خلال المرحلة السابقة، استُخدم داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) ضد تركيا كأداة سياسية رخيصة، وقد صُنعت أساطير وروايات كثيرة عن التعاون بين الطرفين لاسيما فيما يتعلق بتجارة النفط، خاصة بعد أن أسقطت أنقرة المقاتلة الروسية التي اخترقت أجواءها، حتى وصل الأمر إلى درجة أن يقول نائب وزير الدفاع الروسي بنفسه أن الرئيس التركي وعائلته يتاجرون بالنفط مع تنظيم داعش!
لكن ما نشر قبل وبعد ذلك من وثائق لم يدع مجالا للشك أبدا حول طبيعة تجارة النفط التي كان تنظيم داعش يديرها والعلاقة بينه وبين مثلث الأسد وروسيا وإيران.
النفط مقابل المال
قصة داعش مع النفط في سوريا بدأت بعد أن استولى التنظيم على آبار النفط شرقي البلاد عام 2013، ومنذ ذلك الحين، بدأت مهمة تمويل داعش من قبل نظام الأسد ضمن صفقة النفط مقابل المال. لم يتوقف الأمر عند التمويل فقط، بل تعداه إلى التشغيل المشترك أيضا سواء من خلال وسيط أو من خلال موظفي الحكومة السورية التابعة لنظام الأسد.
“في مارس/آذار من العام 2015، أصدر الاتحاد الأوروبي لائحة عقوبات تضمنت لأول مرة اسم شخص يدعى جورج حسواني، وقد تم تعريفه حينها على أنه الرجل الوسيط بين داعش ونظام الأسد، وهو مسيحي سوري يحمل الجنسية الروسية، ويمتلك شركة مقاولات”
في مارس/آذار من العام 2015، أصدر الاتحاد الأوروبي لائحة عقوبات تضمنت لأول مرة اسم شخص يدعى جورج حسواني، وقد تم تعريفه حينها على أنه الرجل الوسيط بين داعش وبين نظام الأسد، وهو مسيحي سوري يحمل الجنسية الروسية أيضا، ويمتلك شركة مقاولات تدعى (HESCO) يدير مكتبها في موسكوشقيق زوجته.
عندما استولى داعش على معمل الطبقة في أغسطس/آب 2014، كانت شركة جورح حسواني لا تزال تدير المعمل، وبقي داعش يمد النظام بالطاقة منها، وقد ظل الموظفون الرسميون يعملون في حقول النفط والغاز التي يسيطر عليها التنظيم في الوقت الذي كانوا لا يزالون يتلقون فيه رواتبهم من نظام الأسد عبر وزارة النفط. لقد كان نظام الأسد حينها يشتري النفط من التنظيم ثم يعيد بيعه بسعر منخفض نسبيا مقارنة بالنفط الذي يباع في مناطق سيطرة المعارضة.
في تلك الفترة كشف المركز السوري لبحوث السياسات أن خسائر سوريا فاقت الـ 200 مليار دولار. ولا شك أن النظام كان يعاني إفلاسا ماليا لولا الدعم المالي الإيراني الذي كان يتراوح وفقا للتقديرات بين 6 و 14 مليار دولار سنويا، وقد تحدثت تقارير حينها عن أن الأسد وافق على بيع أو رهن أملاك تعود للدولة السورية مقابل استمرار المساعدات المالية المتدفقة من طهران، ولا شك أنه كان يستفيد من هذا الدعم في تمويل علاقاته التجارية مع العديد من الأطراف من بينها داعش.
في ديسمبر/كانون الأول من العام 2015 ، قال آدم سزوبن وكيل وزارة الخزانة الأميركية للإرهاب والاستخبارات المالية إن الغالبية العظمى من نفط داعش يذهب إلى مناطق تحت سيطرة نظام الأسد، وقد قدرت حينها مبيعات داعش من النفط بحوالي 40 مليون دولار شهريا، محققا ما مجموعه حوالي نصف مليار دولار.
الوثائق الفاضحة
هذه المعلومات لم تكن مجرد تخمينات أو ادعاءات، ففي مايو/أيار من العام 2015، قامت قوات كوماندوز أميركية خاصة بعملية داخل الأراضي السورية أدت إلى مقتل المسؤول المالي الذي يدير عمليات بيع النفط في تنظيم داعش ويدعى أبو سياف، وفي تلك العملية تم الاستيلاء على آلاف الوثائق التي عثر عليها في مقر أبي سياف في دير الزور، وقد عرفت العملية فيما بعد بأكبر عملية إغارة في تاريخ القوات الأميركية الخاصة نظرا للحجم الهائل من الوثائق التي عُثر عليها والتي تعود إلى التنظيم.
في نوفمبر/تشرين الثاني من العام 2015، عقد اجتماع مصغر رفيع المستوى للمجموعة الأساسية لمكافحة داعش في بروكسل. في ذلك الاجتماع المغلق شرح مبعوث الرئيس الأميركي أوباما للتحالف الدولي ضد داعش برت ماكغرك حيثيات العملية الخاصة التي أدت إلى مقتل أبي سياف، وكيف تم جمع المعلومات اللازمة للعملية، وطريقة التنفيذ، ومن ثم الدروس والعبر التي تم استخلاصها.
وقال ماكغرك في ذلك الاجتماع المغلق إن داعش حصل على عوائد أكبر بكثير مما كان التحالف يظن سابقا. وعلى ما يبدو فقد تم التوصل إلى هذا الاستنتاج من خلال الوثائق التي تم الاستيلاء عليها آنذاك وجرى تحليلها ودراستها فيما بعد.
لقد كشفت هذه الوثائق حجم التعاون بين الأسد وتنظيم داعش، و كيف قام الطرفان بترتيبات نفعية متبادلة على الرغم من ادعاء كل منهما أن الهدف من حربه هو القضاء على الطرف الآخر. واستنادا إلى تحليل الوثائق، لم يعد هناك أدنى شك في تعامل الأسد مع تنظيم داعش.
“لقد كشفت الوثائق حجم التعاون بين الأسد وتنظيم داعش، و كيف قام الطرفان بترتيبات نفعية متبادلة على الرغم من ادعاء كل منهما أن الهدف من حربه هو القضاء على الطرف الآخر. واستنادا إلى تحليل الوثائق، لم يعد هناك أدنى شك في تعامل الأسد مع تنظيم داعش”
بعد الكشف عن فحوى هذه الوثائق، قامت وزارة الخزانة الأميركية في 25 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 بفرض عقوبات على جورج حسواني وعلى شركته التي تقع في روسيا وكذلك على رجال أعمال آخرين، بالإضافة إلى مؤسسات وبنوك في روسيا وقبرص.
في أبريل/نيسان 2016، قامت بعض الصحف بنشر ما تضمنته بعض الوثائق عن العلاقة بين نظام الأسد وداعش، وتطلب إحدى الوثائق التي عثر عليها (تحمل الرقم 156 ومؤرخة في 11 فبراير/شباط 2015) والموجهة من ديوان بيت المال (وزارة المالية) لمكتب أبو سياف مشورة بخصوص تأسيس علاقات استثمارية مع رجال أعمال على تواصل مع نظام الأسد. وقد أشارت الوثيقة المذكورة إلى وجود اتفاقيات فعلية سابقة بين الطرفين تسمح بمرور الشاحنات وخطوط الأنابيب من مناطق سيطرة النظام إلى المناطق التي تقع تحت سيطرة التنظيم دون التعرض لها.
وتؤكد الوثائق ما قيل سابقا عن التعاون على التشغيل المشترك بين داعش ونظام الأسد، وكيف أن التنظيم لم يقم بطرد أو قتل موظفي الحكومة السورية في الحقول النفطية التي احتلها، وإنما قام بدلا من ذلك بدفع مرتبات لهم تفوق ما يتقاضونه من نظام الأسد، وفي بعض الأحيان بلغت أربعة أضعاف ما كانوا يتقاضونه.
وتظهر بعض هذه الوثائق أن حجم العوائد المالية المتأتية من بيع هذه الموارد بلغت 289 مليون دولار ونصف في ستة أشهر حتى نهاية فبراير/شباط 2015 ، منها 70% جاءت من حقول نفط أبو سياف. كما تظهر أن التنظيم كان يستطيع التعافي والعودة بشكل سريع بعد الضربات، وفي إحداها يعد التنظيم بعودة الإنتاج النفطي خلال 14 يوما من إجراء عمليات الصيانة.
روسيا على الخط
لقد أصبحت طبيعة العلاقة بين داعش والأسد مثبتة ومؤكدة، لكن عنصرا جديدا دخل على المعادلة مؤخرا وهو العنصر الروسي. في فبراير/شباط 2016، نشرت الفورين بوليسي تقريرا مفصلا تحت عنوان “لماذا يعمل مهندسون روس في مصنع غاز تسيطر عليه داعش في سوريا”؟، ومرة أخرى يبرز هنا أيضا اسم جورج حسواني لكن مع دور روسي ليكتمل بذلك مثل محور التجارة الداعشي الأسدي الروسي.
قبل الثورة السورية قام نظام الأسد بتكليف شركة الإعمار الروسية “ستروي ترانس غاز” التي يملكها الملياردير الروسي غينادي تيمتشينكو المقرب من بوتين ببناء منشأة توينان للغاز، وهي أكبر منشأة من نوعها في سوريا.
وفي العام 2014، سيطر تنظيم داعش على المنشأة، وبالرغم من ذلك، فقد استمرت أعمال البناء في الموقع من قبل الشركة الروسية والعمال الروس، وقد تبين لاحقا أن شركة المقاولات هيسكو الذي يمتلكها جورج حسواني كانت قد توصلت إلى اتفاق مع داعش يسمح بمتابعة الشركة الروسية لأعمال البناء مقابل تخصيص جزء من المنافع المتأتية من المشروع للتنظيم.
وذكرت تقارير أخرى أن الغاز المنتج في المصنع كان يتم إرساله إلى محطة توليد الكهرباء الحرارية التي يسيطر عليها التنظيم في حلب. وينص الاتفاق على إرسال 50 ميغاوات من الكهرباء للنظام، في حين تلقى التنظيم 70 ميغاوات من الكهرباء و300 برميل من المكثفات، بالإضافة إلى ما يقرب من 50 ألف دولار شهريا لحماية معدات هيسكو القيمة في الموقع.
“في فبراير/شباط 2016، نشرت الفورين بوليسي تقريرا مفصلا تحت عنوان “لماذا يعمل مهندسون روس في مصنع غاز تسيطر عليه داعش في سوريا”؟، ومرة أخرى يبرز هنا أيضا اسم جورج حسواني لكن مع دور روسي ليكتمل بذلك مثل محور التجارة الداعشي الأسدي الروسي”
في 2 مايو/أيار الحالي، بثت قناة سكاي نيوز تقريرا عن وثائق كانت قد حصلت عليها من بعض المنشقين عن داعش تثبت أيضا وجود علاقة بين مثلث الأسد وداعش وروسيا. وتوضح الوثائق أن استعادة نظام الأسد لمدينة تدمر خلال أيام قليلة فقط في 27 مارس/آذار 2016 إثر الهجوم الذي تم بدعم روسي “كان جزءا من اتفاق سري تم الترتيب له مسبقا، ويسمح بنقل داعش أسلحته الثقيلة من المدينة قبل الانسحاب المتفق عليه”، وهو الأمر الذي تم بالفعل كما أثبتت الوقائع على الأرض دون التعرض للتنظيم.
هذه الحقائق أصبحت تؤكد يوما بعد يوم ما كان معلوما بالضرورة عبر التحليل، فتنظيم داعش في نهاية المطاف كان الأداة المثالية لكافة أعداء الشعب السوري، وخشبة الخلاص لنظام الأسد وحلفائه. فالتنظيم انتزع عام 2013 الأراضي التي حررها الجيش الحر من الأسد، وتوسع على حساب المعارضة وقتل الكثير من أفرادها واستولى على أسلحتهم، وأصبح يستخدم كمبرر لجرائم الأسد، كما أنه تحول إلى ذريعة إقليمية ودولية لتشتيت الجهود وخلط الأولويات.
فالجانب الإيراني أخذ يسوق لنفسه دوليا على أنه يتواجد في سوريا والعراق لمحاربة الإرهاب رغم أنه كان سببا من أسباب تواجده وتكاثره وخلق البيئة المناسبة له من خلال دعم الأسد والمالكي وتجنيد الميليشيات الطائفية، والجانب الأميركي وجد في داعش خير ذريعة للتهرب من تقديم الدعم الحقيقي للمعارضة السورية وللتهرب من مشكلة الأسد، والجانب الروسي تدخل في سوريا تحت شعار محاربة داعش وانتهى به الأمر بأجندة معلنة لدعم الأسد.
أما حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني وميليشيات وحدات حماية الشعب فقد حصلا على دعم هائل سياسي ومالي وعسكري تحت ذريعة محاربة داعش، في الوقت الذي تم فيه حرمان المعارضة السورية المسلحة من الدعم بنفس الحجة.
باختصار لقد تبين أخيرا أن داعش هو الاستثمار الأفضل لنظام الأسد والمحور الداعم له سواء بشكل مباشر أو غير مباشر
علي حسين باكير
الجزيرة نت