كان غريباً، بالنسبة لشخص مثلي مهتم بتطورات الأحداث وعلى دراية بسلوكات الشعوب، رؤية الناس في شوارع مدينة هوشي منه «سايغون سابقاً» وهي تحتشد رافعة الأعلام الأمريكية ومرحبة برئيس الولايات المتحدة، الدولة التي شنت على الشعب الفيتنامي حرباً دامت عشر سنوات (من عام 1965 إلى عام 1975)، راح ضحيتها مليونان من الفيتناميين وأكثر من 57 ألف جندي أمريكي، وبددت أرصدة مالية وسياسية هائلة. كان غريباً أيضاً ألا تنتظم في مدينة أمريكية كبيرة أو صغيرة وفي أي من جامعاتها تظاهرة يقودها أقارب وأصدقاء الآلاف الذين سقطوا أو سجنوا خلال الحرب. أقول كان غريباً لأنني كنت أحد الذين عاصروا عن قرب تمرد شباب أمريكا وأوروبا بل شباب العالم على حرب فيتنام، وهو التمرد الذي كان وبحق أحد أهم العوامل وراء جهود هنري كيسنجر لإنهاء الحرب ، ووراء سعيه للانفتاح على الصين الشعبية.
ما الذي حدث ليجعل الخصمين اللدودين، فيتنام وأمريكا، يسعيان لطي صفحة الماضي وإقناع شعبيهما بضرورات التعاون والتقارب؟ حدث الكثير. حدث أن النمو المذهل للصين خلال العقود الأخيرة، مرافقاً بدرجات متفاوتة من نمو أيضاً مذهل في دول آسيوية أخرى. حدث أيضاً أن دخلت الولايات المتحدة، الدولة الأعظم القابضة على توازن القوى الدولي، مرحلة تباطؤ في النمو والتوسع الرأسي في الاقتصاد والبناء الداخلي يتبعه انحسار يناسبه في النفوذ الدولي. هذا النمو الآسيوي المطلق من ناحية والانحسار الأمريكي النسبي من ناحية أخرى، كانا من بين المتغيرات التي شكلت خلفية سياسات توسعية من جانب الصين في منطقة بحر الصين الجنوبي. هناك في هذا البحر توجد المصالح الأكبر لدولة فيتنام ، وبخاصة الدفاعات البحرية والثروات النفطية والجزر والصخور المتناثرة بكثرة في البحر، وهي التي يمكن ببعض الجهد الربط بينها وإقامة مدن اصطناعية عسكرية وإنتاجية. التاريخ، بعيده وقريبه، يثير في الوعي الشعبي والاستراتيجي الفيتنامي ذكريات عداء متبادل لم تخف حدته في أي عهد منذ عهود أباطرة الصين وحتى في ظل العهد الشيوعي ، حيث ما زال يحكم ويتحكم في الدولتين حزبان شيوعيان.
هل كانت أمريكا البادئة بالسعي لإقامة علاقات تعاون محل علاقات الخصام أم كانت فيتنام؟ من الصعوبة بمكان الإجابة بدقة وثقة ، فالواضح لنا مثلاً هو أن أمريكا كانت شديدة الرغبة لأن قطاعاً مهماً في البنتاغون صار يرى أمن أمريكا مهدداً إذا تحققت للصين الهيمنة واحتكار النفوذ في منطقة بحر الصين الجنوبي. هذا القطاع يعتبر بحر الصين شريان التجارة بين دول جنوب آسيا وبينها وبين الدول الباسيفيكية ومنها، أو على رأسها، أمريكا. تمر في هذا البحر ما قيمته 5.3 تريليون دولار، وفي أعماقه يوجد ما لا يقل عن 213 مليار برميل من النفط.
نحن الآن أكثر وعياً بالدور الحيوي الذي لعبه باراك أوباما منذ وصوله إلى الحكم في 2008. ففي ذلك الحين ظهرت ملامح سلوكات تهدئة في تنفيذ السياسة الخارجية، بدأت مترددة ثم رسخت بالانسحاب الفعلي المتراكم من أفغانستان والعراق ورفض الاشتراك في عمليات عسكرية برية في أي مكان آخر. ظهرت أيضاً من خلال جهود معلنة تسعى للانفتاح على خصوم تقليديين. بالنسبة لفيتنام كلف أوباما وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون بزيارة هانوي. وفي 2014 سربت واشنطن نيتها تقديم تنازلات رمزية لتخفيف الحصار المفروض على فيتنام. وفي 2015 حلّت زيارة الأمين العام للحزب الشيوعي الفيتنامي لواشنطن ، حين وقّع على اتفاقية شراكة بين البلدين.
ثم جاءت زيارة أوباما كواحدة من أعمال تتويج مرحلته في الحكم. ذهب إلى هناك يحمل معه قراراً برفع الحظر عن تصدير السلاح إلى فيتنام. نسي أو تناسى أن يأخذ قراراً بفرض عقوبات جديدة إذا استمرت القيادة الفيتنامية الحاكمة في قمع الحريات وخرق حقوق الإنسان في فيتنام. خاب أمل أنصار الحقوق والليبراليين. كان المقرر أن يقول كلاماً لا أكثر.. هؤلاء أرادوا أكثر.
الآن وقد اقترب جداً موعد رحيل الرئيس أوباما وإدارته ، يتنافس رأيان في أوساط المثقفين العرب، رأي يعتقد أن أوباما يحتفظ بورقة فلسطين يتوّج بها ولايته. أصحاب هذا الرأي يقدّمون حججاً يمكن أن تكون مقنعة. بعضها يستند إلى تطورات ومبادرات ولقاءات وقعت بالفعل، وبعضها يضيف أحداثاً وتوترات داخل «إسرائيل» تنبئ عن قادم جلل. أما الرأي الآخر فيعتقد أصحابه أن أوباما لن يكرر خطأ بيل كلينتون ، فيلوث عهده بقرار متسرع وخاطئ، استند فيه إلى كذبة كبرى وإلى أمل كاذب في إمكان تحقيق تسوية بين الفلسطينيين و«الإسرائيليين».
رأيي الشخصي يتلخّص في أنه لا يوجد تناقض بين الرأيين، وأن جهوداً مهمة على وشك أن تبلور تطوراً خطراً.
جميل مطر
صحيفة الخليج