عندما استخدمت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة «كوندوليزا رايس» عبارة «الفوضى الخلاقة» بخصوص أوضاع المنطقة أسالت حبراً غزيراً، وذهب الكثيرون إلى أنها مقولة معزولة في الفكر الاستراتيجي الأميركي ومن تأثيرات مدرسة «المحافظين الجدد»، التي كان لها واسع التأثير يومئذ.
كثيرون رجعوا اليوم إلى تذكر مقولة «رايس» بعدما دخل العالم العربي مرحلة حقيقية من الفوضى، الخلاف قائم حول من يعتقد أنها من تدبير الاستراتيجيات الأميركية، ومن يرى أنها من آثار أخطاء هذه الاستراتيجيات، خصوصاً منذ حرب العراق عام 2003 ونمط التعامل مع أحداث «الربيع العربي».
ما نريد أن نبينه هو أن مفهوم «الفوضى الخلاقة» متجذر في الفكر الديني والسياسي الأميركي، وله روافده المتعددة، بداية من الأدبيات الإنجيلية التي تكرس عقيدة الخلق من فوضى (اختار الرب الفوضى لخلق العالم ). ولقد نفذت المقولة إلى الفكر الاقتصادي من خلال نظرية «التدمير الخلاق»، التي بلورها عالم الاقتصاد «جوزف شومبتر» لوصف حركية الرأسمالية، وتبناها المفكر السياسي المعروف «صمويل هنتجتون» في نظريته حول «فجوة الاستقرار»، التي اعتبر فيها أن البلدان التي لا تتمتع بمؤسسات ديمقراطية مستقرة قادرة على امتصاص التحولات الاجتماعية، تمر حتماً بفوضى كاملة تتلوها إجراءات الهندسة السياسية الجديدة لبناء الدولة وإقامة مؤسساتها.
المعروف «صمويل هنتجتون» في نظريته حول «فجوة الاستقرار»، التي اعتبر فيها أن البلدان التي لا تتمتع بمؤسسات ديمقراطية مستقرة قادرة على امتصاص التحولات الاجتماعية، تمر حتماً بفوضى كاملة تتلوها إجراءات الهندسة السياسية الجديدة لبناء الدولة وإقامة مؤسساتها.
بيد أن أول من بلور النظرية في دلالاتها الاستراتيجية الجديدة هو «ميخائيل ليدن» أحد الكتاب الرئيسيين في مجلة «ناشيونال رفيو» المحافظة والمقربين من الرئيس السابق بوش الابن. لقد اعتبر «ليدن» أن «التدمير الخلاق»، هو الفضيلة الأميركية الكبرى، وطالب بتمرير هذا النموذج إلى منطقة الشرق الأوسط لقلب أوضاعها من أجل هدفين مزدوجين مترابطين هما: القضاء على الإرهاب ونشر الديمقراطية، واقترح البدء بالعراق وإيران وسوريا. ولم تكن أطروحة «ليدن» معزولة في الأدبيات الاستراتيجية الأميركية، بل نفذت إلى قطاع واسع من الحقل السياسي بما فيه الحزب «الديمقراطي» نفسه، الذي تولى مقاليد الحكم بعد مرحلة سيطر فيها «اليمين» المحافظ. وعلى الرغم من التغير الكبير في نغمة الخطاب السياسي بعد وصول أوباما للسلطة، إلا أن الموقف لم يتغير في الجوهر، وانما انتقلت استراتيجية تصدير الديمقراطية من فكرة الفوضى الخلاقة عن طريق التدخل العسكري (الذي فشل في تحقيق النتائج المرجوة منه)، إلى فكرة تصدير الديمقراطية عن طريق دعم الوكلاء المحليين المستفيدين من التغيير بما يعني التخلي عن الأنظمة الحليفة التي تتعرض لنقمة الاحتجاجية.
يفضي هذا التغيير في الاستراتيجية الأميركية في المنطقة إلى تحولين مهمين هما: الاعتماد على القوى الاحتجاجية الداخلية لإحداث الفوضى المطلوبة والاعتماد على وكلاء إقليميين من خارج المنطقة لضبط الفوضى القائمة (الدور التركي والانفتاح المتزايد على إيران). ومع استفحال خطر الارهاب في المنطقة نتيجة للأخطاء الفظيعة التي ارتكبت في إدارة الملفين العراقي والسوري، لا يبدو أن الاستراتيجية الأميركية قد تمت مراجعتها، بل إن كل المؤشرات تدل على أن فكرة الارتباط العضوي بين الإرهاب وغياب الديمقراطية لا تزال تشكل جوهر الرؤية الأميركية لأزمات المنطقة. والمعروف أن الرئيس أوباما متأثر بفكرة «السلام الأبدي» الكانطية التي تنطلق من مبدأ ضمان السلم بين الأمم عن طريق التماثل في الخيار الديمقراطي (المجتمعات الديمقراطية لا تتحارب في ما بينها)، ولذا يرتكب الخطأ نفسه الذي ارتكب كل الثوريين من ثوار فرنسا 1789 بتحويل هدف «تحرير الشعوب» إلى طريق لتقويض توازناتها الذاتية، في الوقت الذي يتحول التدخل إلى قيد إضافي على حريات الناس .
عندما دخل الإمبراطور نابليون بونابرت القاهرة 1798 خاطب المصريين قائلاً : «إننا نحمل الحرية لشعب لا يمكنه رفضها»، وما حصل فعلاً هو أن الشعب المصري، وجد في الحملة غزواً استعمارياً ولّد الوعي الوطني الحديث، دون أن يرى فيه تحريراً لإرادته السياسية، الخطر نفسه قائم اليوم بأن يكون التدخل لتصدير الديمقراطية عائقاً للتحول الديمقراطي، بما يخلقه من فوضى تضعف التعلق بقيم الانفتاح والتعددية، وتحول الهدف المنشود من الحرية السياسية إلى الاستقرار والأمن وانتشال الدولة من التفكك.
نقلا عن صحيفة الاتحاد الاماراتية
د. السيد ولد اباه