يتعرض العراق لمخاطر جسيمة تهدد بانهياره وإفلاسه، بعد أن تمكنت «داعش» من أن تستعيد زمام المبادرة، وتوجه ضربات قوية ألحقت أضراراً ضخمة بالعاصمة بغداد، حيث سقط المئات من القتلى والجرحى، كما تمكنت «داعش» من شن هجوم مباغت على عدة محاور مزقت قوات البشمرجة الكردية الموجودة ضمن قوات التحالف العراقى التى تستعد لخوض معركة تحرير مدينة الموصل وأجبرتها على مغادرة مواقعها، بينما يسود التناحر طبقة السياسيين العراقيين فى بغداد وبينهم أعضاء البرلمان، يختلقون العقبات أمام حكومة حيدر العبادى ويمنعونه من تنفيذ برنامجه الإصلاحى لتقليص سطوة الفساد على الحياة السياسية، ويرفضون منح الثقة لحكومته الجديدة من التكنوقراط ثلاث مرات إلى أن بلغ الغضب الشعبى ذراه، ونجحت جماهير الشيعة الفقراء التابعة للزعيم مقتدى الصدر فى اقتحام المنطقة الخضراء رغم تحصيناتها وأسوارها الأسمنتية العالية واحتلال مقر البرلمان، الذى هرب أعضاؤه إلى بدروم المبنى خوفاً من الغضب الشعبى، كما احتلوا مقر مجلس الوزراء فى عملية تظاهر كاسح نشرت الذعر فى أرجاء العاصمة العراقية تطالب بطرد الفاسدين، وتتوعد رئيس الوزراء حيدر العبادى بموجة ثانية من التظاهر أشد عنفاً تطالب بانتخابات برلمانية مبكرة إذا لم ينجح فى مواجهة الفاسدين!
ومع الأسف اضطر رئيس الوزراء العراقى أن يسحب جزءاً من قوات الجيش العراقى من مواقعه الأمامية فى جبهة الموصل كى يحمى بغداد من السقوط، الأمر الذى طوح بمشروع تحرير مدينة الموصل فى دروب الفوضى العارمة التى تضرب العراق، وبرغم محاولات الأمريكيين ترميم حكومة العبادى فإن المؤشرات كلها تؤكد أن إدارة أوباما سوف ترحل قبل أن تتحرر مدينة الموصل أو يتم إخراج «داعش» من العراق، ولا يبدو واضحاً رغم انسحاب جماهير مقتدى الصدر من المنطقة الخضراء، حيث مقر الحكومة والبرلمان والسفارات الأجنبية والفنادق الكبرى، أن الأمور يمكن أن تهدأ أو تستقر فى ظل سطوة الفساد وانقسام الطبقة السياسية وتهديدات مقتدى الصدر التى تنذر بفوضى عارمة إذا عاود إطلاق مظاهراته مطالباً بانتخابات برلمانية مبكرة، لأن المظاهرات سوف تكون أكثر عنفاً وربما يصعب السيطرة عليها دون تدخل قوات الجيش العراقى، فضلاً عن تحفز الميليشيات الشيعية الأخرى للتدخل بهدف تحجيم نفوذ مقتدى الصدر الذى يتزايد إلى حد أنه أصبح صانع الملوك فى العراق، خاصة ميليشيات بدر أكبر الميليشيات الشيعية التى يقودها هادى الأمير، والتى أعلنت بالفعل حالة الطوارئ بدعوى منع تنظيم «داعش» من استثمار الفرصة المتاحة.
والواضح أن جزءاً مهماً من الأزمة يتمثل فى انقسام قوى الشيعة بعد أن أحدث فيها مقتدى الصدر شرخاً عميقاً، فى الوقت الذى يقف فيه رئيس الوزراء السابق نورى المالكى وأنصاره فى حالة ترصد واستعداد، يناصب حكومة حيدر العبادى العداء، بدعوى أن العبادى غير مهيأ لقيادة البلاد فى هذه الظروف الصعبة، رغم مساندة آية الله السستانى المرجعية الأعلى لشيعة العراق، لأن العبادى لا يملك من وجهة نظر أنصار المالكى القدرات ذاتها التى يملكها نورى المالكى، الذى يستطيع وحده كبح جماح مقتدى الصدر، كما فعل سابقاً، لكن سجل نورى المالكى فى الحكم كان بالغ السوء خاصة فى نهاية فترة حكمه، لأنه عمد إلى قهر سنة العراق وتهميش مصالحهم، وتسبب فى تفكيك عشائرها المقاتلة التى حاربت تنظيم القاعدة بضراوة بالغة، بعد أن رفض ضمهم إلى القوات المسلحة العراقية، كى يبقى على التوازن الطائفى لصالح الشيعة، فضلاً عن سياساته الطائفية التى أشعلت نار الفتنة وأغضبت أكراد الشمال ودفعتهم إلى المضى قدماً فى مشروعهم لاستقلال كردستان العراق.
وبرغم الشكوك المتزايدة فى قدرة حيدر العبادى على السيطرة على الموقف، لأن العبادى عاش طوال حياته فى المهجر إلى أن سقط نظام صدام حسين وعاد إلى العراق، وهو لا يملك أى سند شعبى قوى داخل البلاد، برغم هذه الشكوك يحاول الأمريكيون الأكثر حماساً لاستمرار العبادى ترميم موقف الحكومة العراقية ومساندة رئيس الوزراء، وتحقيقاً لهذا الهدف سافر نائب رئيس الجمهورية بايدن إلى بغداد بهدف دعم حكومة العبادى، لكن الواضح حتى الآن أن العراق لا يزال يعانى من الفوضى وتصاعد العنف وهشاشة مؤسساته، وبدلاً من أن يصبح دولة المؤسسات أصبح دولة الميليشيات.
ومع الأسف فإن تنظيم «داعش» الذى كان يعانى على امتداد الشهور التسعة الأخيرة من انحسار وتراجع شديد فى قوته أجبره على إخلاء مساحات ضخمة من الأراضى التى كان يحتلها تكاد تقرب من 40%، كما تم طرده من عدد من المدن العراقية المهمة، ولم تعد «داعش» تملك سوى عدد من الجيوب داخل بعض هذه المحافظات، إضافة إلى مدينة الموصل، وكان مقرراً أن تبدأ عملية تحريرها فى غضون الأسابيع القليلة المقبلة، لكن صراعات الطبقة الحاكمة فى بغداد ضيع الفرصة، وأغرى «داعش» على أن تعاود الإمساك بزمام المبادرة عندما نجحت فى توجيه ضربة قوية إلى قوات البشمرجة الكردية المحتشدة على مسافة 10 أميال من مدينة الموصل.
ويبدو أن ضربة «داعش» التى مزقت صفوف البشمرجة الكردية أغرتها على مواصلة عملياتها الهجومية، وتؤكد أن «داعش» خرجت من مأزقها الصعب وانتقلت من الدفاع إلى الهجوم، وأصبحت قادرة على توجيه ضربات مؤثرة تعيق جهود الجيش العراقى لتحرير باقى مدنه وأراضيه خاصة الموصل، وفى تقرير أخير لرئيس المخابرات المركزية الأمريكية، أن عملية تحرير الموصل سوف تستغرق وقتاً أطول مما كان متوقعاً وربما لا تبدأ قبل نهاية العام.
والواضح أن المشكلة الملحة التى تواجه إدارة أوباما الآن هى ترميم موقف حكومة حيدر العبادى، ومساعدة الجيش العراقى على الصمود فى مواقعه وتثبيت نجاحاته، وعدم تمكين «داعش» من استعادة أى من المدن والأهداف العراقية المهمة، دون التورط فى إرسال المزيد من القوات الأمريكية.
وتقاوم إدارة أوباما مطالب الجمهوريين بضرورة إرسال المزيد من القوات الأمريكية إلى العراق، التى يعبر عنها السيناتور جون ماكين رئيس لجنة الدفاع والأمن القومى فى مجلس الشيوخ، لأن العراق الذى أنفقت عليه الولايات المتحدة أكثر من تريليون دولار وسقط فى معاركه أكثر من مليون عراقى يكاد ينهار، ويعانى من غياب الاستقرار والأمن وعودة العنف، فضلاً عن النزعة الحادة للاستقلال التى تسيطر على كردستان العراق، لولا ضغوط الأمريكيين الذين يخشون أن ينفرط عقد العراق ليصبح تقسيمه إلى دويلات ثلاث أمراً واقعاً، وتبقى قضية المصالحة الوطنية بين السنة والشيعة ورأب الصدع فى علاقات الطائفتين، ومعالجة الآثار السلبية التى ترتبت على تهميش مصالح السنة، واحدة من أهم مشاكل الحكم فى العراق التى لم ينجح نورى المالكى فى معالجتها لانحيازاته الطائفية ولم يتكمن حيدر العبادى من اقتحامها لضعف نفوذه ومكانته رغم أنه أقل قادة الشيعة تعصباً وانحيازاً لطائفته، ولا تزال قضية المصالحة الوطنية هى العقبة الكؤود التى تحول دون وحدة الشعب ووحدة الدولة فى العراق.
مكرم محمد أحمد
صحيفة الوطن المصرية