لا تبدو أجواء ومظاهر الأزمة السياسية الراهنة في العراق بالمستجدة على المشهد السياسي، لكن جوهرها وتداعياتها قد تفرض ما هو جديد، فالحديث عن ضرورة الإصلاح السياسي في البلاد ومواجهة الفساد الاقتصادي في ظل تردي الأوضاع الأمنية والاقتصادية هو حديث ممتد خلال المراحل السياسية التي تعاقبت عليها حكومات متعددة في فترة ما بعد سقوط نظام صدام حسين، غير أن الآليات المطروحة لحل الأزمة تبدو كتصور للتعامل مع تراكمات المسار السياسي الشامل في العراق جذريًّا على مستوى بنيته وهياكله، ومن ثم فإن تداعيات الأزمة هذه المرة من المرتقب أن تفرض تحولا فارقًا في هذا المسار ربما يُعيد ترسيم خريطة النفوذ السياسي للقوى المختلفة.
خلفية سياسية:
توافقت الأزمة السياسية الراهنة في العراق مع بروز مطالبات سياسية وجماهيرية متصاعدة بضرورة إجراء إصلاحات جذرية، بعد فشل حكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي في الاضطلاع بمهمة التغيير والإصلاح، فضلا عن تنامي ملف الفساد؛ إذ أصبح العراق ضمن قائمة الدول العشر الأكثر فسادًا في العالم وفقًا لأحدث تقرير صادر عن منظمة الشفافية الدولية، بالإضافة إلى تمدد تنظيم “داعش” في الشمال، بيد أن رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي لم يتمكن هو الآخر من القيام بتلك الإصلاحات الاقتصادية، كما أن نجاحاته في المواجهة مع تنظيم “داعش” بدت محدودة مقارنة بحضوره على الساحة.
وقد قام العبادي بطرح رؤيته للإصلاح السياسي والاقتصادي في البلاد عبر حزمة من القرارات التي حظيت بتوافق أولي بين الرئاسات الثلاث (الحكومة، والبرلمان، والجمهورية)، لكنها اصطدمت مع المكونات السياسات الفاعلة في مستوييها السياسي والديني في البرلمان وبعض رجال الدين الشيعة، وأبرز أوجه الصدام جاء على خلفية المبدأ الرئيسي الذي ينطلق منه العبادي والفريق المؤيد له، وهو إنهاء سياسة “المحاصصة”، وقد بادر إلى تنفيذ ذلك عمليًّا عبر طرح تشكيلة الحكومة الجديدة من التكنوقراط، وهو ما اعتبره البرلمان، الذي يعول عليه في منحها الصلاحية الدستورية، محاولة للانقلاب على القواعد السياسية المستقرة والتقاليد المتبعة في تشكيل الحكومات عبر بوابة المرجعيات الدينية وواجهاتها السياسية من الأحزاب، ودخل العديد من النواب في اعتصام داخل مقر البرلمان، ولجأت كتل نيابية معارضة لتوجه العبادي إلى خطوة مطعون في شرعيتها بإقالة رئيس البرلمان سليم الجبوري، وأعلنوا استعدادهم للقيام بإقالة رئيس الحكومة أيضًا، بل إن بعض الكتل ربما تبنت عملية إقالة الرئاسات الثلاث، إلا أنها تخوفت من حالة فراغ دستوري في البلاد، كما أن خطوة إقالة رئيس الجمهورية تبدو صعبة في هذا الطرح، إذ يقتضي الأمر قرارًا من المحكمة الاتحادية وفقًا لإجراءات معقدة.
توازنات جديدة:
أعادت الأحداث للمرة الثانية نوري المالكي -رئيس الحكومة السابق- إلى واجهة المشهد السياسي بشكل بدا فيه مبالغة كبيرة من أنصاره في فرضه على العملية السياسية مجددًا، أو طرح شخص مقرب منه لقيادة العملية السياسية، أو كبديل للعبادي في رئاسة الحكومة، ويهدف الأمر إلى التكريس لاستمرار سياسة “المحاصصة” الطائفية والعرقية، بيد أن الصدام الذي اندلع بين المالكي ورجل الدين الشيعي مقتدى الصدر كشف -من جانب آخر- مدى القرب أو البعد عن المرجعية الإيرانية والمرجعية العربية، والمشروعات والمصالح السياسية لدى رجال الدين، وحجم نفوذهم داخل المجتمع.
فبينما أيد المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني موقف الصدر ضمنيًّا عندما أصدر مكتبه بيانًا وصفه فيه بـ”القيادي العربي” بما يعني الاقتراب من المرجعية العراقية العربية، وقف رجال دين آخرون خلف قوى سياسية مناوئة لهذا التوجه واصطفوا إلى جانب المالكي رئيس حزب “الدعوة”، مثل عمار الحكيم رئيس “المجلس الأعلى الإسلامي” الذي اعتبر أن “العبادي جاء كرئيس للحكومة بالتوافق على القاعدة السياسية ذاتها التي يريد الانقلاب عليها الآن”.
تشابكات خارجية:
كشفت الأزمة الراهنة أيضًا عن محاولات إعادة نظر بعض الكتل السياسية والدينية في حجم النفوذ الإيراني في البلاد، مع تطلع البعض منها إلى تقليصه، فبينما تتصاعد وتيرة الأزمة ظهر على مسرح الأحداث قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني في مهمة رسمية للتعامل مع تطورات المشهد في العراق، ووفقًا لتقارير عراقية فإن السيستاني رفض استقبال سليماني في النجف، بينما حاول الأخير استدعاء الصدر إلى هناك، لكنه رفض، متعللا بأنه موجود في بغداد، ولا يبدو أن هناك خلافًا على دعم إيران لحكومة العبادي، لكنها على الجانب الآخر ربما ترفض مبادرته، وهي أيضًا تدعم بقاء الجبوري رئيسًا للبرلمان، لكنها ليست مع خطة الصدر وحزبه في البرلمان، ومساعي أطراف من كتل نيابية إلى استطلاع رأي السيستاني.
كما تبدو واشنطن أكثر انحيازًا في المرحلة الحالية في العراق إلى الإبقاء على العبادي، مع تأييد تشكيل حكومة تكنوقراط، وإن كانت متعجلة في عملية تشكيل الحكومة، كونها تعطي الأولوية للعمل العسكري، حيث الاستعداد لعملية الموصل الكبرى التي تُعد المركز الرئيسي لتنظيم “داعش” في العراق، وهو السياق الذي بدت نتائجه في زيارة وزير الخارجية جون كيري والدفاع أشتون كارتر إلى العراق.
دلالات عديدة:
لكن يمكن القول إن ما يجري من حراك في العراق رغم حدة التجاذبات والاستقطابات يهدف لإعادة الاصطفاف الطائفي في المسار السياسي، وهو ما كانت له تجلياته الواضحة في التحركات على الساحة، إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن هذا الحراك كان له أيضًا تداعياته الإيجابية في التعاطي مع أحد الثوابت العراقية، وهو سياسة “المحاصصة” السياسية الطائفية والعرقية، كما كشف عن العديد من الملاحظات التي ترتبط بمعالجة الأطراف للأزمة، ومنها:
1- استغلال الأزمة في تغيير الواقع السياسي: استغل نوري المالكي الأزمة لإعادة طرح نفسه مجددًا على الساحة كبديل محتمل، متبنيًا سياسة الحفاظ على المسار التقليدي لسياسة المحاصصة، وهو المسار الذي تُرجحه الأغلبية المؤثرة في القرار السياسي.
2- الافتقار للأسس السياسية للتعاطي مع الأزمة: انصب طرح العبادي لمعالجة الأزمة الاقتصادية وملف الفساد على رؤيته في إجراء تغيير حكومي دون تفعيل دور مؤسسات الرقابة والشفافية والنزاهة والقضاء في التعامل مع الفساد.
3- خلل في بنية وهيكل النظام السياسي: فرض حصاد سياسة “المحاصصة” الطائفية على مدار الأعوام الثلاثة عشر الماضية الإشكاليات الراهنة على الساحة، لكن الانقلاب على تلك القاعدة لن يجد حاضنة سياسية كافية لتبنيه، فمن الناحية العملية لا إمكانية لتشكيل حكومة تكنوقراط، فحتى من طُرحوا ضمن التشكيل الحكومي الجديد انسحب بعضهم إثر ضغوط كتلهم السياسية أو مرجعياتهم الدينية، كما أن إلغاء “المحاصصة السياسية” التي أصبحت الصيغة الأساسية لتوزيع المناصب والوظائف الكبرى في البلاد من الصعب حدوثه بشكل مفاجئ ودون تدرج يسمح أولا باختباره ثم التعرف على مدى مقبوليته ونجاحه من عدمه.
ومن دون شك، فإن مجمل ما سبق يطرح مسارات أساسية ثلاثة لمدى إمكانية إحداث تغيير جذري في مسار العملية السياسية بناء على التطورات السياسية الراهنة، وتتمثل في:
1- التحايل على طرح العبادي: بمعنى تشكيل حكومة من التكنوقراط تمر عبر قناة الأحزاب ورجال الدين، إذ إن طرح العبادي واستبعاد دعوة إلغاء سياسة “المحاصصة”، سيعمق من الأزمة الراهنة بالإبقاء على حالة الانقسام السياسي والديني، إلا أنه سينحي جانبًا عملية الإطاحة بأي من رئيسي البرلمان أو الحكومة.
2- استمرار الأزمة وامتدادها إلى مواقع أخرى: خاصة في ضوء سعى أطراف عديدة إلى تصعيد حدة الأزمة بين رجال الدين والسياسة لتوظيفها لصالحهم، لا سيما بعد أن امتدت الأزمة من رئاسة الحكومة إلى رئاسة البرلمان؛ حيث هناك إصرار على الإطاحة برئيس البرلمان، وهو الأمر الذي ستكون له تداعياته على تماسك البرلمان وربما حله والذهاب لانتخابات مبكرة، لكن من المتصور أن ترحيل الأزمة برمتها إلى المرجعية الدينية المتمثلة في السيستاني ربما يشكل المحطة التي قد تُعطل هذا التوجه مؤقتًا، لكنها لن تُنهي الأزمة، خاصةً أن هناك، إلى حد كبير، توازنًا قويًا بين المؤيدين والمعارضين للخطوات المطروحة، ومن ثم ينتظر الأمر اختراقًا يُغيّر من طبيعة هذه الموازين.
3- الهروب من الأزمة إلى المواجهة مع “داعش”: وهو سيناريو قد يكون مؤقتًا في ظل تفاقم الأوضاع في الفلوجة من جهة، وأيضًا قرب انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما من جهة أخرى، وهو ما يجعل الأطراف المختلفة تترقب الإدارة القادمة بالنظر إلى مدى الفاعلية الأمريكية في المشهد العراقي، ومدى علاقة الإدارة القادمة بإيران، وقدرتها على تسوية الأزمة، وبالتالي سيكون البديل هو الانصراف إلى العمل العسكري لمواجهة “داعش” في الفلوجة القريبة من بغداد من جهة، وإعلان الاستعداد لخوض معركة الموصل من جهة أخرى لصرف الأنظار عن المعترك السياسي إلى معترك “داعش”.
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية