ترى قيادات حزب العدالة والتنمية التركي أن الطعنة في الظهر قد تكون جاءت من البرلمان الألماني الذي تبنى وقوع المجازر العثمانية ضد أرمن الأناضول، متجاهلاً التحسّن الواسع في العلاقات الثنائية والإقليمية بين أنقرة وبرلين، لكن “الخيانة” الحقيقية هي أساساً من أحد عشر نائباً ألمانياً من أصل تركي، في مقدمتهم، جم أوزدمير، لعبوا الدور القيادي في تجييش نواب بقية الأحزاب وحشدهم وتعبئتهم، من أجل تأمين صدور قرارٍ من هذا النوع ضد وطنهم الأم. نجحت ألمانيا في ترك الأتراك وجها لوجه، قبل أن تتحمّل بمفردها مسؤولية ما جرى.
في اللحظة التي كانت تضع حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان اللمسات الأخيرة على احتفالات فتح القسطنطينية من السلطان محمد الفاتح، وإعلانه فرمان التسامح والعيش المشترك في المدينة بين جميع مكوناتها الدينية والعرقية، كانت برلين تستعد للمصادقة على قرارٍ يحمّل الأتراك مسؤولية ارتكاب المجازر ضد الأرمن، وغيرهم من الطوائف المسيحية في شرق الأناضول قبل قرن. وعقبت أنقرة، كما قال أردوغان ورئيس وزرائه بن علي يلدرم، في رد فعلها الأولي، إنها لن تتسرّع في إطلاق المواقف، وإنها ستتعامل ببرودة أعصاب مع القرار الألماني. ستدرس، أولاً، حيثيات القرار وأسبابه والوثائق القانونية والتاريخية التي دفعتها للإقدام على هذه الخطوة، ثم يأتي الرد التركي حول كيف ستتصرف الحكومة، وأنها ستكتفي بتوجيه رسالتها الأولى إلى برلين باستدعاء سفيرها هناك، بانتظار اتخاذ القرارات التي قالت إنها لن تتردّد لحظة في إصدارها، مهما كان حجم نتائجها على المسار الإيجابي الحالي في العلاقات التركية الألمانية.
الرأي السائد في صفوف خبراء ألمان كثيرين أن تركيا ستقبل ما جرى، من دون إثارة ضجة كبيرة وتعريض 35 مليار دولار من العلاقات التجارية إلى الخطر، وعرقلة قدوم أكثر من 5 ملايين سائح ألماني سنوياً، بعد قرار المقاطعة الروسية الذي وجه ضربةً في العمق لمداخيل القطاع السياحي التركي. لكن الرأي السائد بين المفكرين الأتراك أن ألمانيا ربما تريد، في قرارٍ من هذا النوع، أن يكون لها شريك تاريخي يُقاسمها تحمل أعباء حروب الإبادة التي ارتكبتها ضد اليهود إبّان الحرب العالمية الثانية، وهي أرادت استغلال الفرصة، برمي الكرة في ملعب تركيا، متجاهلةً أنها كانت هي حليفتها في أثناء الحرب العالمية الأولى، وعلى تنسيقٍ كامل معها في اتخاذ القرارات ورسم السياسات وإشراف الضباط الألمان، مباشرةً، على قيادة وتوجيه أكثر من معركة على أكثر من جبهة عثمانية.
وتذكر قيادات تركية أن ألمانيا حاكمت قاتل القائد العثماني، طلعت باشا، المتهم بإصدار قرارات السوق والإسكان ضد الأرمن، وبرّأته قبل عشرات السنين، وأن سبب فتح الملف بشكل مفاجئ اليوم البحث عن شريكٍ يقاسم برلين أعباء إطفاء حرائق الأفران النازية.
قناعة أخرى لدى الأتراك، هي أن الرئيس الأرميني، سرج سركسيان، زار برلين في مطلع شهر إبريل/ نيسان، وتركّزت مباحثاته على موضوع استصدار قرار المجازر، ومسألة قره باغ. ويهم الحكومة الألمانية التي ساهمت في صدور قرار البرلمان، على ما يبدو، تضييق الخناق على أنقرة في مسألة دعمها العلني أذربيجان ضد أرمينيا، وهي، بالتالي، تكون قد دمجت بين الملف الأرمني وموضوع المجازر وأزمة إقليم قره باغ، منحازةً إلى جانب يريفان على هذا النحو.
ترى ألمانيا أن أردوغان لن يدخل في مثل هذه الأجواء التي تعيشها تركيا في الداخل والخارج، في مواجهة معها، وأن برلين ستنجح في امتصاص الغضب التركي تدريجياً، كما حصل في السابق مع فرنسا والفاتيكان والنمسا ولوكسمبورغ. لكن هذا يعني أيضاً أن حكومة “العدالة والتنمية” بين خياريْن، أحلاهما مرٌّ، إما تجاهل ما جرى، وترجيح الواقعية والحسابات الاقتصادية والتقارب التركي الألماني في موضوع اللاجئين، وطلب العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي الذي ردّدت ألمانيا أنها تدعمه، في هذه المرحلة، أو توجيه رسالة شديدة اللهجة إلى حكومة ميركل، تطيح كثيراً مما شيد ثنائياً، خصوصاً في الملف السوري والدعم الألماني لمشروع تركيا حول المنطقة الآمنة في شمال سورية.
قانونياً، تنسى ألمانيا أو تتناسى أنها بين الموقعين على اتفاقية 1954 تحت إشراف الأمم المتحدة المتعلقة بموضوع القانون الدولي الإنساني ومسألة الإبادة والمجازر، وهي اتفاقية ملزمة للموقعين حول من يحدّد هذه التعريفات، ومن يقرّها قانونياً، وأن القرار النهائي فيها ليس للبرلمانات، بل للمؤسسات القضائية وبرلمانات الدول المعنية مباشرة. فكيف تخلّ باتفاقيةٍ أممية وقّعتها، وتضع مؤسسة دستورية ألمانية نفسها فوق القانون الدولي والاتفاقية الأممية التي وقعتها؟ وقانونياً أيضاً، تتجاهل برلين التجربة السويسرية التي خاضتها في حالة مشابهة قبل أعوام مع رئيس حزب “وطن” التركي، دوغو برينشاك، الذي أقام دعوى أمام محكمة العدل الأوروبية اعتراضاً على قرار محكمة وطنية سويسرية دانته وغرّمته مالياً، بسبب رفضه موضوع المجازر الأرمنية، فنجح في إلغاء القرار السويسري، عبر قرارٍ لمحكمة العدل الأوروبية عام 2013، ينص على أن المخوّل الوحيد لمناقشة موضوع المجازر هو محاكم الدول المعنيّة مباشرةً، ويمنع البرلمانات الأوروبية من استصدار قراراتٍ من هذا النوع. أليس قرار محكمة العدل الأوروبي ملزماً لألمانيا، العضو المؤسس، ومؤسساتها الدستورية أيضاً؟
أقرّت برلمانات حوالي 25 دولة موضوع المجازر الأرمنية، وتردد أنقرة أنه لا قيمة قانونية لمواقف من هذا النوع، لأنها تحركاتٌ مسيسةٌ، إما لأسباب انتخابية أو اقتصادية أو دينية، لكن ذلك لا يكفي ليمنع استهدافها على هذا النحو. تُرى، هل كانت ألمانيا تبحث عن سببٍ يسقط اتفاقية اللاجئين التي حمّلت ميركل انتقاداتٍ داخلية كثيرة، وهي حصلت على فرصة العودة عن الخطأ في قرار البرلمان الألماني هذا؟ وكانت ألمانيا قد قامت بمحاولةٍ سابقةٍ عام 2005، لكنها وضعتها على الرف، بعدما مدّت حكومة أردوغان يدها نحو يريفان، باتجاه الحوار والمصالحة، لكنها أعادت المسألة مجدّداً إلى الواجهة وسط ظروفٍ محيرةٍ، لا تتناسى خلالها الإشارة إلى دورها المباشر في ما جرى، حيث أن دارسين ومؤرخين ألماناً عديدين يدعون برلين إلى تحمّل مسؤوليتها المباشرة في إيصال الأمور إلى ما وصلت إليه على جبهات شرق تركيا في 1915. ولو كان ما تقوله ألمانيا متوازناً، من خلال دعوة أنقرة ويريفان إلى التفاوض والحوار مجدّداً، لما كانت أقحمت الأقليات المسيحية الأخرى التي تقول، في قرارها، إنها تعرّضت هي أيضاً للمجازر على يد العثمانيين، والعكس هو الصحيح. الهدف الألماني الحقيقي هو فتح الأبواب على وسعها أمام السريان الأتراك، للتحرّك مجدّداً، ملوّحين بورقة “سيفو”، وما تعرّضوا له من مآسٍ على يد الأتراك.
سيحاول بعضهم في ألمانيا الفصل بين قرار البرلمان وسياسة الحكومة، ويقول إنه رأي غير ملزم، لكن حكومة ميركل، في جميع الأحوال، وضعت مصلحتها فوق أي اعتبار لشعور ثلاثة ملايين تركي، يعيشون ويعملون ويندمجون في المجتمع الألماني الذين سيزعجهم حتماً أن يتعايشوا مع قرارٍ من هذا النوع يدخل كتب التاريخ المدرسية، ويحول أجدادهم إلى مرتكبي مجازر، في مثل هذه الأجواء الإيجابية للعلاقات بين البلدين.
أوصى سركسيان الألمان والأوروبيين، من برلين مباشرة، بعدم الثقة بأردوغان الذي يلعب ورقة اللاجئين ضدهم. وتقول ألمانيا إن هدف قرار البرلمان أن يخدم التقارب التركي الأرمني، لكن رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدرم، يقول إن البرلمان ما كان ليصدر قراره رغماً عن المستشارة الألمانية، وأن أنقرة ستتريث، بعض الشيء، لمعرفة نوع الوثائق والمستندات التي أقنعت البرلمان الألماني في تبني مثل هذا القرار، في مثل هذه الظروف.
يبدو من ردود الفعل الرسمية أن تركيا ستختار التصعيد، وتعريض كل مسار العلاقات الثنائية الجديدة للخطر، لكنها تحتاج إلى طريقةٍ مختلفةٍ في الرد، لأن مواقفها لم تغير كثيراً في قرارات البرلمانات الغربية السابقة، ولأن رسالتها لن تعني برلين وحدها، بعد الآن، بل ستعني دولا أخرى، تعد للتحرّك، وفي مقدمتها أميركا مثلاً. ولذلك، هي قد تفرط بالكثير، حتى ولو كان الثمن ضرب تفاهم اللاجئين والتأشيرات وتعطيل مسار العضوية التركية نحو الاتحاد الأوروبي.
يقول أردوغان إن في تركيا مائة ألف عامل أرمني، يقيم أكثر من نصفهم بطريقة غير قانونية، نعرف ذلك، ونتغاضى عن الأمر، لإثبات حسن نياتنا نحو الشعب الأرمني. ويقول أيضاً إن من يريد أن يساعدنا يفتح أرشيفه أمام الباحثين والدارسين، تماماً، كما فعلنا في تركيا، لكنهم اختاروا التلاعب بالملف، كورقة ضغط سياسي ضدنا، وهذا ما لن نقبل به. لكن ما لا يعرفه الرئيس التركي، ربما، هو مضمون آخر استطلاع للرأي نشر في ألمانيا، يقول إن عدد من لا يثق بتركيا شريكاً وحليفاً ارتفع إلى نسبة 90% بزيادة 12% بعد قرار البرلمان.
سألني طفلي الصغير الذي كان يتابع نقاشات القرار الألماني وارتداداته بين أفراد الأسرة ما إذا كان محتملاً أن تعلن تركيا الحرب على ألمانيا، بسبب قرار البرلمان، فحاولت طمأنته أن لا حدود جغرافية بيننا وبين الألمان.