لم يكن اقتحام المحتجين مبنى البرلمان العراقي، يوم 30 أبريل الماضي، حدثاً عابراً، بل شكَّل انعطافة مهمة في الحركة الاحتجاجية بالعراق المستعرة منذ الصيف الماضي، والمطالبة بإصلاح النظام السياسي، والقضاء على الفساد المستشري في دوائر ومؤسسات الدولة.
وتكمن المشكلة في أن الأحزاب السياسية العراقية المشتركة في الحكومة، لا ترغب في إجراء التعديل الوزاري والإتيان بحكومة تكنوقراط، لأن ذلك سيجردها من مصادرة القوة والثروة التي تمتعت بها طول السنوات الماضية، لكنها الآن في موقف محرج.
ويبدو أن عدم الموافقة على تشكيل حكومة تكنوقراط مستقلة سيفاقم الأزمة ويدخلها في متاهات قد تكون خطيرة خصوصاً مع تدهور الأمن، إذ أشار تقرير للأمم المتحدة إلى أن أكثر من ألفي شخص سقطوا بين قتيل وجريح خلال شهر أبريل الماضي وحده، نتيجة التفجيرات الإرهابية في عموم العراق.
بداية الاحتجاجات
بعد أن كان المحتجون يتظاهرون في ساحة التحرير وسط بغداد، تقدموا خطوة أخرى نحو مقر الحكومة في شهر مارس الماضي، وأقاموا مخيمات عند مداخل المنطقة الخضراء شديدة التحصين، مُطالبين بتشكيل حكومة تكنوقراط غير سياسية لإدارة البلاد، ولم ينهوا اعتصامهم حتى استجاب رئيس الوزراء حيدر العبادي لمطالبهم وقدم إلى رئيس البرلمان، سليم الجبوري، أسماءً وسيراً ذاتية لمرشحين مستقلين اُختيروا على عجل لشغل الوزارات العراقية.
وقد أضاف انضمام رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري الذي يتشكل أنصاره في العادة من الفقراء، والمُمثل في البرلمان بكتلة “الأحرار” ذات الأربعة وثلاثين مقعداً، زخماً هائلاً لهذه الاحتجاجات، وجعل الكتل السياسية الأخرى تتعامل معها بجدية وتخشى اتساعها وتفاقمها.
لكن رئاسة البرلمان ترددت في عرض قائمة المرشحين التكنوقراط على مجلس النواب، ثم أعلنت أنها ستتخذ قراراً بهذا الشأن خلال عشرة أيام، ولم تتخذ القرار حتى بعد انقضاء مهلة الأيام العشرة وإجراء اللجان البرلمانية المتخصصة مداولات مستفيضة حول المرشحين، ثم توقيع قادة الكتل السياسية ما سُمي بـ”وثيقة الشرف” التي تُبقي على المحاصصة الطائفية والسياسية.
تفاقم الأزمة
لقد أحدث كل ما سبق استياءً عارماً وتمرداً حتى داخل البرلمان نفسه، إذ أقدم عدد من النواب على تشكيل جماعة برلمانية ضاغطة تهدف إلى إحداث إصلاح جذري يبدأ بإقالة الرئاسات الثلاث، النواب والوزراء والجمهورية، وانتخاب بدائل عنها، ثم تشكيل حكومة على أُسس جديدة غير خاضعة للمحاصصة الطائفية والعرقية وحتى السياسية السائدة في العراق منذ بدء العملية السياسية قبل 12 عاماً، والتي يعتبرها البعض السبب الرئيس لحالة عدم الاستقرار في البلد.
وكان نواب كتلة “الأحرار” بين هؤلاء النواب المعتصمين الذين لم يُعرف عددُهم الحقيقي بالضبط بسبب اختلاف التقديرات وتذبذب المواقف، ولكن يمكن القول إن العدد قد تراوح في الأيام الأولى للاعتصام بين 170- 180 نائباً، وهذا عدد كافٍ لاتخاذ قرارات مهمة داخل البرلمان ذي الثلاثمائة وثمانية وعشرين مقعداً، إذ يحتاج تمرير أي قرار فيه إلى 165 نائباً فقط.
وقد انتخب المعتصمون رئيساً مؤقتاً للبرلمان أثناء جلسة برلمانية عادية كانت قد بدأت برئاسة سليم الجبوري، لكنه غادر الجلسة على عجل بسبب اشتداد المعارضة له بين النواب من دون أن يرفع الجلسة، ما مكّنهم من الاستمرار بدونه، مستندين إلى مادة دستورية والنظام الداخلي لمجلس النواب الذي يجيز انتخاب رئيس جديد في حال شغور الموقع لأي سبب كان، وقد اعتبروا مغادرته من دون رفع الجلسة شغوراً لموقع رئاسة البرلمان. وقد انتُخب النائب عدنان الجنابي من كتلة “الوطنية” بزعامة رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي، رئيساً مؤقتاً على أمل أن تُعقد جلسة أخرى برئاسته لانتخاب بدلاء لرئيس البرلمان سليم الجبوري ونائبيه، همام حمودي وآرام محمد.
لكن انسحاب نواب كتلة “الأحرار” المفاجئ من الاعتصام، وتغيب آخرين وانسحاب البعض الآخر، قد قلص عدد النواب المعتصمين إلى ما دون النصاب القانوني البالغ 165 نائباً، وقد أعاق ذلك المعتصمين من عقد جلسة أخرى تُمكِّنهم من الشروع في عملية التغيير الشامل التي أعلنوا عنها عند بداية احتجاجهم.
وسبب انسحاب كتلة الأحرار من الاعتصام هو خشية زعيمها مقتدى الصدر من أن يسيطر نواب كتلة “دولة القانون” بزعامة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، على الأحداث ويستغلوها لإعادة زعيمهم إلى السلطة مرة أخرى، ويأتي ذلك على خلفية الخلاف الحاد بين الصدر والمالكي منذ أن كان الأخير رئيساً للوزراء في الفترة 2006-2014.
وبعد أن هدأت العاصفة وعجز المعتصمون أن يحدثوا التغيير الذي كانوا ينشدونه، عاد رئيس البرلمان المُقال سليم الجبوري ليترأس الجلسة وسط احتجاجات النواب المعتصمين وإعلانهم بأن الجلسة غير شرعية باعتبار أن الجبوري قد أُقيل في جلسة سابقة ولا يحق له ترؤس جلسات البرلمان. وفي تلك الجلسة، صوت البرلمان على التعديل الوزاري وأقر تعيين خمسة وزراء جدد، هم وزراء الكهرباء، والموارد المائية، والعمل والشؤون الاجتماعية، والصحة، والتعليم العالي والبحث العلمي. غير أنه فشل في التصويت على المرشحين الآخرين، ما دفع رئيس الوزراء إلى البحث عن أسماء جديدة، طالباً مهلة حتى الثلاثين من أبريل المنصرم.
ضغوط على العبادي، واقتحام البرلمان
كان العراقيون ينتظرون يوم 30 من الشهر الماضي، لاستكمال التعديل الوزاري واستبدال الوزراء السياسيين المتبقين بآخرين تكنوقراط، بيد أن رئيس الوزراء قد وقع تحت ضغوط من كتلتي تحالف القوى (السنية) والتحالف الكردستاني للإبقاء على وزرائهما في الحكومة، وقد رضخ العبادي لهذه الضغوط وقرر الإبقاء على خمسة وزراء من الحكومة الحالية، وهم وزراء الداخلية، والدفاع، والنفط، والمالية، والتربية والتعليم، وهناك أنباء عن الإبقاء على وزارات أخرى بأيدي الأحزاب.
وقد أغضب هذا الأمر مقتدى الصدر الذي ألقى خطاباً حماسياً دعا فيه إلى “ثورة” كبرى ضد المحاصصة والفساد. وبعد تلك الخطبة بدقائق، اندفع آلاف المتظاهرين نحو المنطقة الخضراء عابرين جسري المعلق والجمهورية باتجاه مبنى البرلمان الواقع في قصر المؤتمرات، وقد دخلوه واحتلوه لفترة ست ساعات تقريباً، ثم غادروا بعد ذلك. كما اتجه آلاف آخرون من مداخل أخرى إلى ساحة الاحتفالات عند قوس النصر وسط المنطقة الخضراء، وأطلقوا هتافات منددة بالمحاصصة والتدخل الخارجي، ومطالبة بحكومة تكنوقراط مستقلة عن الأحزاب السياسية، كي تدير البلاد بكفاءة وتقضي على الفساد وتنعش الاقتصاد.
ومن الأحداث المؤسفة أن بعض المحتجين اعتدوا بالضرب على عدد من النواب والموظفين داخل مبنى البرلمان، ودمروا بعض الأثاث، لكن لجنة التظاهرات قالت إن هذه التجاوزات فردية. كما أعلنت الحكومة أنها ستلاحق الأفراد الذين اعتدوا على الأشخاص والممتلكات، مؤكدةً حق المواطنين في الاحتجاج السلمي.
رد فعل الرئاسات الثلاث
عقد الرؤساء الثلاثة، الجمهورية والوزراء والبرلمان، بالإضافة إلى عدد من قادة الكتل السياسية، اجتماعاً في القصر الرئاسي تدارسوا فيه الوضع العام في البلاد وكيفية التوصل إلى حلول مقبولة للمشكلة السياسية، وأصدروا بياناً دعوا فيه المتظاهرين إلى ضبط النفس والتقيد بالنظام والقانون.
وأشارت أنباء إلى أن القوات الأمنية الموجودة عند مداخل المنطقة الخضراء لم تمنع المتظاهرين من دخولها، كما أن بعض الكتل الأسمنتية المحيطة بالمنطقة لم تكن منيعة بما فيه الكفاية، حيث إن المتظاهرين تمكنوا من إزالتها دون عناء.
وأشار بعض المراقبين إلى وجود اتفاق غير مُعلن بين رئيس الوزراء وزعيم التيار الصدري بالسماح للمتظاهرين بدخول المنطقة الخضراء لممارسة الضغط على مجلس النواب من أجل التصويت على التعديل الوزاري المنشود، إلا أن رئاسة الوزراء نفت ذلك جملة وتفصيلاً.
مدى مسؤولية العبادي عن تصاعد الأزمة
لم يبرهن رئيس الوزراء، حيدر العبادي، على مهارات قيادية متميزة في اتخاذ القرار حتى عندما كانت الظروف مواتية لذلك عند بدء الاحتجاجات في الصيف الماضي، فبدلاً من التخلص من الوزراء الحزبيين الذين يعيقون عمله ولا يمتثلون لتوجيهاته، بل يتلقون التعليمات من قادة كتلهم، واستثمار الفرصة لتشكيل حكومة جديدة من التكنوقراط تكون مسؤولة أمامه فحسب، أقدم على إقالة نواب رئيس الجمهورية الثلاثة، الذين لا يؤثرون على عمله أصلاً لأنهم لا يتمتعون بأي صلاحيات حقيقية، ونواب رئيس الوزراء الثلاثة، الذين تنحصر صلاحياتهم بما يكلفهم هو من واجبات لمساعدته في إدارة ملفات مهمة مثل الطاقة والخدمات، فضلاً عن أن معظم المُقالين من زعماء الكتل السياسية المؤيدة له أصلاً.
وبدلاً من السعي حثيثاً لتعظيم موارد الدولة المالية وحل مشاكلها، أقدم على دمج وزارات مهمة مثل وزارات السياحة والآثار، والبيئة، والعلوم والتكنولوجيا، بوزارات أخرى تعاني أصلاً مشاكل حقيقية مثل وزارات الثقافة، والصحة، والتعليم العالي والبحث العلمي. لقد أُنشِئت وزارة السياحة والآثار قبل خمس سنوات كي تضطلع بتطوير هذا القطاع الحيوي وجعله يدر إيرادات مهمة على الدولة، خصوصاً أن العراق من البلدان التي تزخر بالآثار. بينما أُنشِئت وزارة البيئة لتنظيف البيئة العراقية الملوثة بسبب تواصل الحروب وانتشار الألغام وتراكم النفايات السامة وبقايا الحروب والمتفجرات. وكذلك أُنشئت وزارة العلوم والتكنولوجيا من أجل إزالة التخلف التكنولوجي الذي عم العراق بسبب الحصار والحروب.
مفتاح حل الأزمة
لن تنتهي الأزمة الحالية إلا بتشكيل حكومة تكنوقراط قادرة على حل المشاكل المعقدة التي يمر بها العراق، خصوصاً المشكلة الاقتصادية وتفاقم الفساد. وستضطر الأحزاب السياسية المعارضة للإصلاحات إلى القبول بهذه الحكومة، خصوصاً أنها لن تدوم أكثر من سنتين، إلى حين تشكيل الحكومة المقبلة بعد الانتخابات التي ستُجرى على الأرجح منتصف عام 2018. وسوف تدرك الأحزاب السياسية أن الموافقة على حكومة التكنوقراط ستجعلها تظهر بمظهر الحريص على مصالح الشعب، وهذا سيُحسن من فرص إعادة انتخابها أو على الأقل يحد من تدهور شعبيتها، أما الإصرار على المشاركة في الحكومة الحالية، وفي ظل أوضاع اقتصادية صعبة، لن يدر عليها أي منافع مادية أو سياسية.
ختاماً، لقد بلغت الأزمة السياسية العراقية مرحلة الخطر الحقيقي، وإن لم تدرك القوى السياسية هذا الخطر المُحدق بها وبالعراق كدولة متماسكة، فإن الجميع ومعهم البلد كله يتجه نحو التشتت والفوضى والمستقبل المجهول، وهذا ليس في مصلحة أي من القوى السياسية الحالية ولا في مصلحة دول المنطقة أو المجتمع الدولي الذي سيضطر للتدخل مرة أخرى ويتحمل تكاليف مادية وبشرية جديدة.
وقد زار العراق مؤخراً نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن، والتقى المسؤولين المعنيين بالأزمة. كذلك فإن إيران ليست بعيدة عن الأحداث، بل هي على تواصل مع المسؤولين العراقيين، وبالتأكيد فإن ما نُشر عن زيارة مقتدى الصدر إلى إيران، يوم 2 مايو الجاري، يتعلق بالأساس بالأزمة السياسية في العراق.
حميد الكفائي
مركز المستقبل للابحاث والدراسات الاستراتيجية