بينما تواصل القوات الأميركية والعراقية الضغط على “داعش” في مدينة الفلوجة العراقية، ما يزال أكثر من 50.000 مدني عالقين في المدينة. ولا تشكل حمايتهم مسؤولية أخلاقية فحسب، وإنما تشكل عنصراً حاسماً أيضاً في خدمة أهداف الاستراتيجية الأميركية بعيدة المدى. وكما يذكر تقرير جديد صدر عن “أسس المجتمع المفتوح”، فإن الإخفاق في القيام بذلك سيكون تجاهلاً يستحق التقريع للدروس التي تعلمها الجنرالات الأميركيون في أفغانستان بالطريقة الصعبة.
بحلول العام 2008، كان الجيش الأميركي في أفغانستان يقتل المئات من المدنيين في كل عام. وقد اعتمد الجيش بشكل كثيف على الضربات الجوية، والمعلومات الاستخبارية غير الدقيقة، وأمراء الحرب الوحشيين الذين لم يكونوا يقاسمون الولايات المتحدة مصالحها ومخاوفها. ونيتجة لذلك، كان الناس الخطأ يقتلون أو يصابون في الكثير من الأحيان.
بالإضافة إلى ذلك، وفي حين قوضت كثرة الضحايا المدنيين مهمة الولايات المتحدة في أفغانستان، جعل الجيش الأميركي الأمور أسوأ، متسبباً بإلحاق المزيد من الضرر للمدنيين عن طريق اعتقال الناس الخطأ، واستهداف قادة المجتمع وتدمير الأملاك وسبل العيش.
كما قال لي جنرال الجيش الأميركي ديفيد بترايوس والرئيس الأفغاني السابق حامد كرزاي، وزميلاي في إعداد التقرير، كريس كوليندا وراتشل ريد، فإن تلك الأخطاء أسهمت بشكل كبير في نمو طالبان وقوضت شرعية الولايات المتحدة والحكومات الأفغانية.
وفي الاستجابة لذلك، اتخذ القادة الأميركيون مجموعة من التدابير، وتبنوا سلسلة من الإصلاحات الرائدة التي قللت الخسائر المدنية إلى حد كبير، وخففت من حجم الضرر الناجم. وقد انفتح هؤلاء القادة أمام المدخلات القادمة من منظمات المجتمع المدني، مثل “مركز المدنيين في الصراعات”، ووضعوا سياسات جديدة لجمع وتحليل قدر أكبر من المعلومات ذات النوعية الأفضل، وطالبوا بتدريب أفضل لضباط القيادة، وأجروا تغييرات تكتيكية على تنفيذ الغارات الليلية واستخدام القوة الجوية. وكان الأهم من ذلك هو قيام القادة الأميركيين بوضع آليات للتعلم من أخطائهم، والتقليل بشكل كبير من الضرر الذي يلحق بالمدنيين والاستجابة له إذا وقع.
وبالنسبة للمدنيين الأفغان، عملت الجهود الأميركية المبذولة للاعتراف بالخطأ وتقديم التعويضات عن الخسائر على تقليل غضب الأفغان، فيما عاد في جزء منه إلى التعامل معهم بكرامة.
كما تظهر مكتشفاتنا أيضاً أن تلك التغييرات لم تعطل قدرة القوات الأميركية على القتال أو الدفاع عن نفسها. وكما قال لنا قائد “إيساف” السابق الجنرال جون ألين، فإن “الكيفية التي نعامل بها المدنيين هي عامل زيادة قوة لنا، وتقليل قوة العدو”.
لكن الولايات المتحدة -للأسف- لم تطبق هذه الدروس بشكل كامل حتى الآن على عملياتها في العراق وسورية والأماكن الأخرى. كما أنها لم تطالب القوات الشريكة لها بتبني الإصلاحات نفسها. وبينما تصبح الولايات المتحدة أكثر اعتماداً على القوى المسلحة المحلية لتنفيذ عمليات مكافحة الإرهاب، فإن فشل هذه القوات في حماية المدنيين يرتب مخاطر استراتيجية خطيرة على الأهداف الأميركية نفسها في نهاية المطاف.
في العراق وسورية، شنت الولايات المتحدة أكثر من 9.000 غارة جوية، لكنها اعترفت بما لا يزيد على 41 وفاة بين المدنيين. وإذا كان هذا دقيقاً، فإن هذا الرقم سيشكل انخفاضاً بنسبة 94 في المائة عن معدل الوفيات لكل غارة جوية مقارنة بالضربات الجوية الأميركية في أفغانستان. ويلقي مثل هذا التفاوت غير المرجح الضوء على مدى النقص الذي ما يزال على الجيش الأميركي أن يغطيه في التأكد من التعقب والتعلم من تجربة إلحاق الضرر بالمدنيين خارج أفغانستان.
وفي اليمن، تتلقى الضربات الجوية السعودية الدعم من الاستخبارات واللوجستيات والأسلحة الأميركية. وقد قتلت هذه الضربات الآلاف من المدنيين وأفضت إلى خلق كارثة إنسانية. ووسط مزاعم موثوقة عن ارتكاب جرائم حرب، تخاطر الولايات المتحدة بتقويض مصالحها الاستراتيجية بالعمل جنباً إلى جنب مع السعوديين، بل إنها تعرض تقديم الطائرات المسلحة من دون طيار والقوات الأميركية الخاصة أيضاً.
كان الرئيس أوباما عبر بوضوح عن التزامه بتحسين الشفافية والمساءلة فيما يتعلق بعمليات الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب. ويجب على المسؤولين الأميركيين ترجمة هذا الكلام إلى واقع ملموس عن طريق وضع سياسة موحدة لحماية المدنيين في وزارة الدفاع، والتي تغطي العمليات الأميركية كافة، وتضم جهود وزارة الخارجية، من أجل تعقب الأضرار المدنية، وتحليل البيانات، ومساعدة القادة في تطوير تكتيكات أفضل وشن عمليات أكثر فعالية.
سوف يعني ذلك إنشاء فرق جديدة دائمة في داخل قيادات الوحدات العسكرية المقاتلة لتحليل وتخفيف الضرر الذي يلحق بالمدنيين وتقديم التعويض عنه. وربما تكون هذه المعلومات، كما كان شأنها في العراق، مهمة ولا تقدر بثمن بالنسبة لقادة جيش الولايات المتحدة الذين يعملون على الأرض.
كما سيكون من شأن هذه السياسة الجديدة أيضاً أن تدعم جهود الحماية المدنية التي تبذلها القوات الشريكة للولايات المتحدة، والتي أصبحت شرعيتها عنصراً مركزياً في استراتيجية الولايات المتحدة لمكافحة الإرهاب. وكما قال الرئيس أوباما، فإنه ليس هناك حل عسكري لمواجهة التهديدات الأمنية مثل “داعش”. وبدلاً من ذلك، سوف يعتمد الاستقرار السياسي على المدى الطويل على أداء شركاء الولايات المتحدة المتواجدين على الأرض، وبما ستكون عليه السياسات في أماكن مثل الرقة أو الموصل -إذا وعندما يتم إلحاق الهزيمة بـ”داعش”.
لا تشكل دعوات الحملة الانتخابية الجارية في الولايات المتحدة إلى تنفيذ حملات القصف الكثيف، وقتل عائلات الإرهابيين وممارسة التعذيب إهانة لقيم الولايات المتحدة فحسب، وإنما تنطوي على ازدراء للدروس التي تعلمها جنرالات الولايات المتحدة في أفغانستان أيضاً.
قال لنا ديفيد سيدني، المساعد السابق لوزير الدفاع: “أنا مؤمن بالاستثنائية الأميركية، وإنما إذا استطعنا الاستمرار في إثبات وجودها فقط”.
الآن، لدى الحكومة الأميركية الفرصة لإضفاء الطابع المؤسسي حقاً على دروس الماضي، في سبيل تشكيل استراتيجة عسكرية أميركية أكثر ذكاء، وأكثر إنسانية -واحدة معدة لإثبات الاستثنائية الأميركية الآن، وفي الصراعات المستقبلية أيضاً.
كريس روجرز
صحيفة الغد الأردنية