يبدو المشهد الكردي في العراق وسورية وتركيا، اليوم، وكأنه أمام احتمالاتٍ مفتوحة على أشكال من الحكم الذاتي والفيدرالية والكونفيدرالية وحق تقرير المصير، فيما يبقى المشهد الكردي في إيران وكأنه راقد تحت النار، بسبب المركزية الشديدة للنظام، ولعل حضور هذه الخيارات مجتمعة في المشهد الكردي نابع من اختلاف الظروف التي يعيشها الكرد في الدول المذكورة ودرجة تطور القضية الكردية في هذا الجزء أو ذاك، وعلاقة ذلك بالمركز وجملة الظروف الإقليمية والدولية التي تحدّد، مجتمعة، العوامل السياسية التي تتحكم بواقع القضية الكردية ومسارها في كل جزء.
في معرض الجدل بشأن طرح الكرد هذه الخيارات، ثمة أسئلةٌ تتعلق بالأسس القانونية والدستورية للفيدرالية والكونفيدرالية وحق تقرير المصير، وهي أسس مهمة وجوهرية، للقبول بها، نظراً لأنها قضية تخص أكثر من طرف معني بالقضية المطروحة. فما هي الفيدرالية والكونفيدرالية وحق تقرير المصير؟ ثمة من يرى أن للفيدرالية أكثر من شكل، إذ أنها يمكن أن تكون اتحاداً بين كيانين أو أكثر، من خلال تخلي هذه الكيانات عن جزء من سيادتها وسلطاتها لصالح سلطةٍ عليا تحكم القضايا الأساسية، الجيش والسياسة الخارجية والموازنة العامة، فيما تترك الشؤون الأخرى للكيانات المنضوية للفيدرالية. يقوم الشكل الثاني للفيدرالية على تخلي السلطة المركزية عن جزء من صلاحياتها لصالح الإقاليم أو الكيانات المحلية. وغالباً في مثل هذه الحالة، تكون هناك مشكلات وإشكاليات قومية واجتماعية وسياسية ودينية. وهكذا، يتحول النظام من المركزي إلى اللامركزي على شكل مجموعةٍ من الكيانات والولايات، ينظم العلاقات بينها الدستور، كما هو الحال في دول فيدرالية عديدة، مع الإشارة إلى أن الصلاحيات المحلية قد تختلف من نظام فيدرالي إلى آخر.
تشكل الكونفيدرالية كنظام للحكم خياراً لإقامة اتحاد بين مجموعة من الدول، إذ إنها تقوم على
إقامة شكل من أشكال الاتحاد بين دول مستقلة تماماً، وتبقى هذه الدول تحتفظ باستقلالها وسيادتها وقراراتها وجنسيتها، وتقوم فلسفة الكونفيدرالية على إقامة هيئاتٍ ومؤسساتٍ عليا تمثل الدول المنضوية في هذا الاتحاد الكونفيدرالي. مع أن الفيدرالية والكونفيدرالية هما من أشكال تقرير المصير، إلا أنه غالباً ما اتخذ حق تقرير المصير شكل الاستقلال أو الانفصال، وهو حقٌّ نص عليه ميثاق الأمم المتحدة ومعاهدات دولية عديدة والإعلان الدولي العالمي لتصفية الاستعمار، وقد اتخذ هذا الحق تاريخياً شرعيته من النضال القومي التحرري في أوروبا، على أساس الحق في إقامة دولة مستقلة كاملة السيادة.
تبدو هذه الخيارات مطروحة كردياً، تبعاً لاختلاف واقع القضية أو القضايا الكردية في العراق وسورية وتركيا وإيران، إذ ليس خافياً أن ثمة قناعة عامة لدى كرد العراق، وتحديداً قيادة إقليم كردستان، بأن الفيدرالية لم تعد مناسبة للتطلعات الكردية، خصوصاً في ظل تفاقم الخلافات بين أربيل وبغداد وسيطرة الإقليم على مناطق عديدة متنازع عليها، والبدء بتصدير النفط من دون موافقة بغداد، كما أن كرد سورية، وعلى الرغم من الانقسام السياسي في صفوفهم، فإن ثمة إجماعاً على الفيدرالية، بغض النظر عن مضمونها والأطراف المشاركة فيها. كذلك، فإن كرد تركيا طوروا تطلعاتهم في المطالبة بإقامة حكم ذاتي، فيما شعار إقامة الحكم الذاتي ترفعه الأحزاب الكردية في إيران.
في مطالبة الكرد بهذه الحقوق، ثمّة عتب كردي شديد على الأنظمة والأحزاب في الدول التي يوجدون فيها، مفاده بأن هذه الأنظمة والأحزاب تتنكّر لهذه الحقوق، ولا تعطي أهمية لحل قضيتهم سلمياً، وهو ما يدفعهم إلى التحرك بعيداً عن المركز، فيما ترى هذه الأنظمة والأحزاب أن التحركات الكردية هذه هي مقدمات للانفصال والتقسيم، وأنها لن تسمح بمثل هذا الأمر، لطالما تتعلق القضية بسيادة الدول ووحدة أراضيها. وبين التمسك الكردي بهذه التطلعات والمطالب ورفض الأنظمة لها، يبدو المشهد المقبل للقضية الكردية مزيداً من الحروب والعنف، خصوصاً وأن رفض الأنظمة التجاوب مع التطلعات الكردية يدفع أحزاب الحركة الكردية إلى الذهاب بعيداً في تحالفاتٍ خارجيةٍ، تزيد من حدة الحروب وعدم الاستقرار وخلط الأوراق. ليبقى السؤال الأساسي، هنا، كيف يمكن حل القضية أو القضايا الكردية، بعد أن بلغت هذا المستوى المتقدم من النضج العسكري والسياسي والقومي؟