يتسم الاتفاق بين الهند وإيران على تطوير مرفأ «تشابهار» الإيراني المطل على الخليج بأهمية استراتيجية، كما تلاحظ نشرة «غلوبال ريسك اينسايت» الصادرة في نيويورك، فهو سوف يسهل استيراد الهند للنفط من إيران، ومن جمهوريات آسيا الوسطى، ويخفض تكاليف نقله إلى الأراضي الهندية. كذلك سوف ينمي التجارة بين الهند وهذه الدول. وللاتفاق أيضاً منافع سياسية تتعدى الجانب الاقتصادي البحت، إذ إنه قد يساعد حكومة الهند الحالية على استمالة قسم كبير من المسلمين الهنود الذين ينتمون إلى المذهب الشيعي والذين يبلغ عددهم نحو 45 مليون نسمة، أي ما يوازي ثلث مسلمي الهند تقريباً، كما تلاحظ النشرة أيضاً (6 حزيران/يونيو 2016). في ضوء هذه المنافع المتوقعة لم يكن صعباً أن تخصص حكومة الهند نحو نصف مليار دولار لتغطية جزء مهم من نفقات تطوير المرفأ وتعمير بنيته التحتية. وبالنظر إلى المنافع الواسعة المرتقبة من المشروع، فإنه لم يكن مفاجئاً أن يقول الرئيس الإيراني حسن روحاني إن المشروع جاء في سياق قرار هندي إيراني بتطوير علاقتهما من المستوى التجاري إلى مستوى العلاقات الاقتصادية الشاملة.
وفي السياق نفسه، فإنه ليس من قبيل المبالغة أن يستنتج المراقب أن الزعماء الإيرانيين والهنود على استعداد للسير على طريق تنمية العلاقات السياسية البينية أيضاً، ما دام بين السياسي والاقتصادي صعب إن لم يكن مستحيلاً.
ليس في التعاون الهندي الإيراني مفاجأة إذاً، إذا كانت هذه التصريحات صادرة عن بلدين تجمعهما حقاً «شراكة استراتيجية وحلف دولي، ومشتركات ثقافية ورؤى إقليمية متقاربة بل موحدة»، كما وصفهما رئيس الحكومة الهندية. ولكننا عندما نتحدث عن مشاريع لتوطيد التعاون بين الجمهورية الإسلامية في إيران، وبين حكومة يرأسها ناريندرا مودي، فإنه من الصعب المرور بمثل هذا الحدث الذي يعطي أهمية استراتيجية من دون التوقف عنده، ومن دون السعي إلى اكتشاف دلالاته وآثاره، وإنما أيضاً على المنطقة العربية وعلى علاقتها بدول الجوار. وهذا السعي يقود إلى طرح أسئلة لا تجد إجابات شافية حتى يومنا هذا.
يتساءل المرء هنا عن «المشتركات الثقافية» التي تجمع الزعماء الإيرانيين الذين ينتمون، بصورة عامة، إلى التيار الإسلامي، وبين ناريندرا مودي وصحبه من الزعماء الهنود الحاليين الأعضاء في حزب بهاراتيا جاناتا. فما هي هذه المشتركات؟ إن زعماء إيران يعتبرون أن الإسلام هو مصدر الشريعة وهو الأساس الفكري والسياسي الذي يرسم سياساتهم وبرامجهم في الحكم. فأين مودي وحزبه من هذا الشأن الثقافي؟
لقد نشأ مودي وعدد وافر من زعماء باراتيا في مرحلة الشباب في منظمة «راشتريا سوايامسيفاك سنغ» القومية الهندوسية المتطرفة. وفي صفوف هذه المنظمة تخرج قاتل المهاتما غاندي لأنه كان متسامحاً مع معتنقي الأديان الأخرى. ومن صفوفها خرج حزب بهارتيا المتطرف الذي حرض على حرق مسجد باربي التاريخي عام 1992 وحول هذا الفصل من تاريخ الهند الى محكمة دينية لمحاكمة العلمانية الهندية، وللإجهاز على نزعة التسامح الديني. ومنذ ذلك التاريخ تلعب هذه المنظمة التي نصبت نفسها «كمؤتمن على الثقافة الهندوسية «وكمرشد لحزب» بهارتيا وبالتالي لحكومة مودي.
بموازاة الثقافة المتطرفة والنزعة الطائفية الجامحة التي عرف بها مودي وأنصاره، فإنه اختار مسيرة في السياسة الخارجية أهلته لأن يكون حليفاً دولياً وشريكاً استراتيجياً لا للدول الإسلامية، وإنما ل«إسرائيل» حتى أصبح ينظر إليه كأفضل حاكم صديق ل«إسرائيل» في آسيا. ولقد لفت مودي «الإسرائيليين» منذ أن تولى السلطات الحكومية في ولاية غوجارات. فموقفه تجاه المسلمين انسحب على موقفه تجاه العرب، بحيث إن «إسرائيل» وجدت في هذا الموقف مدخلاً إلى استمالته وبناء علاقات معه ومع حزبه كقوة صديقة وحليف مستقبلي ضد الدول العربية. وتحقيقاً لهذه الغاية فقد وظف «الإسرائيليون» استثمارات واسعة في غوجارات ساعدت على تحسين سمعته كحاكم وإداري ناجح..
إن الهند التي لبثت تقاطع «إسرائيل» سنوات طويلة تحولت إلى أفضل زبون للصادرات «الإسرائيلية» العسكرية وللمنتجات الكومبيوترية وللتقنية الزراعية وأنظمة تصريف المياه واستخدام العصرية. ولا ريب في أن الهند قادرة على الحصول على العديد من هذه المنتجات من دول أطلسية عدة، ولكن الصلات التي بنتها «إسرائيل» مع مودي وأركان حكمه جعلت هؤلاء يؤثرون أن يشتروا بضائعهم من الأسواق «الإسرائيلية». ولعل هؤلاء يتصرفون بدافع من الوفاء، كما يقول بعض زعماء الأحزاب المنافسة، للحليف السياسي الذي قدم لهم دعماً مالياً إبان معاركهم الانتخابية. ومهما كانت الأسباب، فإن «السماء هي الحد الأعلى للتعاون بيننا وبين الهند»، كما صرح رئيس الحكومة «الإسرائيلي» نتنياهو.
قد يستنتج البعض من الإشارة إلى التباين المعلن بين الجمهورية الإسلامية وبين الحكومات الأخرى، لا يسمح لطهران بأن تسير على طريق بناء تحالف بعيد المدى مع هذه الحكومات. هذا الاستنتاج في غير محله، لأن معناه تحويل إيران إلى بلد معزول، كما هو حال كوريا الشمالية. الاستنتاج الأدق هو أننا أمام تباين كبير واستراتيجي وليس عادياً على المستويات السياسية والثقافية والاقتصادية. في ظل هذا التباين كان من الأفضل لإيران أن تطور المرفأ وما يتبعه من تنمية لطرق المواصلات والتجارة بالتعاون مع الدول الشريكة في «منظمة التعاون الاقتصادي»، أي الباكستان وتركيا وأفغانستان وجمهوريات آسيا الوسطى، قبل أن تتجه إلى الهند. لقد اختارت طهران إدارة للظهر لمن وقعت وأنشأت معهم معاهدات التعاون، ولمن تجمعها بهم ثقافات مشتركة، مقابل «شريك» لم يحترم مبادئ الشراكة إلا عندما كانت الهند سنداً حقيقياً ونموذجاً مشرقاً للديمقراطية وللدول التي تناصر الضعفاء، وتعاضد الدعوة إلى المساواة في المجتمع الدولي. إن مشروع ميناء تشابهار لا يرسم طريق العلاقات الخارجية الإيرانية على الصعد الاقتصادية والسياسية، ولكنه مهم بحيث يصعب تجاهل معانيه وتداعياته التي أشار إليها الرئيس الإيراني.
د.رغيد الصلح
صحيفة الخليج