في الوقت الذي تشكل فيه الهجمات التي طالت بروكسل تذكيراً مأساوياً بطموحات تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش»)، لا يزال يتعين علينا أن نفهم جوهر أيديولوجية التنظيم في الوقت الحالي. فقبل أيام فقط من المأساة التي وقعت في العاصمة الفرنسية، داهمت السلطات البلجيكية منزل الجزائري محمد بلقايد الذي ارتبط بهجمات باريس. ومن بين الأدوات التي كانت بحوزته وجدت السلطات سلاح كلاشينكوف، وعَلَماً لتنظيم «داعش» وكتاب عن السلفية. وأظهرت هذه الحادثة وهذه العناصر مجتمعة بشكل صارخ النقاش الدائر في أوروبا والولايات المتحدة حول الطبيعة الدقيقة للكيفية التي أدت بها هذه العناصر الثلاثة، وعلى نحو أدق الأسلحة المادية والرمزية والفكرية في ترسانة بلقايد، إلى دفعه وآخرين للقيام بأنشطة عنيفة.
وفي حين كان العاملان الأولان [أداة رئيسة] من أدوات الحرب، فإن تصنيف العامل الثالث أصعب بكثير. وهنا نصل إلى المشكلة الأساسية القائمة على تحليل الأفكار وتأثيرها، خصوصاً تلك التي قد تكون طائفية إلى حد كبير أو غير متسامحة أو حتى متطرفة وفقاً للمعايير الليبرالية، ولكنها ليست عنيفة بحد ذاتها. ومع ذلك، فإن السلفية، التي هي نظرة دينية وشرعية سنيّة تقوم على مفاهيم ونصوص من سنوات الإسلام الأولى، كانت قيد التداول لعدة قرون. ويعيش الكثير من أتباعها حياة متكاملة وغير عنيفة في جميع أنحاء العالم، وهذا يعني أنها وحدها لا تثير العنف بالضرورة. بالإضافة إلى ذلك، وكما كتب برنارد لويس في كتابه «يهود الإسلام»: “بالنسبة للمسيحيين والمسلمين على حد سواء، التسامح فضيلة جديدة والتعصب جريمة جديدة. في الجزء الأكبر من تاريخ المجتمعين، لم يتم تقدير التسامح ولم تتم إدانة التعصب”. وفي إطار العقيدة الدينية كتب: “كيف يمكن للمرء أن يمنح المعاملة نفسها لأولئك الذين يتبعون العقيدة الصحيحة وأولئك الذين يرفضونها عمداً؟ ففي ذلك هُراء إن على الصعيد الديني أو المنطقي”.
وتكمن هذه المعضلة التحليلية في جوهر النقاش العام حول الجذور الأيديولوجية لـ تنظيم «الدولة الإسلامية»، والمناقشات السياسة العامة حول كيفية مكافحة التطرف العنيف والحد من جاذبية التنظيم. وعلى عكس المواجهات السابقة مع أيديولوجيات معادية، نواجه هنا تقليداً إلهياً معادياً بحكم كونه دينياً. ومع ذلك يتمحور هذا التقليد في صميم مزاعم تنظيم «داعش» بالأصالة التاريخية والنصية، وبالتالي يشكل محركاً رئيسياً لجاذبية التنظيم.
إن ذلك يجعل أيضاً توجيه أصابع الاتهام إلى الأسباب الجذرية عملية مثيرة للجدل وتنطوي على مشاكل. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل المملكة العربية السعودية “والد تنظيم «الدولة الإسلامية»”، كما وصفها الصحفي الجزائري كمال داود في أعقاب هجمات باريس، ملمحاً إلى أن المملكة “تعتمد على تحالف مع مرجعيات دينية تنتج الوهابية وتضفي عليها الشرعية وتنشرها وتعظ الناس بها وتدافع عنها، مع الإشارة إلى أن الوهابية هي صبغة متشددة من الإسلام يقتات عليها تنظيم «داعش»؟ إذا كان الأمر كذلك، لماذا يُدين رجال الدين الوهابيون، الذين يتشاركون نسخة من الفكر السلفي، تنظيم «الدولة الإسلامية»؟ ولماذا تشكل المملكة العربية السعودية بحد ذاتها هدفاً للتنظيم؟
من جهة ثانية، تَعتبر تحليلات أخرى أن نسخة السلفية القائمة على اللاعنف هي علاج محتمل لمسألة تنظيم «داعش» والجهادية بشكل عام، لأنها تحرّم الانخراط في العنف أو في السياسة. بيد، هذه أيضاً غير دقيقة، ولا تأخذ بعين الاعتبار تسييس السلفيين الذين لا يعتمدون العنف، كما حدث في مصر وتونس خلال السنوات الخمس الأخيرة – أو، حتى دفْعْ السلفيين الغير عنيفين إلى الجهاد، كما يمكن للمرء أن يصف ظاهرة المقاتلين الأجانب إلى حد ما.
ومع ذلك، تشكل السلفية العنصر الرئيسي في نجاح تنظيم «الدولة الإسلامية»، ونجاح الجهاد العالمي (ومن هنا الاسم البديل لهذا الجهاد: الجهادية السلفية). وقد تم بالفعل دعمها من السخاء السعودي في خلال القرن العشرين، والذي توسع ليشمل دعم المؤسسات التعليمية وأنشطة النشر.
ومن أجل فهم قوة الأفكار، لا سيما تلك الدينية التي تروج لها الجماعات الجهادية السلفية مثل تنظيم «داعش»، لا بد للمرء من أن يفهم النظام البيئي الذي تزدهر فيه. فقد تطورت السلفية، على وجه التحديد، لتصبح حركة اجتماعية في الشرق الأوسط في وقت كان فيه الإسلام السياسي الأيديولوجية السياسية المهيمنة، عندما كانت دول الخليج تتمتع بإمكانيات دعم مشاريعها وعندما صادقت الأسباب السياسية على صحة التفسير الديني للأحداث التي تروج لها، مثل القمع السوفيتي الملحد للمسلمين الأفغان، وهو عامل خطابي رئيسي محرّك للظاهرة الأفغانية العربية التي غذت عملية إنشاء تنظيم «القاعدة». وبالنسبة إلى المجتمعات المحلية داخل الشرق الأوسط وخارجه على حد سواء، تؤكد نسبة كبيرة من الاضطرابات الحالية في الشرق الأوسط على سرد طائفي للغاية تسعى فيه القوى الشيعية (الأسد وإيران) إلى فرض هيمنتها على المنطقة، وتسّهل فيه الولايات المتحدة جهود هذه القوى ويعتزم فيه مشروع سنّي خالص إنشاء مدينة فاضلة في وسطها.
ولا يتوقف نجاح أي جهد لطرح قوة الأفكار السلفية كإشكالية، على جهودنا في تحدي المزاعم الدينية لـ تنظيم «داعش» من خلال الخطابات كما حاول القادة الغربيون أن يفعلوا في السنوات الأخيرة، بل على إبراز قوة أفكارنا الخاصة من خلال السيطرة على النظام البيئي السياسي العسكري، بحيث لا يُنظر إلى مشروع تنظيم «الدولة الإسلامية» على أنه عبارة عن مذهب سلفي سنيّ يقابل الواقعية، بل على أنه استغلال مدمر للشعب والتقاليد والأفكار. وبالتالي، فإن الطريقة للقيام بذلك هي تغيير السيناريو الحالي بدلاً من دحض الرسالة التي تُنشر. وبشكل أدق، يجب أن نستمر في تمكين الأصوات الإسلامية “المعتدلة”. ولكن علينا أن نفعل ذلك لأن هذا مشروع حيوي وفقاً لمعطياته الخاصة. ولا نستطيع أن نخدع أنفسنا بالاعتقاد بأننا “سنكافح” جاذبية تنظيم «داعش» من خلال تمكين “المعتدلين” فقط. ولتحقيق هذا الغرض، يجب علينا إشراك العراقيين والسوريين والأكراد من جميع الاتجاهات العقائدية على أرض الواقع، وذلك ليس لمكافحة تنظيم «الدولة الإسلامية» فحسب، وهو ما قد يزيد من جرأة مقاتلي «داعش»، بل أيضاً لإعادة بناء بلدانهم. وعبر القيام بذلك، والإظهار للعالم بأن هذه الخطوات تحقق أهدافاً نبيلة، سنظهر لمجندي تنظيم «الدولة الإسلامية» المحتملين أن السرد الطائفي للتنظيم ليس الوسيلة لاستعادة طريقة حياة سابقة وإعادتها من جديد.
يعقوب أوليدروت
معهد واشنطن