يشعر حلفاء أميركا في الشرق الأوسط -العرب السنة، وكذلك إسرائيل- بالقلق من أن الولايات المتحدة تنسحب وتخلف خلفها فراغاً سيملؤه المتطرفون الجهاديون أو إيران الشيعية. وهم محقون في الشعور بالقلق. فمصالح الولايات المتحدة في المنطقة تتراجع من وجهة نظر واشنطن، وكذلك الحاجة إلى التواجد العسكري الأميركي في المنطة. وفي الحقيقة، ليس جيشنا، وإنما قدراتنا المدنية هي التي لها أفضل الفرص في خدمة المتبقي من المصالح الأميركية عبر منطقة الشرق الأوسط، وهي التي نحتاج إلى استخدامها بشكل أكثر فعالية مما كان في الماضي.
كانت الأولوية الأولى بالنسبة للجيش الأميركي في الشرق الأوسط هي الحفاظ على تدفق التفط بلا انقطاع ولا عوائق إلى الأسواق من الخليج العربي. وتنفق الولايات المتحدة ما بين 12 إلى 15 في المائة من ميزانية وزارة الدفاع على تحقيق هذا الهدف الذي كان الرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر، قد أعلن عنه منذ 36 سنة تقريباً، في سياق رد الفعل على غزو السوفيات لأفغانستان. وقد ذهب الاتحاد السوفياتي الآن. ومع ذلك، بقي لدى الولايات المتحدة التي لم تستورد أبداً قسماً كبيراً من نفطها من الخليج، سبب للقلق لأن انقطاع الإمدادات هناك سوف يرفع سعر النفط في السوق العالمية، وسوف يتسبب بإلحاق ضرر اقتصادي كبير.
اليوم، ثمة فرصة قليلة لحدوث ذلك: فالاقتصاد الأميركي أقل اعتمادية بكثير على الطاقة مما كان قبل أربعة عقود؛ ونحن نمتلك مخزونات من النفط المحفوظة في احتياطي نفطي استراتيجي؛ وسوف يعود الإنتاج غير التقليدي للنفط والغاز بسرعة إلى سعر 70 دولاراً أو أكثر للبرميل، مما يخفف أي تأثير اقتصادي قد يُحدثه أي انقطاع في الإمدادات. وإذا كانت واشنطن قلقة من احتمال انقطاع في الإمدادات، فسيكون من المعقول أن تشجع دول الخليج على زيادة قدرات أنابيبها، وهو ما سيخفف احتمال الزيادات في الأسعار عن طريق ضمان وصول إمداد مناسب إلى الأسواق العالمية. كما يجب أن نعمل على إقناع الهند والصين بالاحتفاظ بمخزونات أكبر والإسهام بقوات بحرية لحراسة مضيق هرمز، بما أنهما تستوردان حصة الأسد من نفط الخليج. وليس هناك أي معنى في أن تنفق واشنطن أكثر من 80 مليار دولار في السنة من إجل الإبقاء على تدفق النفط من الخليج حتى تستطيع بكين ودلهي استيراد معظمه. ولا شك أن الوسائل الدبلوماسية تتفوق على العسكرية عندما يتعلق الأمر بقضايا الطاقة في الخليج.
كما تتطلب محاربة الإرهاب أيضاً مزيداً من التركيز على الموارد المدنية. وكنا -وما نزال- نخوض حرباً ضد المتطرفين الإسلاميين منذ غزو أفغانستان في العام 2002. لكن عددهم ازداد بأكثر من الضعف (وربما تضاعف ثلاث مرات) منذ ذلك الحين، بينما انتشر نشاط وأتباع هذه المجموعات إلى العديد من البلدان الإضافية. ولم تسفر أربعة عشر عاماً من الجهود العسكرية عن مقتل أكثر من بضعة آلاف من الإرهابيين، لكن هناك الآن عشرات الآلاف منهم في أكثر من دزينة من البلدان، بالإضافة إلى عدد لا يحصى من المتعاطفين الجاهزين لإلحاق الضرر بنا هنا في الوطن. وينبغي أن لا يمنعنا فشلنا في إعادة بناء الدولة في العراق وأفغانستان خلال العقد الذي أعقب هجمات 11/9 من إدراك أن حكماً أفضل وأكثر شمولية في تلك البلدان سيكون حاسماً لمحاربة التطرف، خاصة في المناطق التي استعيدت من مجموعة “الدولة الإسلامية” الإرهابية في سورية وليبيا والعراق. ونحتاج، بالتعاون مع الأمم المتحدة، والجامعة العربية وأوروبا والخليج، إلى ضمان أن لا يُسمح بنشوء فراغات جديدة في الحكم.
كان عدم الانتشار النووي -عن حق- شاغلاً رئيسياً للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. وسوف يفضي الاتفاق النووي مع إيران، إذا ما طبق بالشكل المناسب، إلى تأجيل الخطر الأكثر جدية إلى عشر أو خمس عشرة سنة مقبلة. وفي هذه الأثناء، نحتاج إلى إنشاء بنية أمنية تمنع قيام سباق نووي إقليمي في العقد القادم بدءا من الآن. وكنا قد أقمنا بنجاح مثل هذه البنية في أوروبا خلال حقبة الحرب الباردة، وعلى نحو قلل إلى حد كبير مخاطر قيام حرب نووية مع الاتحاد السوفياتي، من خلال مزيج من الاتفاقيات الثنائية والمنظمات متعددة الأطراف. وسوف يتطلب القيام بشيء مماثل في الشرق الأوسط إنهاء الحروب بالوكالة في سورية واليمن، والتي تتسبب بوضع السعودية وإيران ضد بعضهما بعضا.
ينبغي إقناع كلا هذين الخصمين بأنهما يستطيعان متابعة منافستهما بأمان عبر القنوات السياسية والاقتصادية بدلاً من العسكرية. وبالنسبة للولايات المتحدة، يعني تحقيق ذلك بذل جهد دبلوماسي مدني كبير، وليس جهداً عسكرياً. وفي المستقبل، وفي حال أصبح القيام بعمل عسكري ضد إيران ضرورياً لمنعها من امتلاك سلاح نووي، فإن أسلحة المواجهة الموجودة في منصات خارج المنطقة ستسمح لنا بتحقيق الهدف بقدر أقل من المخاطر على قواتنا.
سوف يستمر حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط بالسعي إلى الحصول على معداتنا العسكرية وتدريبنا، ويجب أن نكون مستعدين لتقديم ذلك. ومن غير المرجح أنهم يريدون قيمنا، خاصة حقوق الإنسان والديمقراطية. وبينما يقوم النظام في السعودية بترقيع الانتخابات، بل وحتى السماح بالمشاركة السياسية للمرأة على المستوى المحلي، يبدو من المرجح أن تذهب إسرائيل ومصر والعراق وتركيا كلها نحو الحد من الديمقراطية بدلاً من توسيعها في السنوات المقبلة. وعلينا أن نبقى مستعدين للاستمرار في بذل كل ما في وسعنا لمواصلة دعم أولئك الذين يسعون سلمياً إلى حكم أكثر شمولية ومجتمعات أكثر انتفاحاً. ويشير فشل الانتفاضات العربية في كل مكان عدا تونس –حيث ما تزال الثورة مهتزة أيضاً- إلى أن على الولايات المتحدة أن تكون مستعدة لمتابعة اللعبة الطويلة في الشرق الأوسط. وتقترح الخبرة أن المساعدة العسكرية لن تكون عاملاً هاماً في خدمة القضايا غير العسكرية.
لقد انخفضت مصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وتغيرت بكل تأكيد. وعلينا العمل على تحويل انخراطنا من الوسائل العسكرية إلى المدنية: الدبلوماسية؛ بناء الدولة، وتقديم المساعدات الخارجية. وسوف يخدم القيام بذلك مصالحنا الحالية أفضل من مواصلة انخراطنا العسكري في المقام الأول.
ترجمة:علاء الدين أبو زينة
صحيفة الغد الأردنية