أثار تأكيد الحكومة المصرية ملكية السعودية لجزيرتي تيران وصنافير في ذهني طبيعة مشكلات الحدود القائمة بين عدد من الدول العربية المتجاورة، نتيجة اختلاف الزمان والمكان وتداخل السكان. ومعروف أن مصر كانت قد تولت إدارة الجزيرتين الواقعتين في البحر الأحمر قرب خليج العقبة، بطلب سعودي بسبب ظروف الحرب مع إسرائيل ثم مفاوضات السلام معها أيضاً. ولذلك رأيت أن أستعرض هنا أبرز الخلافات الحدودية المطروحة على الساحة العربية.
أولاً: ستظل مسألة الحدود بين الدولتين المغاربيتين الشقيقتين الجزائر والمغرب من النماذج الكلاسيكية لمشكلات الحدود وما يترتب عليها وما يندرج تحتها. وما زلت أتذكر شخصياً أن الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك كان يحكي عن تجربته الأولى فور توليه منصب نائب رئيس الجمهورية عام 1975 ودوره في ديبلوماسية المصالحة والانتقال يومياً بين الجزائر والمغرب وكان في صحبته الديبلوماسي المصري المخضرم أسامة الباز، المستشار السياسي للرئاسة. وما زالت المشكلة قائمة حتى الآن ولم تجد طريقها إلى الحل رغم تداخل الأصول السكانية والعلاقات القبلية والعائلات المشتركة. ولا شك في أن مشكلة الصحراء الغربية هي واحدة من الملفات الأساسية التي حكمت العلاقات بين البلدين الشقيقين وأثَّرت في سياسة المغرب الأفريقية وفي النشاط الجزائري المتواصل في أنحاء القارة. ولم تتمكن الدولتان من حل مشكلتهما عبر المنظمات الثلاث المهمة التي تشتركان في عضويتها وهي الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي.
ثانياً: تلعب مشكلة حلايب وشلاتين دوراً مؤسفاً في مسار العلاقة بين مصر والسودان، إذ إن وزير الداخلية المصري في مطلع القرن العشرين قرر السماح للسلطات السودانية بالدخول والخروج من منطقة حلايب المصرية والتي تقع شمال خط 22 الذي يعتبر خط الحدود الجنوبية للدولة المصرية منذ بدأت ملامح الخريطة المصرية توجد بصورتها النهائية. وكان قرار وزير الداخلية المصري محكوماً بالرغبة في تمكين الأشقاء في السودان من مكافحة الملاريا ومحاربة أفواج الجراد، فتمّ التعرج في خط 22 داخل حدود الدولتين تحت ما يسمى «الحدود الإدارية» ولم يكن هناك توجه لأبدية تلك الحدود إلى أن تمّت إثارة المسألة بعد استقلال السودان مباشرة وأصبحت شأناً سودانياً وطنياً تستخدمه الحكومات المتعاقبة بدءاً من عبدالله خليل وإبراهيم عبود وصولاً إلى حكومة ثورة الإنقاذ في ظل حكم الفريق عمر البشير، حتى أصبحت مسألة حلايب وشلاتين بنداً تعيد حكومة الخرطوم وضعه على أجندة الأمم المتحدة سنوياً. وكلما أجريت انتخابات في أي من البلدين سارع كل منهما الى إجرائها تحت مظلته في ما هو متاح له من أرض تلك المنطقة. ورغم العلاقات التاريخية الوثيقة بين الدولتين التوأم مصر والسودان، إلا أن مشكلة الحدود بينهما تؤرق الطرفين، بينما ترفض مصر تدويل المشكلات وطرحها على محكمة العدل الدولية في لاهاي انطلاقاً من إيمانها بأنه (لا تحكيم على سيادة) وأصبح أبناء وادي النيل في الشمال والجنوب يتندرون بهذه المشكلة قائلين: حبايب أم حلايب؟!
ثالثاً: لا شك في أن الحدود اليمنية – السعودية قد عرفت هي الأخرى قدراً من التداخل القبلي خصوصاً في منطقتي نجران وجيزان وحكمت تلك الحدود اتفاقية بين الدولتين تم توقيعها في منتصف ثلاثينات القرن الماضي على عهد الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود. ثم أثيرت مشكلة الحدود اليمنية – السعودية عدة مرات بعد ذلك ربما كان آخرها على عهد الملك فهد بن عبدالعزيز إلى أن استقرت بشكلها الأخير ولم تعد هناك مشكلة حدود بين الدولتين وإن بقيت رواسب الجوار المشترك – سلباً وإيجاباً – شأن الحدود المشتركة بين الدول العربية الأخرى.
رابعاً: ظلت مشكلة الحدود بين الدولتين الشقيقتين قطر والبحرين في منطقة الخليج العربي معلَّقة لسنوات عدة إلى أن وافق الطرفان على قبول ولاية محكمة العدل الدولية التي حسمت النزاع وأصدرت رأيها الذي قبله الطرفان كنهاية للمشكلة المعلقة بينهما. والملاحظ هنا أن مشكلة الحدود بين البلدين كانت تدور حول جزر بحرية مثلما\ هو الأمر بين اليمن وإريتريا في مرحلة أخرى. فمشكلات الحدود لا تقف عند سطح الأرض، أي الحدود البرية، ولكنها تظهر أكثر على سطح المياه في الحدود البحرية.
خامساً: هناك مشكلات حدود فرعية تكاد تكون منسية ولا تثور إلا في ظروف معينة، منها على سبيل المثل واحة جغبوب على الحدود المصرية – الليبية والتي وافق الملك فؤاد على التنازل عنها في ظل اتصالات بريطانية وإيطالية. وكان أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي المصري وصاحب الشخصية الأسطورية في عصر الملكين فؤاد وفاروق هو من وقف وراء اكتشاف هذه الواحة، فقد كان رحالة جغرافياً مرموقاً يرتاد الصحراء ويبحث في الكشوف الجغرافية، كما كان بطلاً في لعبة السلاح «الشيش». ولعلنا لا ننسى بهذه المناسبة لواء الإسكندرون الذي اقتطعه الأتراك من الأرض السورية حتى اليوم. وقِس على ذلك عشرات الأمثلة لمآسي الحدود المشتركة بين الدول المختلفة في منطقة الشرق الأوسط. ويجب ألا يغيب عن وعينا، بعد هذه الملاحظات، أن مشكلات الحدود هي من أسباب التوترات الدائمة والحروب الكبرى، وليس مثال إقليم الألزاس واللورين بين ألمانيا وفرنسا ودوره في مسار الحرب العالمية الثانية، إلا نموذجاً لذلك. كما أن الحرب الهندية الصينية، وقد كانت حرب حدود، ليست بعيدة عن الذاكرة المعاصرة. وهناك نماذج وأمثلة لعشرات الحالات من الحروب بين الجيران على خريطة العالم.
لذلك جاءت استعادة السعودية جزيرتي تيران وصنافير، في إطار ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، لتكون تأكيداً لهذا المعنى. فالقانونيون والمؤرخون يقفون في جانب الحق السعودي، بينما تحاول بعض الجماعات السياسية التشكيك في أحقية المملكة، على اعتبار أن مصر هي التي حررتهما بالحرب والسلام وبالدم والمفاوضات. ويرى البعض أيضاً أن الجزيرتين ظهرتا داخل الحدود المصرية في مرفقات اتفاقية لندن 1840 التي نظمت حكم مصر لمحمد علي وأولاده. كما أن تعيين الحدود بين مصر وتركيا في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) 1906 لا يبدو واضحاً، فضلاً عن عدم ممارسة السعودية مظاهر السيادة على الجزيرتين حتى وافق العاهل السعودي الملك عبدالعزيز على تسليمهما وديعة للإدارة المصرية في ظل ظروف المواجهة مع إسرائيل عام 1950. ولكن غياب مظاهر السيادة السعودية لا ينفي تبعية الجزيرتين لها، ولقد أبرق سفير الولايات المتحدة في القاهرة إلى وزير خارجيته في 30 كانون الثاني (يناير) 1950 مشيراً إلى حيازة الحكومة المصرية جزيرتي تيران وصنافير بموافقة الحكومة السعودية. ونشطت ديبلوماسية الرياض في العقود الأخيرة عبر رسائل رسمية إلى الخارجية المصرية حول موضوع الجزيرتين وذلك في 14 أيلول (سبتمبر) 1988 و6 آب (أغسطس) 1989. كما أن القرار الجمهوري المصري رقم (27) لسنة 1990 في شأن نقاط الحدود المصرية على ساحلي البحر المتوسط والبحر الأحمر لم يتضمن الجزيرتين ضمن السيادة المصرية، وهو القرار المنشور في الجريدة الرسمية المصرية يوم 18 كانون الثاني (يناير) 1990. فالشواهد كلها تشير إلى أن الجزيرتين سعوديتان، ولكن الرأي العام المصري كان غائباً عن هذه التطورات، ولم يتم التمهيد له بالحقائق المرتبطة بملكية الجزيرتين، فضلاً عن أن توقيع الاتفاق بين الحكومتين السعودية والمصرية في شأنهما تمَّ أثناء الزيارة التاريخية للملك سلمان بن عبدالعزيز إلى مصر.
ويبدو حرص المصريين واضحاً على الحفاظ على قوة الدفع الجديدة في العلاقات بين القاهرة والرياض، كما أن إسرائيل على الطرف الآخر تراقب الأمر عن كثب ويسيل لعابها للتعامل المباشر مع السعودية بحكم الحدود المشتركة بين الدولتين. وهو أمر تطلعت إليه إسرائيل طويلاً خصوصاً مع وجود القوات الدولية ومحطة إنذار مبكر لإسرائيل هناك ،لأن الجزيرتين تقعان في المنطقة الثالثة وفقاً لاتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل والموقعة في 26 آذار (مارس) 1979.
إن الأمر في النهاية يؤكد أن خلافات الحدود العربية قابلة للحل بالاحتكام إلى التاريخ والقانون والوثائق الثابتة، وفي ظل إطار قومي تسوده الروح العربية التي تجمع الأشقاء ولا تؤدي إلى العداء.
د . مصطفى الفقي
*نقلا عن صحيفة الحياة