لم يكن يوم السبت الماضي يوماً عادياً في تاريخ العملية السياسية العراقية، وفي تطور مثير للانتباه، اقتحم أنصار مقتدى الصدر المنطقة الخضراء عبر بواباتها الرئيسة وإسقاط الجدار الإسمنتي المحيط بها ووصلوا إلى مقر مجلس النواب العراقي واقتحموا القاعة الرئيسة، ودمّروا أثاثه ومحتوياته، فضلاً عن سيارات عدد من النواب والمسؤولين، والاعتداء على عدد من النواب داخل مجلس النواب العراقي. ونصبوا خياما بجواره.
ومرد هذا الاقتحام جاء إثر فشل مجلس النواب العراقي في إستكمال التعديل الوزاري الذي كان من المفترض أن يقدمه يوم السبت الماضي رئيس الوزراء حيدر العبادي. وقد جاء هذا الاقتحام بعد أقل من ساعة واحدة على بيان لزعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، هاجم فيه الحكومة وجلس النواب ونظام المحاصصة الطائفية في توزيع الحقائب الوزارية، وتعد المنطقة الخضراء من أكثر المناطق المحصنة في العراق إذ تضم مقر مجلس النواب والحكومة ورئاسة الجمهورية و22 بعثة دبلوماسية، من بينها السفارتان الأميركية والبريطانية.
ويبدو أن الأزمة بدأت بعد ابلاغ كتلة «الأحرار» بأن قائمة المرشحين الجدد للوزارة التي كان من المفترض أن يقدمها رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إلى مجلس النواب يوم السبت الماضي تضمّنت شخصيات تابعة لأحزاب سياسية. وأوضحت أن القائمة كانت تضم خمس حقائب وزارية هي النفط، والنقل، والتجارة، والصناعة، والإعمار. وأشارت إلى أن «العبادي واجه ضغطاً بعد مطالبة كتلتي التحالف الكردستاني وتحالف القوى الوطنية بعدم المساس بوزرائها في الحكومة ورفضوا استبادلهم بآخرين، وهو ما أثار حفيظة كتلة الأحرار».
ودخل مجلس النواب بذلك في أزمة جديدة بعد فشله في تحقيق النصاب القانوني لعقد الجلسة بسبب مقاطعة كتلة المعتصمين البالغ عددهم 90 نائباً. وأعلن المجلس تأجيل جلساته حتى العاشر من الشهر الجاري، وسط احتشاد آلاف من أتباع التيار الصدري حول المنطقة الخضراء.
وأعلن مقتدى الصدر في مؤتمر صحافي عقده من منزله في النجف أمس عن «مقاطعة أية عملية سياسية فيها أي نوع من أنواع المحاصصة، وأرفض مجالسة أي سياسي مهما كانت مطالبه دون الإصلاح الجذري». وأضاف «أنا انتظر الانتفاضة الشعبية الكبرى والثورة الشعبية العظمى، وأمام الشعب خياران إما ابقاء المحاصصة أو اسقاط الحكومة برمتها»، ثم قرر الاعتكاف لشهرين «رفضاً للمحاصصة والفساد، واستنكاراً لتقصير بعض الطبقات الشعبية». وقرر الصدر وقف العمل السياسي في كل مفاصل التيار الصدري، واستثنى العمل السياسي لتشكيل كتلة «عابرة للطائفية»، ودعا كتلة «الأحرار» التابعة له إلى مقاطعة جلسات البرلمان «ذات المحاصصة»، مشيراً إلى أن «رئيس الوزراء يتعرض لضغوط كبيرة من قبل القوى السياسية». وأوضحت مقاطع فيديو نشرت أمس المئات من المتظاهرين وهم يجلسون في قاعات البرلمان ويتجول آخرون داخل المنطقة الخضراء ويعبرون الجسر المعلق للمرة الأولى منذ 13 عاماً.
وقد أدانت الرئاسات الثلاث وعدد من قادة الكتل السياسية في العراق اقتحام متظاهرين مجلس النواب والاعتداء على عدد من أعضائه، ووصفوا ذلك بالتجاوز الخطير لهيبة الدولة.وقال بيان للرئيس العراقي فؤاد معصوم إن الرئاسات وقادة الكتل رأوا في ختام اجتماع عقدوه اليوم الأحد أن ما حدث يعد خرقا فاضحا للإطار الدستوري يستدعي مقاضاة المعتدين أمام العدالة، مؤكدا دعم المجتمعين للقوات الأمنية، وحثها على القيام بمسؤوليتها في حفظ الأمن العام للمواطنين وحماية المؤسسات من أي تجاوز عليها من أي جهة كانت. ودعا المجتمعون إلى اعتماد القانون والسياقات الدستورية في فرض سيادة القانون وهيبة الدولة.من جهته، طالب رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بملاحقة الذين خرقوا القانون من بين المتظاهرين. وقال مكتب حيدر العبادي -في بيان اليوم الأحد- إن “رئيس الوزراء وجّه وزير الداخلية محمد الغبان بملاحقة العناصر الذين اعتدوا على القوات الأمنية وأعضاء مجلس النواب وقاموا بتخريب الممتلكات العامة، وإحالتهم إلى القضاء لينالوا جزاءهم العادل”.
أما رئيس كتلة “متحدون للإصلاح” أسامة النجيفي فقد حمّل العبادي مسؤولية اقتحام آلاف المتظاهرين المنطقة الخضراء.وقال النجيفي إن ما حدث يؤشر على جملة من الحقائق ينبغي الوقوف عندها بهدف معالجتها بدل الدوران في حلقة مفرغة لا تقود إلا إلى “تدمير العراق وضرب وحدته وطعن أهداف شعبه”.من جانبها، أدانت الكتل الكردستانية في البرلمان العراقي اليوم عملية اقتحام البرلمان أمس السبت، مؤكدة أنه سيكون لها موقف آخر من هذه الأحداث.وشددت الكتل الكردستانية على أن هذه الأفعال تظهر أن هناك أجندة حزبية وشخصية وراءها، مشيرة إلى أنها ستعيد النظر في مشاركتها في العملية السياسية بالعراق.
ولم تنحصر تلك الإشكالات في السياق الداخلي العراقي فقط، بل إن عددا من المؤسسات والدول أعربت عن قلقها إزاء التطورات السلبية في العراق،فالنظام الإيراني وعبر مواقع إلكترونية مقربة من الحرس الثوري طالبت مقتدى الصدر اعتزال العمل السياسي والتفرغ للدراسة، وهذا يعني أن النظام الإيراني مستاء من اقتحام أنصاره للمنطقة الخضراء. ومن جانبها دانت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني اقتحام الآلاف من المتظاهرين البرلمان وقالت في بيان إن “الهجوم على مجلس النواب العراقي والتظاهرات العنيفة في بغداد قد يزيدان من تفاقم الوضع المتوتر أصلا”، معتبرة أن الأمر يتعلق بـ”عرقلة متعمدة للعملية الديمقراطية”، وقد شددت أيضا على الحاجة الملحة إلى “العودة إلى النظام سريعا لما فيه مصلحة الشعب العراقي وكامل المنطقة التي تواجه تهديدات كثيرة”.
كما أن هذا الاقتحام يشكل مصدر إزعاج كبير للإدارة الأمريكية، إذ تؤثر بشكل سلبي على حربها ضد تنظيم الدولة لاسيما وأن حليفها في بغداد حيدر العبادي بدأ يفقد سيطرته عليها. وفقا للإدراة الأمريكية. نظرا للهيمنة الطائفية الشيعية القوية على طبيعة العمل السياسي والحكومي في العراق، فإن اقتحام البرلمان لم يتسبب في نشوب أحداث عنف خلفت وراءها ضحايا، بل إن المتظاهرين اعترفوا بأن التعامل الأمني معهم لم يكن صارما، فيما انتشرت ميليشيات الحشد الشعبي في نقاط حساسة تحيط ببغداد لحماية تلك الاعتصامات من هجمات لداعش، الأمر الذي يكشف أن القوى الطائفية في العراق تريد تسييج المعركة طائفيا وكأنها معارك للشيعة في ما بينهم على كل العراق.
وفي هذا السياق يطرح المراقبون للشأن العراقي عدة أسئلة : ما هو الدور الأمريكي المرتقب في هذه الأزمة؟ هل ستحترم الإدارة الأمريكية ارادة العراقيين الثائرين المنتفضين ضد قوى الفساد ومافيات السرقات وأحزاب المحاصصة الطائفية المقيتة الذين اساءوا للعراق وللعراقيين ونهبوا أموال خزينة العراق، وهل ستقف بحيادية تامة مما يجري بأعباره شأن داخلي في البيت العراقي أم انها ستعيد ترتيب اوراقها بشكل آخر يتلائم وفقا للتحولات والمعطيات الجديدة على ارض الواقع العراقي؟هل ستضغط الأدارة الأمريكية على رئيس الوزراء حيدر العبادي لتشكيل حكومة تكنوقراط حقيقية من أشخاص مهنيين مستقلين يمتلكون الكفاءة العالية، لا تربطهم صلة بأحزاب السلطة ولا يأتمروا برؤساء الكتل السياسية المهيمنين بنفوذهم ومليشاتهم على القرارات السياسية، لأمتصاص نقمة الشارع العراقي الثائر والممتعض حد الغضب مما يجري خلف الكواليس من صفقات تجارية مسيسة بين الكتل السياسية المتصيدة في مياه السياسة العكرة؟
أم هل ستغير الإدارة الأمريكية منهجها وبرامجها وتكتيكها السياسي في العراق تجنبا للانتقادات الدولية واستباقا لما قد يحدث من أزمات وصراعات وانقسامات تخرج عن دائرة التوقعات وتضعها في خانة الأحراج؟ وهنا سيكون السؤال الافتراضي: هل ستضحي الإدارة الأمريكية بالحكومة الحالية وتجري مباحثات حقيقية مع ممثلي الإرادة العراقية من وطنيين وسياسيين مستقلين وقادة تنظيم مدنيين متظاهرين ومعتصمين ومنظمي الجماهير الثائرة من كافة اطياف الشعب العراقي لتعتذر عما جرى وما يجري بسبب سياساتها التعسفية الخاطئة في العراق، وبدء صفحة جديدة من علاقات دبلوماسية يشوبها الاحترام والعقلنه وعدم التدخل في سياسة وسيادة العراق الداخلية, ام ان الأدارة الأمريكية لها جواب آخر لا تفصح به ظاهريا، ولن تتخلى عن الكعكة العراقية الطيبة المذاق مهما كان الثمن، ولن تتنازل عن سياسة التصيد بسنارتين؟!
ونظراً للأزمة السياسة الراهنة في العراق والتي تعد عملية الاقتحام آخر تجلياتها، متوقعة لاسيما وأن مقتدى الصدر أشار إلى ذلك في تصريحات سابقة له إذ يستعين مقتدى الصدر بالشارع لحسم خلافاته مع الخصوم السياسيين، خاصة في ظل وقوف غريمه، رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي وراء اعتصام النواب في مقر مجلس النواب. وكان هذا الاعتصام يهدف إلى خلط الأوراق وتخويف الأحزاب من انهيار العملية السياسية حتى يقبلوا باستمرار نظام المحاصصة لتشكيل الحكومة. لكن هدفه المباشر كان إفشال الإعلان عن حكومة يسيطر التيار الصدري على أبرز وزاراتها. لاسيما بعد التوصل إلى اتفاق بين مقتدى الصدر و حيدر العبادي يقوم على انهاء الاعتصام في المنطقة الخضراء مقابل حصول التيار الصدري على ست حقائب، أبرزها المالية والتخطيط، والكهرباء، والعدل، والثقافة.
من جهتها، قالت رئاسة الهيئة السياسية للتيار الصدري إن كتلة الأحرار التابعة لها مستمرة في تعليق عملها السياسي حتى تصحيح مسار العملية السياسية وإنجاز الإصلاحات التي طالب بها المتظاهرون. وأضافت الهيئة -في بيان لها- أن اقتحام المنطقة الخضراء ومبنى مجلس النواب العراقي من قبل المتظاهرين ما هو إلا رسالة تحذير للأحزاب التي “عميت عن رؤية الحقيقة”، مبينة أن السبب في كل ما حصل هو “التخبط والاضطراب” الذي اعترى العملية السياسية، والتغاضي عن “مطالب الشعب، و”الإمعان” في تكريس الفشل المتمثل في الإدارة السيئة لمؤسسات الدولة. وأكدت الهيئة في بيانها رفضها أي اعتداء يطول الأنفس المحرمة وأي ترويع للآمنين أو أي تعدٍ على ممتلكات الدولة العامة والممتلكات الخاصة وأي محاولة لحرف جهود الإصلاح عن هدفها النبيل.
بات العراق اليوم وصفة إخفاق مطلق لا تكفّ عن هندستها النخبة السياسية التي تحكمه. ما لا شكّ فيه أنّ الباحث عن عناوين تصف الكارثة العراقيّة يقع على الكثير منها، يتصدّرها العنوان الكارثيّ عن استبدال صدّام حسين بعدد من المستبدون المفتّتين الصغار. ولئن جاز دائماً نقد الاحتلال الأميركيّ، وبين أسوأ أفعاله تسليم حكم العراق لأمثال هؤلاء، فقد بات واضحاً أنّ الوظيفة الخفيّة للمبالغة في هذا النقد، حين تصدر عن حكّام بغداد، إنّما هي تحويل الأنظار عن أنفسهم ورفع مسؤوليّتهم عمّا هم وحدهم مسؤولون عنه. فالعراق مشهد لا يخطئه البصر عمّا تفعله التوتاليتاريّة حين تصادر السياسة لعشرات السنين، وتمنع أدنى تعابير الاختلاف الذي يحتقن في صدور المعارضين الآتين من أوكار العمل السرّيّ ومن مخازن المؤامرات والدسائس، يحرّكهم الانتقام لجماعتهم الطائفيّة، ولا يجدون مثالاً لهم إلاّ في الحاكم الشمولي الذي كانوا يعارضونه في المنافي.
هؤلاء لا يلوح لهم الزمن أطول من يومين أو ثلاثة، ينتقمون فيها من ذلك الحالم وينهبون ما وسعهم النهب كي يحصّنوا أنفسهم حيال مصير كمصيره. وكما يصغر الزمن يتقلّص الوطن نفسه ليغدو عشيرة يعلوها طوطم صغير، يسكنه مثال طوطم كبير، فيما تستأجر إيران الطواطم وعشائرهم بأزهد الأثمان. فعراق اليوم ينطبق عليه القول الزعيم الهندي غاندي “كثيرون حول السلطة وقليلون حول الوطن”.
إذ أفضت العملية السياسية في العراق منذ عام 2003م وإلى يومنا هذا، إلى صراع على النفوذ والمصالح بين الكتل والأحزاب السياسية في العراق، فما عاد هذا الصراع بين السنة من جانب والشيعة من جانب آخر، بل تطور الصراع في العراق ليصبح داخل التحالف الوطني الشيعي لكن لن تسمح الولايات المتحدة الأمريكية والنظام الإيراني بأن يصل هذا الصراع إلى مستوى الحرب الأهلية داخل البيت الشيعي، وسيتدخلون في لحظة معينة لإنهائه، فالحرب بالنسبة الأولى نهاية مشروعها في العراق والثانية نهاية نفوذها فيه.
يبدو أن العراق مقبل على صيف شديد الحرارة بدأت درجاته السياسية والعسكرية والاقتصادية ترتفع، فعلى المستوى السياسي مرّ -ولايزال- يمر مجلس النواب العراقي أيام عصيبة من محاولة النواب المعتصمون التابعين لرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي من محاولة تثبيت إقالة رئيس مجلس النواب ونائبيه، واقتحام أنصار التيار الصدري مجلس النواب العراقي، وعسكرياّ اذ تشهد جبهات القتال وضعاً سيئاً ضد تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام”داعش” أما اقتصاديا فالعراق يعاني من أزمة اقتصادية خانقة. ويمكن للعراق أن يتجاوز شدة هذا الصيف إذا اعتمد مقاربة لحل أزماته لا تقوم على البعد الطائفي أو القومي وإنما الاعتماد على البعد الوطني، وإلا ستتحول هذه الأزمات إلى طوفان لن يسلم منه أحد. فهل الطوفان ينتظر العراق؟!
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية