p 39
38- MEES, Qatar Looks Resilient To Lower Oil Prices.
39- MEES, (January 31, 2014). Qatar Expands Overseas Ambitions With Brazil Deepwater Deal.
http://archives.mees.com/issues/1515/articles/51075
40- MEES, Qatar Looks Resilient To Lower Oil Prices.
41– US Department of State, (June 2014). 2014 Investment Climate Statement- Qatar.
http://www.state.gov/e/eb/rls/othr/ics/2014/230858.htm
42-The Economist Intelligence Unit, (February 5, 2014). Qatar to expand its LNG transportation fleet
http://country.eiu.com/Qatar/ArticleList/Updates
43- MEES, Qatar Looks Resilient To Lower Oil Prices.