اليزيدية ديانة قائمة بذاتها. ليست هي إسلاماً «أموياً»، ولا هي ذات أصول صوفية مباشرة، وإن كان الإسلام وشعائره الصوفية جزءاً بديهياً من طقوس بيئتها التي تتفاعل معها أخذاً وعطاءاً. لا يهدف هذا التأكيد إلى تقرير التاريخ العقائدي لليزيدية، فذاك مقال آخر لمقام آخر، بل إلى سدّ المخارج التي قد يعتبرها البعض، بنوايا حسنة، وسائل صالحة لتجنيب اليزيديين مصيراً قاتماً. فالواقع الذي تبيّن جليّاً من خلال المأساة المريعة التي ألمّت باليزيديين في العراق عام 2014 أن هذه المخارج واهمة واهية، بل هي على الخلاف مداخل لأصحاب المقاصد السيئة. فإذا كان القبول باليزيدي هو على أساس افتراض أرضية إسلامية ولو متراجعة، فإن تأصيل رفضه، بل للتحضير لجريمة قتله، يتحقق من خلال تبيان انتفاء هذه الأرضية.
الرجال اليزيديون عُذّبوا وقُتلوا بالآلاف. النساء اليزيديات استُرققن وامتُهنّ واغتُصبن، وجرى تسعيرهن وتوجر بهنّ وكأنهن بضاعة تُشترى وتُباع. الأطفال اليزيديون انتُهكوا وأرعبوا وانتزعوا من بيوتهم وأسرهم، وفُرض عليهم ديناً غير دينهم، ووُرّط البعض منهم بالقتل والتشنيع. منازل اليزيديين أحرقت، وأموالهم نُهبت، ومعابدهم دُمّرت، ومقدساتهم دُنّست. وعلى الرغم من اندحار المعتدي من سنجار، عصب الحضور اليزيدي في العراق، فإن الجراح التي أثخنت اليزيديين قد لا تندمل.
هي جريمة خطيرة لم ترتقِ ردة الفعل في الخطاب العربي إلى مستواها. فبقدر ما الجريمة تقتضي العقاب، بقدر ما يتوجب تفكيك دوافع التأخّر في ردة الفعل، لما يكشفه من إشكاليات قائمة في الثقافة العربية. وإن كانت هذه الثقافة بطبيعة الحال متعددة التوجهات والمواقف، فإنه ثمة اعتبارات غالبة في حضورها ساهمت في خمود النبرة إزاء مأساة اليزيديين.
فالاعتبار الأول، وهو اعتبار موضوعي، وإن بقي ضمنياً في معظم الحالات، يدرج مصاب اليزيديين في سياق ما تعيشه المنطقة عامة، فيخفف بالتالي من فرادته وضرورة التفاعل الخاص معه. فإذا كان ما طال اليزيديين جريمة، فإن ما يتعرض له السوريون هو جريمة مضاعفة مائة مرة، سواء من حيث عدد الضحايا، أو من حيث قباحة ما يواجهونه، وإن اختلفت التفاصيل. بل يتّضح تكراراً أن الاستهجان الدولي للجرائم والمآسي لا يساوي بينها، فبعضها يستثير الضمير العالمي ويلزم عواصم الدول الكبرى بردود فعل صارمة، وبعضها الآخر لا يستدعي إلا إصدار التقارير المعترضة من مؤسسات رصد حقوق الإنسان. ومعيار التمييز ليس عشوائياً. ففي الصف الأول يقع الضحايا الغربيون، فإيذاؤهم يبدّل السياسات ويحرّك الجيوش والأساطيل. وفي الصف الثاني، يأتي من جرى تصنيفهم كأقليات برضاهم أو عدمه، واليزيديون منهم، فمصابهم يستدعي التمحيص والإدانة والتصنيف من أوساط الإعلام والسياسة في العالم، وإن بقيت الخطوات العملية محدودة وقاصرة. فقد لا يكفي اليزيديون عوضاً أن نكبتهم قد أدرجت كجريمة إبادة في واشنطن وغيرها، إلا أن هذا الإقرار المعنوي بحجم المصاب هو بحد ذاته أمر نادر. أما الصف الثالث من الضحايا، وهم من أهل الأرض الذين لا يستفيدون من التصنيف كأقلية، فإن الإشارة إلى جحيمهم تبقى عابرة، ولا تنضوي على إلزام سياسي.
فتوثيق عشرات الآلاف من حالات التعذيب الوحشي بحقّ السوريين المعارضين للنظام، واتضاح الأدلة على إقدام هذا النظام على القتل الممنهج لعامة المدنيين خارج مناطق سيطرته وتغييب الخاصة منهم داخلها، والترويع والترهيب والإهانة والقهر، بمختلف أشكاله وفنونه السقيمة، لا يعكّر سعي العديدين، بمن في ذلك من يظهرون الاستجهان لمصاب اليزيديين وغيرهم، لإعادة تأهيل القتلة والدعوة إلى استيعابهم ضمن التصور المستقبلي لسوريا والمنطقة. فمن وجهة نظر الأكثرية المحلية والتي تفتقد السمات التمييزية (مثل الغربية والأقلوية)، يبدو وكأن الدم العربي السني أرخص من غيره، والكرامة العربية السنية أقل حقاً بالاعتبار، والألم العربي السني أقل اقتضاءاً للتعاطف. وهنا يصبح فعل التباطؤ بإدانة مصاب اليزيديين وغيرهم مسألة احترام للذات، وكأن الحال يقول أنه لا طاعة وانتظام وراء مطالب إدانة مأساة جزئية يطلقها من يمتنع عن إدانة المأساة الكلية.
وبالإضافة إلى الاعتبار السياقي الموضوعي، بل ربما قبله، فإن التخلف عن ردة الفعل يتأثر باعتبار التراكم التاريخي، في أساليب التلقي الثقافي والاجتماعي للعنف، وبما أرساه من حدود خطابية واعتمده من توظيفات سجالية، في العراق وسوريا على حد سواء.
إذ لا يزال العراق، لعقود طالت واستطالت، أسير توحش تتبدل هوية المتوحش فيه، وتبقى الضحية الإنسان العراقي. فما بدأه نظام صدام حسين من إقصاء لبعض أهل البلاد، هم الأكراد الفيليين، بحجة تابعية تعود لأجيال خلت، ومن إعدامات فورية بجريمة الانتساب لأحزاب معادية، ومن تهجير قسري للسكان وتجميع في «مدن عصرية»، انحدر باتجاه منهجة القتل وتعميمه كوسيلة تحكم وضبط، فكانت حلبچة وكانت الأنفال، ثم كان قمع الانتفاضة الشعبانية، وصولاً إلى إذلال وتطويع للمواطن، شاركت به، عن غفلة أو إدراك، الأسرة الدولية من خلال منظومة العقوبات المنهكة. ولم ينتهِ التوحش بانتهاء النظام، بل ارتقى بفعل أخطاء الاحتلال وانكشاف العلل الداخلية إلى مستويات غير مسبوقة من المجازر الطائفية. وإلى الغرب من العراق في سوريا، كان نظام حافظ الأسد بدوره قد طوّر وسائل مشابهة في العنف والتوحش، في حماة التي دمّرت على رؤوس أهلها لقمع الإخوان المسلمين، وفي لبنان عبر الاغتيالات الموجّهة ومجازر العقاب الجماعي، وكذلك، وهو ربما الأخطر والأعمق أثراً، في سجونه ومعتقلاته التي جعل منها مختبراً لوسائل القهر والإخضاع.
والواقع أن صدام حسين وحافظ الأسد، في تعاطي الثقافة العربية معهما، كانا وحسب مثالين متقدّمين للحاكم العربي في ممارسته لدوره في ضمان نظامه. فجرائمهما قد أثارت تحفظ البعض واعتراضهم، من حيث المبدأ حيناً ومن حيث الجنوح إلى الإفراط أحياناً، غير أن حصيلة المواقف إزاءهما لدى أوساط مختلفة تدعي التقدمية والمقاومة والصمود كان أقرب إلى الثناء منه إلى الذمّ. ثم أن ما أنشأه هذا وذاك من نظم استبدادية واستخباراتية اختلفت كماً وحسب، لا نوعاً، عما استقرّ في سائر الدول العربية. ففي حين استمرت المتابعة لأية خسارة فلسطينية في الأرواح نتيجة المواجهة مع إسرائيل، فإن الثقافة العربية قد رست على تطبيع وتبرير لدرجات العنف والتي يمارسها الحاكم العربي على محكومه، مهما ارتفعت. فلا استهجان لمجازر دارفور، ولا غضب للعشرية السوداء في الجزائر، ولا اعتراض على مؤسسات القمع المستتبة في الدول العربية المختلفة، إلا في إطار أهوائية انتقائية تطعن بممارسات أحدهم وتتجاهل ما يماثلها لدى آخر.
ولكن الانحدار لا يقف عند هذا الحد. فضمن سجالات المحاور بين الدول العربية وفي إطار نظريات المؤامرة الخارجية، أمسى الأصل الدفاع عن التجاوزات وتبريرها، أو على الأقل التغاضي عنها ورفض الخوض فيها، انطلاقاً من استفادة مزعومة للخصم في إثارتها. فالكلام عن دارفور يهدف إلى تفكيك السودان (لصالح إسرائيل على ما يبدو)، والحديث عن حلبچة والأنفال هو للطعن بنظام صدام حسين الداعم للمقاومة الفلسطينية، فلا متابعة لهذه المأساة وتلك، بل دعم حماسي وصريح لمرتكبيها. والمسألة ليست مسألة تضليل إعلامي، بل خيار معنوي، بالأمس كما اليوم.
فجمهور «حزب الله» اليوم مثلاً مطّلع بوضوح أن نظام دمشق، الذي يؤيده الحزب، يقتل الأبرياء ويرتكب المجازر ويقمع من يرفع صوته مطالباً بالحرية والكرامة، ويدرك أن التصوير المخالف، والذي يجعل من الثوار السوريين أغراب تكفيريين، مبالغة تعسفية في أقل تقدير. إلا أن تغليب مصلحة المقاومة يتطلب إهمال المأساة السورية وزعم القبول بطرح التصدي لمؤامرة خارجية تكفيرية صهيونية أمريكية وفق مقتضى الحال. وللبعد الفئوي، الطائفي أو العرقي، دور أساسي في ترسيم هذا الخيار المعنوي. فجمهور «حزب الله» ينتقل بنفسه من موقع الجلّاد الظالم، إذ أبناؤه يشاركون في المقتلة السورية، إلى موقع صاحب المظلومية، إذ يرضى باعتبارها حرباً استباقية لمنع قدوم التكفيريين بنواياهم القاتلة للفتك بشيعة أهل البيت، وبالتالي أخلاقية. وليس المطلوب الاقتناع التصديقي بهذه المقولة، بل يكفي أثارتها، وإن كشبهة ضعيفة، كمخرج للتمسك بموقف المصلحة الفئوية.
واليوم يعاني الخطاب السياسي العربي من درجة مرتفعة من التسطيح التوظيفي الذي يعترض أي انتقاد يمكن تجييره لصالح الخصم، ويسقط في الآن نفسه على الخصم أحادية طائفية إلزامية. فلا فارق، في سجاليات المقاومة مثلاً، بين «تيار المستقبل» وتنظيم «الدولة الإسلامية»، رغم أن الأول مدني علماني والآخر جهادي قطعي قد تعهد أن يعمد ابتداءاً إلى افناء «صحوات الردة» التي يشكلها تيار المستقبل، فهذا وذاك وجهان لظاهرة واحدة وطائفة واحدة هي السنة. وفي خضمّ هذا الشحن الطائفي، وانطلاقاً من دوافع سجالية، يختلط الاعتراف بالمظلومية اليزيدية بالإقرار بظالمية سنيّة، سواءاً في الوسط المخاصم للسنة هجوماً أو في الوسط السني نفسه دفاعاً. والنتيجة بالتالي هي تضييع المأساة اليزيدية موضوعياً، وإسقاطها إلى حالة الحجة التي تستفيد من التنميق والمبالغة بالنسبة لجهة، أو التهمة التي تستدعي التذليل والإسقاط بالنسبة للجهة الأخرى.
وكما يجري توظيف قضية من مستوى مأساة اليزيديين في استدعائها السجالي، يبدو أن العالم الثقافي العربي، بأدواته المعتمدة، غير قادر على التعاطي مع أية مأساة على المستوى الفردي، إلا في إطار التوظيف. فمحمد جمال الدرّة، الطفل الفلسطينيي الذي كان ضحية مواجهة مأساوية، هو اسم معروف على نطاق واسع. إلا أن ضحايا الأنفال بالأمس، وضحايا اليزيديين اليوم، وغيرهم الكثر، نكرات لا اسم لهم ولا وجه لهم. وذكرى الطفل محمد هي وليدة هوية قاتله، لا براءته وإنسانيته. فالإشارة إلى الضحية ليست دعوة تأمل بحياة إنسان وتفكّر بحدود عموم البشر، بل هي أولاً أداة لإدانة الجاني، ومن شابه الجاني بأي شكل.
فمن الصعب على الثقافة العربية أن تنزع الاعتبارات السجالية، فيما تبدو الانتقائية الغربية وهرمية الاهتمام الدولية بمصير الضحايا مندرجة في إطار توظيفي مشابه، إن لم تكن وحسب عائدة إلى لامبالاة بمصير الأكثرية. وإزاء وطأة الاعتبار الموضوعي، حيث المأساة اليزيدية تشكل جزءاً وحسب من المآسي التي تعيشها المنطقة، يبدو الحديث عن المأساة اليزيدية وكأنه يطالب بتقديم الفرع على الأصل، تماماً كما كانت الدعوة للمعارضة السورية بمهادنة النظام، قاتل مئات الآلاف، لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية»، قاتل الآلاف. ففي هذا الطلب وذاك استخفاف بأرواح مئات الآلاف.
غير أن ردة الفعل الطبيعية هذه تتطلب إعادة نظر، لمنع دفعها باتجاه التفريط. فإدانة ما تعرّض له اليزيديون هو أمر مستحَقّ لذاته، بغضّ النظر عمّن يدعو إليه. واليزيديون ليسوا جماعة من أقاصي الأرض، بل جزء لا يتجزّأ من نسيج الثقافة والمجتمع في المنطقة. فإهمالهم هو إهمال للذات.
كما أنه ثمة خصوصية للمأساة اليزيدية لا سبيل لأي من الاعتبارات المذكورة من تجاوزها. إذ ثمة من أفتى بجواز قتل رجالهم وسبي نسائهم وأطفالهم، وثمة من لم يفتِ بتحريمه. فليس غريباً أن يعمد شرعيو تنظيم «الدولة الإسلامية»، بمنهجهم القائم على القسوة والشدة والفهم القطعي للموروث الديني أن يجيزوا الانتقاص من إنسانية اليزيديين وصولاً إلى القتل والاغتصاب.إلا أن الثقافة العربية كانت خجولة في اعتراضها على تخلف المؤسسات الدينية في العالم العربي قاطبة عن إصدار الفتوى الناقضة الواضحة الصريحة، وليس مجرد الرأي الذي تقتضيه المصلحة، حول ممارسات ينفر منها الحس السليم. وإذا كانت هذه المؤسسات الدينية عاجزة لاعتباراتها الذاتية ورصيدها الفقهي المطوّق، فكان الأجدى أن يكون بعض الصوت العربي الثقافي على الأقل واضحاً حول ضرورة تقديم الاعتبارات الإنسانية والمدنية والحضارية على هذا الرصيد الفقهي في واقعه الحالي.
وقد يكون المجتمع متقدماً على الثقافة هنا، إذ تتوجب الإشارة إلى دور إيجابي للعديد من الأفراد والعشائر من غير اليزيديين، من مختلف الخلفيات، في السعي إلى إنقاذ اليزيديات خاصة من أهوالهن. ولاعتبارات عدة، منها الموضوعي المفهوم، ومنها الذاتي الذي يتوجب تجاوزه، فإن الأمر الذي لا بد من الإقرار به هو أن الثقافة العربية لم تتفاعل مع مأساة اليزيديين عامة، واليزيديات خاصة، بما ينسجم مع مفهوم الشهامة والذي تفترضه من صلب الهوية المشتركة، وأصبح الحديث بالتالي عن هوية مشتركة مسألة فيها نظر.
حسن منيمنة
معهد واشنطن