في 5 حزيران/يونيو، فرضت كل من السعودية والبحرين ومصر والإمارات حظراً غير مسبوق على قطر، متهمةً إياها بمجموعة من الجرائم. ثمّ قدّمت هذه الدول الأربع إلى قادة قطر لائحة تضم ثلاثة عشر مطلباً من شبه المستحيل تلبيتها. وتضمنت هذه المطالب تقديم تقارير لمراجعة الحسابات المتعلقة (التدقيق) بالإنفاق الخارجي، وإغلاق قناة “الجزيرة” الحكومية، ودفع تعويضات عن الأضرار الناجمة عن السياسة الخارجية لدولة قطر. وجاء على لسان وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش قوله أن الدول الأربع تريد “عزل [قطر] وليس التصعيد”.
وفي أعقاب فترة من المشادات الكلامية في جميع أنحاء الخليج، باتت المواقف الآن أكثر رسوخاً، وأصبح الناس يشعرون بالمرارة، ويبدو أن الحل بات يُقاس على الأرجح بالسنوات، وليس بالأشهر. ومن خلال تشريح النقاشات الدوّامة، والاتهامات المنمّقة، والخطابات المزيفة، والمبالغات الإعلامية السخيفة، يجد المرء صراعاً جوهرياً يدعم فيه الطرفان رؤى متناقضة بشكل أساسي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
رؤية “الحَمَديْن”
يشير مصطلح “الحَمَديْن” إلى أمير قطر السابق حمد بن خليفة آل ثاني و[صديقه] المقرب إليه وحليفه منذ وقت طويل رئيس الوزراء حمد بن جاسم آل ثاني. وتتجلى رؤية قطر من خلال أفعال وسياسات وميول هذين الرجلين اللذين هيمنا لفترة طويلة على سياسات قطر وعلاقاتها الدولية.
وعلى الرغم من عدم بقاء أي منهما في السلطة، إذ تنحيا جانباً في عام 2013، إلّا أنّ فحوى سياساتهما لا تزال مستمرة. وفي حين تَولّى تميم بن حمد آل ثاني رسمياً مقاليد الحكم في حزيران/يونيو 2013 عندما تنازل والده عن منصبه، إلّا أنّ سياسات حمد ما زالت مطبوعة في بنية البلاد، وسيكون من الصعب على الشاب تميم تغييرها بشكل ملحوظ. ناهيك عن أي خلف آخر. وبالفعل، لم يكن حمد زعيماً عادياً. فقد حوّل قطر من منطقة يسودها الركود والكساد إلى دولة ذات تأثير دولي فعلي. وبالتالي، لم يكن رفض مقاربة “الوالد المؤسس” الحقيقي للدولة مطروحاً أو قائماً فعلاً.
ومع ذلك، يشير عدد كبير من النخبة في المنطقة إلى تفسير أكثر بساطة: لا يزال “الحَمَديْن” يتوليان فعلياً زمام الأمور في قطر، أو على أقل تقدير، يؤثّران بشكل كبير على القيادة الحالية. وبغض النظر عن الشائعات المتداولة من وقت إلى آخر بشأن النفوذ المتواصل لحمد بن جاسم على صندوق الثروة السيادية القطري – الذي هو من الأصول الأخرى ضمن محافظه السابقة – أو الاجتماعات التي يعقدها حمد بن خليفة مع الزوار الوجهاء بين الحين والآخر، هناك أدلة قليلة تُثبت هذا الرأي.
وتركّز السياسات القطرية المعنيّة – أي تلك التي أرساها “الحَمَديْن” ولا يزال تميم يطبقها على نطاق واسع – على دور الإسلاميين في السياسة الإقليمية. وباختصار، يَعتبر “الحَمَديْن” أن دعم الأفراد والجماعات المنخرطين في الإسلام السياسي، وإن لم يكن عشوائياً، هو نهج معقول للسياسة. وتجلى هذا التوجّه القطري بشكل خاص في الخطوات التي اتخذتها البلاد في ليبيا ومصر وسوريا في أعقاب “الربيع العربي”. وقد يقول الكثيرون أن قطر اتبعت هذه السياسات طوال العقد الماضي.
وبالفعل، لن تنكر النخبة في قطر أن دولتهم غالباً ما دعمت الكيانات المرتبطة بتنظيمات مثل «الإخوان المسلمين». وهناك أدلة كثيرة تؤيد هذا الادعاء بحيث لا يمكن دحضه. وبدلاً من ذلك، كرّر القطريون خلال السنوات الأخيرة – وازداد إصرارهم خلال النزاع الحالي بين الدول العربية – أن قطر تسعى إلى دعم “الشعب” في إطار أي سيناريو كان وليس جماعة سياسية بحد ذاتها. ويُظهر دعم قطر للرئيس المصري السابق محمد مرسي، الذي يبدو أن بروزه الوجيز في 2012 و2013 عكس فعلاً بعض الدعم الشعبي للإسلام السياسي، أن هذا الإصرار منطقي نوعاً ما.
وتنطوي رؤية “الحَمَديْن” للعالم على ما يلي: إذا تمكنت قطر من أن تكون داعمة للأحزاب الإٍسلامية الصاعدة في كل أرجاء المنطقة، فإن هذه الأحزاب ستشعر بأنها مدينة لهذه الدولة الخليجية. ومن ثم يمكن أن تستفيد قطر من هذا النفوذ، سواء لإبرام ترتيبات استثمارية مفيدة أو لحصد دعم سياسي ودبلوماسي في المحافل الإقليمية. وعلى نحو متساوٍ، بدا أنه من الصعب للغاية مقاومة وعدٍ أحدث هذا القدر من التغيير الإقليمي العميق، وهو وعدٌ قطعته دولة صغيرة مثل قطر، لا بصمة فعلية لها في تاريخ المنطقة.
ورسّخت قطر مكانتها باستنادها ليس فقط على الحسابات السياسية، بل أيضاً على التفكير الصرف بأن الإسلام يجب أن يلعب دوراً في السياسة العربية. وبهذه الطريقة، سيشعر المواطنون المتدينون بأنه تمّ أخذ وجهات نظرهم بعين الاعتبار. وفي غياب أي منفذ سياسي، وفقاً لمنطق “الحَمَديْن”، قد يسعى الانطوائيون المتدينون إلى إيجاد منافذ أخرى أكثر ضرراً لإخراج إحباطهم المتنامي.
رؤية “المُحَمَديْن”
تتجسّد الحجة المضادة للرؤية القطرية بقائدين من بين الأكثر نفوذاً وحسماً في العالم العربي، ألا وهما ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وولي عهد أبوظبي الأمير محمد بن زايد آل نهيان. ويَعتقد هذان “المُحَمَديْن” أنه لا ينبغي تسييس الإسلام، بل بالأحرى جعله مسألةً شخصيةً من دون أن يكون له دور مباشر أو مؤسسي في الحوكمة. وتنبع هذه النظرة من تفسيرهما لأثر الإسلام السياسي على البلدان العربية، بما فيها بلديهما، في التاريخ الحديث.
أما بالنسبة إلى الإمارات العربية المتحدة، فقد نشأت العلاقة المثيرة للنزاع بين القادة في أبوظبي والجماعة الإسلامية المحلية “الإصلاح” منذ سبعينيات القرن الماضي ولا تزال مستمرة. ولطالما خشيت السلطات أن ينصِب مثل هذا الكيان نفسه لممارسة المزيد من السلطة والنفوذ، وهو طموح نفته هذه الجماعة علانية، مدعيةً بدلاً من ذلك أنها تؤدي دوراً اجتماعياً بحتاً. ومع ذلك، فبالنسبة إلى محمد بن زايد، كشف صعود الإسلاميين خلال “الربيع العربي” زيف هذه الادعاءات، ليؤكّد المخاوف وبواعث القلق الكامنة منذ وقت طويل.
أما في المملكة العربية السعودية، فيسعى ولي العهد إلى إجراء مجموعة متنوعة من الضوابط على سلطته، سواء في المؤسسات، أو القطاعات الدينية، أو أفراد آخرين من العائلة المالكة. وعلى أثر ذلك، احتُجز في أيلول/سبتمبر حوالي 70 من كبار الشخصيات السعودية، يُعتبر عدد كبير منها من الشخصيات الإسلامية الشعبية البارزة من دون منازع. وفي تشرين الأول/أكتوبر، تعهد الأمير محمد بن سلمان “بإعادة” المملكة إلى الإٍسلام المعتدل، في اختيار مذهل للكلمات. غير أنه ليس باستطاعة ولي العهد السعودي، حتى إن مُنح حرية التصرف لتنفيذ تحوّل ضروري في السعودية، أن يتخلى عن دور الدين في المملكة. ومع ذلك، من المرجح أن يجعل السعودية، متى أمكنه ذلك، مكاناً يتّسم بطابع أكثر شخصية، وأقل تسييساً.
ويتركز معظم الغضب المحيط برؤية “المُحَمَديْن”، في ظل ارتباطها بالإسلام المسيّس، على جماعة «الإخوان المسلمين». فالنظرة المناسبة تتمثل بأنه منذ بداياتها في مصر في أوائل القرن العشرين، نشرت الجماعة مجموعةً من الأفكار والمقاربات السامة التي ساهمت في إضعاف الطابع الفكري للخطاب في مختلف المجتمعات العربية.
وبالفعل، لقد تصوّرا بروز مفعول تحويلي ناتج عن الصرح الفكري بأكمله لرأي جماعة «الإخوان المسلمين» على السياق الاجتماعي-السياسي العربي. ووفقاً لهذا التفكير، يترسخ التشدد والتطرف الحديثان في المنطقة في عقائد المفكرين الأوائل ضمن «الجماعة». وقد رسما خطاً شبه مباشر من العلماء المؤسسين لفكر «الإخوان» على غرار حسن البنا وسيد قطب إلى أسامة بن لادن، وزعيم تنظيم «القاعدة» الحالي أيمن الظواهري، إلى جانب الأجيال الأكثر حداثةً من الجهاديين والمتطرفين والإرهابيين.
وفي مجالات أخرى، تَعتبر رؤية “المُحَمَديْن” أن التسييس الذي يقوده الإسلاميون لطالما لطّخ الحوار الطبيعي بشأن القضية الفلسطينية-الإسرائيلية. فبرأيهما، أدت هذه المقاربة إلى استمرار مأساة الفلسطينيين وتصوير إسرائيل على أنها الشيطان، وإنشاء مجال اجتماعي يولّد نظريات التآمر. ومن ناحية أخرى، يؤكدان أيضاً أن إدخال السياسة إلى العقائد الإسلامية في مناهج التعليم العربية قد قضى على التفكير الناقد لأجيال من الطلاب.
وفي نهاية المطاف، تَعتبر رؤية “المُحَمَديْن” – مستشهدةً بالثيوقراطية في إيران كمثالٍ شيعي – أن المزج الانعكاسي للسياسة والإسلام يؤدي بشكل موثوق إلى إفقار الشعوب.
الازدواجية اللغوية
تعكس هذه الرؤى المتنافسة مقاربات شاملة للسياسة، وحججاً غير مبنية ولا تحمل إلا تفسيراً واحداً. فمن جهتهم، يشكو مناصرو “الحَمَديْن” من أن الإسلاميين المعتدلين نادراً ما مُنحوا فرصةً وأن المتطرفين، الذين غالبا ما يكونوا مرتبطين بشكل طفيف بالمعتدلين “المحترمين”، لا يعكسون الآراء الأوسع نطاقاً والسائدة على نحو أكبر. وتتمثل المشكلة في أن هذه الشكاوى تتطابق مع الحجج الاشتراكية أو الشيوعية القائلة بأن الشيوعية “الحقيقية” لم تطبق يوماً، وأنه إذا تمّ تطبيقها فعلاً، سيبرز المجتمع المثالي الموعود حتماً. وعلاوةً على ذلك، فإن الروابط بين الجذور الإيديولوجية لجماعة «الإخوان» ومجموعة من المتطرفين المعاصرين واضحة للعيان. ورغم الاحتجاجات على أن دعم هذا النوع من الحكومة الإسلامية المعتدلة أمر ممكن، إلّا أنّه لا يبرز أي خط واضح يحول دون انزلاق الشعوب والأحزاب إلى دوامة السياسات المتطرفة.
أما بالنسبة إلى رؤية “المُحَمَديْن”، ففي حين سترحب الحكومات الغربية حتماً بأي فصل للدين المؤسسي عن السياسة حيثما كان ذلك عملياً، لا تزال شعبية هذه الرؤية في الشرق الأوسط غير واضحة. وبالمثل، لا يساهم فصل الدين عن السياسة، على أقل تقدير، تلقائياً في تحسين القادة وسياساتهم: فقد كان عدد لا يحصى من الحكام المستبدين في المنطقة علمانيين إلى حدّ كبير في توجهاتهم.
هذه المرة الأمر شخصي
بصرف النظر عن عدم تجانسهما داخلياً، تمثل هاتان الرؤيتان المبسطتان وجهتي نظر متعارضتين وغير متوافقتين للحوكمة المستقبلية في الشرق الأوسط وشمال أأأأفريقيا. وقد كانتا قائمتين بالتوازي، وبدرجات متفاوتة، طيلة عقود من الزمن. ولكن اليوم، طفح الكيل بالنسبة إلى الفصيل الذي تقوده السعودية والإمارات. فحكام هذين البلدين يرون أن منطقتهم في وضع خطر، حيث أن “الربيع العربي” أطاح باستقرار المنطقة الشامل ولو أنه غالباً ما كان مصحوباً بغصة، مما ساهم في تمكين مناصري الإسلام السياسي. ويمكن أن تعزى الفوضى الناتجة، بدرجة لا يستهان بها، من وجهة نظر “المُحَمَديْن” إلى ميول “الحَمَديْن”، والتي بدورها تؤدي مباشرةً إلى قطر.
وبعد أن عارض القادة الإماراتيون رؤية “الحَمَديْن” للعالم لعقود من الزمن، ازدادوا جرأةً بفضل بروز ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي يشاركهم الرأي في السعودية. فقد طبق مجموعة من السياسات كانت مستحيلةً سابقاً، بدءاً ببيع حصة من أصول شركة “أرامكو السعودية” القيّمة، مروراً بالمشاركة في حرب عدائية ومحفوفة بالمخاطر في اليمن، وصولاً إلى احتجاز العشرات من كبار المفكرين والأمراء والإقرار بأن السعودية لا تتساهل مع أشكال الإسلام المتعصب.
وينبع الحقد الشخصي تجاه قطر، على الأقل في أوساط النخبة في أبوظبي، من منطلق أن رجال السياسة في المنطقة قد أساءوا استخدام الإسلام لمصلحتهم الخاصة لفترة طويلة جداً – وهو ترتيب تواطأت فيه الدوحة. بالإضافة إلى ذلك، نجح دعم الولايات المتحدة والمساومة الاقتصادية المحلية القوية، حتى الآن، في حماية قطر من المحاسبة. وإذا سُمح لقادة أبوظبي بالنظر إلى نصائحهم، قد يسعون من دون تردد إلى الإبقاء على هذه العزلة لسنوات طويلة.
غير أن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان يعمل في عالم مالي مختلف عن نظرائه في أبوظبي. فالضغوط المالية التي تواجه المملكة من المرجح أن تقنعه نحو التوصل إلى تسوية، إذ إن عدداً كبيراً من سياساته غير العادية – كبيع حصص “أرامكو”، وإطلاق مشروع المدينة الجديدة بقيمة تصل إلى نصف تريليون دولار والمعروف باسم “نيوم” (من “نيو- مستقبل”، أي المستقبل الجديد)، وحتى احتجاز أمراء وبيروقراطيين رفيعي المستوى، في إطار حملة لمكافحة الفساد – تُعزى أساساً إلى حسابات مالية وليس فقط إلى المُثل العليا. ونظراً إلى هذا العنصر الواقعي القوي، فقد يسمح الأمير محمد بن سلمان في نهاية المطاف لقطر بالخروج من العزلة الإقليمية من خلال الاستثمار في خطة «رؤية السعودية 2030»، طالما تُقدّم البلاد تنازلات رئيسية بشأن دعمها للإسلاميين السياسيين.
ديفيد ب روبرتس
معهد واشنطن