تَكدّر نومه في تلك الليلة، الكوابيس أميركية الشياطين، صور أشباح أعضاء مجلس الشيوخ تملأ زوايا غرفة نومه. رأى ابن حسين مُعتمراً للعمامة تارةً، وللطاقية تارة أخرى، بحث عنه بلباس أهل السودان فلم يعثر عليه، مَرّ شريط الكوابيس على كيري ولافروف، وبينهما يقف رجل مُقنّع يحمل بين يديه وثائق.
صاح «السياسي العتيق» مُزوّرة.. مُزوّرة.. مُزوّرة! استيقظت الزوجة من صراخ حلم زوجها، أحضرت له كوباً من الماء ومسحت على جبهته، ثم نفثت عليه البسملة والفاتحة والمعوذات.
استقعد خَجِلاً من زوجته، تبسم وهو يُتمتم: كوابيس السبعيني، صراع بين الذاكرة والخوف وألوان الزهايمر، أَسْرت بي على طائرة مخطوفة، زرت في ليلتي واشنطن ونيويورك ومجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، والمهم أنني رفضت زيارة الكيان الصهيوني، وكان هذا اختباراً لقواي العقلية في موتها الأصغر!
مشكلتك «يبو قُصي» إدمانك نشرات الأخبار، من الصباح حتى المساء وأنت أمام محطات الأخبار، وقبل النوم تُقلقني بسرد أحداث العالم حتى بدأت أشعر بالخوف والقلق، مشكلات العالم لن تنتهي، تُصبح على أحداث وتُمسي على أخرى، والمكائد والصراعات أضحت جُزءاً من حياتنا، والسعيد من توكل على الله وابتعد عنها. كانت الساعة تجاوزت الثانية صباحاً، استعاذ بالله من الشيطان الرجيم وذهب في نوم عميق.
في الصباح الباكر أيقظ ابنه قُصي العائد أخيراً من الولايات المتحدة بعد إنهائه شهادة الماجستير في العلوم السياسية. ما الأمر يا والدي، ماذا حدث؟
تعال «شوف» ربعك الأميركان، كُل نشرات الأخبار تتحدث عن مصادقة مجلس الشيوخ الأميركي بالإجماع على تشريع يفتح الأبواب على مصراعيها لأهالي ضحايا هجمات الـ11 من سبتمبر لرفع دعاوى ضد السعودية إذا أثبتوا في المحكمة أنها ضالعة في تلك الهجمات!
ألم تعترف وكالة الاستخبارات الأميركية أنهم طوال بحثهم وتقصيهم لم يجدوا دليلاً ضدنا؟
ولماذا أُعيد فتح الموضوع مرة أخرى، وفي هذا التوقيت بالذات؟
هذه أميركا التي أشغلتني بالحديث عنها، وأنها في الفنون والموسيقى تعني مكان «عدِل»، وأنا أقول لك عَدّل من مفهومك و«قُل» لهم على لساني أنها دولة «ابتزاز».
ولكن يا والدي العزيز، لا يزال رئيس الولايات المتحدة له حق استخدام الفيتو، ولا يُمكن أن يُسمح بتمرير هذا التشريع لأنه يُعرّض مصالح أميركا العليا لخطر فقدان الثقة، خصوصاً في التعاملات المالية والاستثمار في سندات الخزانة الأميركية وغيرها. المسألة يا قُصي مسألة مبدأ، وعندما يُفكّر الكونغرس بهذه العقلية، ويُقر بالإجماع تشريع في قضية سبق أن اعترفت وكالة استخباراتهم بعدم وجود دليل واحد، وتم الإعلان للعالم عن تبرئة السعودية من أحداث 11 سبتمبر ومن الارتباط بالقاعدة، بعد كل هذا لا يمكن الوثوق بالعقلية السياسية الأميركية، لأنني أتحدث عن مجلس شيوخ أميركي، وليس موزنبيقي! ثارت شجون وانفعالات «السياسي العتيق»، واستمر في الحديث…
وبعدين تعال يا ابني قُصي، أحضر ورقةً وقلماً، ولنكتب جرداً موضوعياً.
ضع العنوان: «ماذا استفادت دول الخليج خصوصاً، والعرب على وجه العموم من أميركا»؟ القضية الفلسطينية، صفر مُتجمد تحت ضياع وتمزيق فلسطين وشعبها، ودعم لا محدود لإسرائيل. أمن الخليج العربي، هُمْ الأميركان من يخلقون المشكلات حولنا من أجل امتصاص خيرات النفط، تحت ذريعة الأمن القومي للولايات المتحدة، وانكشفت لعبة الخوف التي طوقونا بها من خطر أطماع صدام حسين، إلى الأطماع الإيرانية التوسعية، هم من جر صدام حسين لاحتلال الكويت الذي أكل الطّعم بطريقة بلهاء، وها هم اليوم يتحالفون مع إيران لتمزيق الخريطة العربية وتدمير العراق وسورية، واستماتوا بالدعم والمساندة وكيل الاتهامات حتى تم تقسيم السودان لشمال وجنوب. أليس الأميركان هم من تسبب في تهيئة بيئة ما يُسمى بالإرهاب الذي انطلق بدعم استخباراتي دولي تقوده أميركا من أفغانستان، مروراً بالعراق وباكستان والصومال وليبيا ونيجيريا؟
من أوقد نار الطائفية في العراق؟
ألم يكن بول بريمر حاكم العراق الأميركي، هو من أسس دوامة العراق الطائفية، ثم قال بعد مُغادرته: العراق قطعة من قلبي. ألم تتقطع قلوب العراقيين بعده حسرة على الشعب والوطن؟
أليست هذه شهوة دم وإباحات إرادة، ألا يأتي تشريع مجلس الشيوخ في سياق شهوانية الابتزاز الرخيص، وإلا كيف يُمكننا قياس كفة الأحاسيس الشهوانية والفسق المتواصل؟
بعد أكثر من 70 عاماً من العلاقات الاستراتيجية والتحالف مع أميركا، ماذا استفادت السعودية تنموياً وتقنياً وعلمياً من أميركا، حتى صفقات الأسلحة لا تتم الموافقة عليها إلا بعد ماراثون مفاوضات وشروط عسيرة؟ وهل أسهمت أميركا في نقل وتوطين التقنية للسعودية؟
هل أصبحنا نُصنِّع السيارات والتوربينات، وأجهزة الكمبيوتر بفضل دعم ومساندة أميركا لنا؟ إذاً هو تحالف وعلاقة استراتيجية على ماذا؟
لقد كشف عنها بصراحة الرئيس باراك أوباما عندما حدد (إمَّا.. وإمَّا)، وفقاً لمصالح تحوّل السياسة الأميركية الجديدة، والتاريخ علّمنا أن أميركا يمكن أن تتخلى عن حُلفائها في أوقات الحاجة إليها!
أمعن قُصي في عيني والده ثم قال:
الدول تُحدد طبيعة وصيغة علاقاتها ومصالحها، وعندما تكون الخريطة العربية مفتوحة والأرض خصبة للتلاعب في مصالحها لا يمكن أن نلوم الآخرين، بل نُحاسب أنفُسنا أولاً. كوبا يا أبتي صمدت 50 عاماً في وجه الولايات المتحدة، التي هي من عاد إليها، وبغض النظر عن صحة سياسة كوبا من عدمها، ولكنني أتحدث هُنَا عن الإرادة القوية. تدخلت أُم قُصي لفك اشتباك الحوار السّاخن وقالت ضاحكةً: «أعانني الله الليلة على كوابيس كوبا»!
عبدالسلام اليمني
صحيفة الحياة اللندنية