تتكدّس في حلب وجوارها قوى تبدو كأنها قرّرت التجمع هناك عن سابق عمدٍ وتصميم، وبتنسيقٍ وثيق بينها، هي، فضلاً عن طيران الولايات المتحدة وخبراء من وحداتها الخاصة، طائرات روسيا وقواتها البرية، وقوات “داعش”، وقوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردية (بي واي دي)، والجيش الأسدي، وقوات الثورة، وجيش إيران، ومرتزقة حزب الله والعراق وأفغانستان، إضافة إلى عددٍ لا يُستهان به من مرتزقة جنسياتٍ أخرى.
لماذا يتجمّع هؤلاء قرب حدود تركيا، المفتوحة داخلياً على مشكلاتٍ لا يُستهان بها مع ملايين الكرد، وترتسم اليوم بعض ملامح مستقبلهم بسلاح مقاتلي “بي واي دي” المدعومين أميركياً وروسياً والناشطين داخل سورية، والمفتوحة كذلك على منطقة سيطرة “داعش”، بدءاً من شرق حلب، وصولاً إلى حدود العراق في أقصى الشرق السوري، بما تختزنه من نفط وغاز، وأنتجته من قمح وقطن، بينما تعج المنطقة بوحداتٍ من جيش إيران، تخرج لأول مرة بعد الثورة من بلادها، ومرتزقة متنوعي الجنسيات، يقاتلون إلى جانب الأسد، ويتعاونون معه، ومع “داعش” و”بي واي دي” في مقاتلة الجيش الحر، الذي يواجه، في الوقت نفسه، جيش إيران وطيران
روسيا وخبرائها، في حين يتدخل طيران أميركا في المعارك بصور انتقائية، تؤكد حضوره الميداني، من دون أن تورطه في ما لا يريد.
تتناقض وتتضارب التزامات هذه القوى وارتباطاتها ومشاريعها أشد التناقض والتضارب، فبينما تريد “داعش” ضمها إلى دولتها الإسلامية، اللاغية الدولتين الوطنيتين في سورية والعراق، يقاتل الجيش الحر من أجل دولة مواطنة ديمقراطية، تحل في وطنه السوري محل دولة الاستبداد، الأسدي القائم والإرهابي المحتمل، وتحارب “بي واي دي” لإقامة دولةٍ كرديةٍ في شمال سورية، تنفصل عن دولة سورية التاريخية، وتنضوي في كيان إقليمي جديد، يريد حزب العمال الكردستاني إقامته على أجزاء من تركيا وإيران والعراق وسورية، بدعم مؤكد من أميركا ومأمول من روسيا، في حين يدّعي الإيرانيون أنهم يدافعون عن نظامهم بقتالهم إلى جانب الأسد في كل مكان من سورية، وخصوصاً في حلب وجوارها، ويجاهرون برفضهم إخراجه منها، وإقامة كيان كردي يضم المدينة وبعض محيطها، كما يرفضون تحريرها على يد الجيش الحر، أو احتلالها بقوات داعش، لأن ذلك سيفضي إلى انهيار نظام دمشق ثم طهران، بما يعنيه انخراطها في الحرب السورية من تعاون صراعي مع روسيا، وصراع تعاوني مع أميركا.
بتناقض مشاريع ومطالب المتحاربين وتعارضها، وبتبدّل العلاقات فيما بينهم خلال المعارك ومن وحيها، غدت حلب والمنطقة، وصولاً إلى حدود العراق شرقاً، وتركيا شمالاً، ساحةً يُرجح أن يطول الصراع الداخلي السوري، والعربي/ الإقليمي، والروسي/ الأميركي فيها وعليها، من دون أن يحسم، ما دام حسمه يتطلب بيئةً دوليةً مغايرةً تماماً للبيئة القائمة اليوم، ويفترض الشروع في صراعٍ تختلف أهدافه وآليات إدارته اختلافاً جذرياً عمّا هو معتمد منهما إلى الآن. يفسّر هذا تركز القتال في المنطقة الحلبية، وعدم انفجاره خارجها بالوتيرة التي تحدث فيها، ولماذا يصحب تصاعد القتال فيها تراجعه النسبي في بقية أنحاء سورية، ولماذا يغلب طابع الصراع الخارجي على طابعه المحلي والداخلي، ويمسك الخارج بقوةٍ به، ولماذا يبدو كلحظة يتوقف عليها أكثر فأكثر نوع التسويات المطلوبة وحجمها، لتلبية المصالح الدولية والإقليمية والمحلية المتعارضة، ويرتبط باستمرارها استعصاء المعضلات المتصلة بالمأساة السورية.
لا يبدو الصراع على حلب وفيها قريب الحسم، في ظل تكثف الصراعات الداخلية والإقليمية والدولية هناك، وامتصاصها قدرات سورية وجيرانها، وفتحها الباب واسعاً أمام مزيدٍ من صراعٍ تحول، في السنوات الخمس الماضية، إلى نزاعٍ عسكريٍّ وسياسيٍّ بين أطرافها أيضاً، على حساب الشعب السوري، ضحيته، كنزاع متشابك ومتزايد التعقيد، يتطور في مسارٍ يقوّض الخيارات السلمية التي يتم الحديث عنها في جنيف.
تدافع دول وجهات عديدة عن نفسها في حلب وجوارها، إما عبر تصدير مشكلاتها إليهما، أو منع الصراع فيهما من الانتقال، بكامل زخمه، إلى داخلها. ذلك هو الوضع، وتلك هي أبعاده المرئية التي لا يجوز أن تبقى اليوم خافية على أحد.