تحت الخسائر الكبيرة للقوات الإيرانية وحزبها العميل في لبنان، وخاصة في الميدان السوري، السؤال المهم والمتجدد عن مستقبل الإستراتيجية الإيرانية في المشرق العربي، وتمددها الأفقي أي في الجغرافية السياسية، أو العامودي، ونقصد به الولاء لمشروعها التوسعي عبر الطائفية السياسية، واستقطاباته الفاعلة.
وكثيرا ما تردد هذا السؤال بل وتبنته دول الخليج العربي، خلال الحرب الباردة بين الجمهورية الإيرانية والولايات المتحدة الأميركية، والتي كانت نشطة في الإعلام لكن دون مصادمات عسكرية، أو إستراتيجية نوعية.
وهو ضخ روج له الغرب مع دول الخليج لطمأنتها بفاعلية تلك الحرب، واستمرار تدفق مصالحه الاقتصادية معها كحديقة خلفية استنزفتها واشنطن طويلا، قبل أن تسقط هذه النظرية، وتتحول واشنطن إلى داعم للشراكة الإيرانية، وتتفق معها علنا في كثير من الملفات، ثم تراسل دول الخليج للرضوخ للمعادلة الجديدة.
“إن هيكلية الجمهورية الإيرانية، وأقاليمها المتعددة، وفسيفساء عرقياتها وتوجهاتها السياسية والفكرية القديمة، واندفاعها في التدخل والتواجد العسكري، كلها عناصر اضطراب مهمة، لكن ما هي إمكانيات إسقاط النظام وفقا للسياسة الإقليمية ولعناصر الاضطراب تلك؟”
فالعودة إلى ذلك السجل الذي بدأ من منتصف الحرب العراقية الإيرانية، حتى 2003 يعطي مؤشرا واضحا بأن هذا التقييم لم يكن دقيقا، وكان يُقدّم كوجبات إعلامية ساخنة، جزء منها للتضليل وجزء آخر ضمن إستراتيجية الحرب النفسية في الصراع الإقليمي الدولي، قبل صفقته الأخيرة.
فهل يعني هذا أن هذه المعادلة التي سنعرض لعناصر تأزمها الجديدة غير ممكنة، وأن إيران الإمبراطورية الطائفية الكبرى المعتمدة على روح وقومية حضارة فارس، لا تشكو من أية مخاطر ولا تصدعات سياسية أو غيرها؟
الجواب كلا، ليس هذا هو المقصود.
فهيكلية الجمهورية الإيرانية، وأقاليمها المتعددة، وفسيفساء عرقياتها، وتوجهاتها السياسية والفكرية القديمة، واندفاعها في التدخل والتواجد العسكري، كلها عناصر اضطراب مهمة، لكن السؤال الذي نحاول أن نصل إليه هو عن إمكانيات وقدرات الاضطرابات المختلفة والسياسة الإقليمية، في إسقاط نظام الجمهورية الطائفية، أو تمزيق جغرافية إيران، أو كسر مشروعها، وما هو العمر الافتراضي لذلك، وما هي قدرات المنافس المتصارع معها؟
هناك قدر كبير من أزمات الداخل والخارج تعيشها إيران ندرج أهمها في الآتي:
2- تعتبر المعارضة اليسارية في منظمة مجاهدي خلق وما استجد عليها من تحولات نحو التحرر الغربي، إضافة للمعارضين الليبراليين في الداخل والخارج، منظومات فكرية وسياسية قوية ثقافيا، ويستقطب بعضها عشرات الآلاف من العناصر الشبابية المتمردة على تزمت فكرة ولي الفقيه، لكنها لا تزال عاجزة عن اختراق السقف بما يهدد النظام السياسي.
ومؤخرا تحول العديد من المعارضين في المهجر -وهم يحملون جنسيات غربية- إلى شركاء للترويح لصناعة العهد الإيراني الجديد مع الغرب، وأصبحوا فاعلين في هذا المشروع، وكان لهم دور لوجستي كبير في الاتفاق النووي وما تبعه من تطورات.
كما كان لهم دور في صناعة الموقف الغربي واندفاعه الجديد نحو إيران الحضارية مقابل “التوحش العربي” بعد أن استقطبهم النظام، وخاصة من أبناء المذهب الشيعي للقومية الفارسية والأذرية الحاكمة في طهران، ومن خلال بوابة مصالح إيران القومية الكبرى.
3- تعتبر الحروب العسكرية والأمنية والسياسية التي خاضتها وتخوضها الجمهورية الإيرانية، في العراق وسوريا ولبنان واليمن من أكثر القضايا كلفة على الجمهورية الإيرانية، وهي تتعرض لضغوط كبيرة من نواح عدة، منها استنزاف بشري ومادي، من داخل إيران وقوميتها، ومنها الاستنزاف في الأحزاب العميلة لها في لبنان أو العراق، والتصدير المستمر من هذه الأحزاب والقوى إلى سوريا واليمن.
في حين أن باقي الميلشيات من شيعة مرتزقة، أو موالين طائفيا من باكستان وأفغانستان والهند، ليست لها أهمية المكونات الموجودة في الدول المذكورة (العراق، سوريا، لبنان، اليمن) والتي يترتب على قوتها، قوة النفوذ الإيراني في دولهم، فالاستنزاف في الدول الأربع، يبعثُ سخطا كما رُصد في ضاحية بيروت الجنوبية مؤخرا بعد مقتل العديد من القيادات النوعية وآخرهم العميل مصطفى بدر الدين في ظروف غامضة، تكتم عليها الحزب وإيران وسط توتر كبير.
وهذا العنصر أي التمدد العسكري والأمني، من أخطر المهدّدات، لكن جدولة الوقت وحجم الولاء الذي يُشعل في النفسية الشيعية الحركية، وجمهورها المتجدد، تحت الضخ الطائفي الإيراني، وعمليات داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) الإرهابية وغيرها في المدنيين الشيعة، لا تزال تمثل خزانا متدفقا لمشروع طهران التوسعي.
4- حركة التمرد في الأقاليم التي ضمتها إيران، وخاصة إقليم الأحواز العربي المحتل من 1925، وهو متمرد بغالبيته الشيعية وسنته على النظام السياسي في طهران كحالة انفصال قومي ورفض للقهر الاحتلالي، وقد تطورت حركة الاستقلال الأحوازي مؤخرا، وضاعفت من مخاوف طهران.
5- وفي الرهان على سوق النفط ورضوخ إيران، فقد عانت طهران بلا أدني شك في الأزمة الاقتصادية والضجر الشعبي، لكن فشل إخضاعها مع الروس، انقلب اليوم وأصبح يضر بخصومها، خاصة مع النفاق المستمر غربيا وأميركيا أمام العرب، في حين قد تؤثر المواقف السياسية المشتركة بين موسكو وطهران على المشاريع العربية.
إن النظرية التي نخلص إليها الآن، ليست التشكيك في وجود مخاطر مؤثرة على التوجهات الإستراتيجية الإقليمية لإيران، فهي موجودة ومؤكدة، وإنما المهم هو هل ستؤدي فعلا لإسقاط المشروع الإيراني؟
هذا يعتمد على الفترة الزمنية التي تحتاجها مثل هذه المخاطر، فقد استمرت الدولة العثمانية قرابة الثمانية قرون، رغم صراعها الداخلي وحروبها مع الغرب الصليبي، وإيران الشاه إسماعيل الصفوي، وتمرد الأقاليم عليها، والفساد الإداري والمركزية العنيفة، ومقتل العديد من سلاطينها، وظلت مهدِّدا للغرب حتى آخر أيام ضعفها.
فمعرفة الجواب هنا، يتحقق بتقدير إمكانيات الطرف المقابل وهي دول المشرق العربي، خاصة بعد انسحاب الأتراك لتأمين نظامهم السياسي وأمنهم القومي، في حين تعج دول المشرق العربي بصراعات وحروب تُشعل مع تيارات الإسلام السني متشددة وغير متشددة، مع غياب أي آفاق للإصلاح السياسي والتنفيس الحقوقي.
ويُضغط على دول المشرق للقيام بدور وظيفي محدد لمواجهة إرهاب داعش وجماعات السلفية الجهادية، وهو دور لا يتعدى حدوده، ولا يَدعم أو يُنظّم مركزيا لتبني المقاومات المعتدلة المشروعة كما في سوريا أو عشائر العراق سابقا، وخاصة لو توقفت حرب اليمن في منتصف الطريق، ولم تهزم المشروع الإيراني ولو هزيمة نسبية.
هنا قضية المقال الكبرى، فمساحة النفس الطويل في صراعات الدول الداخلية والإقليمية، وإمكانيات صمودها، سيُحدد إمكانية انكسار إستراتيجية إيران الإقليمية أو سقوط المشرق العربي، وهو ما يبدو أن الغرب قد حدد توقعه فيها.