مجموعة راشيل آسبدين القصصية التي تضم حكايات حميمة عن المعضلات التي واجهها شباب مصر، هي عمل واقعي وآسر على حد سواء***
في الأيام العنيفة التي شهدتها انتفاضة العام 2011، بدا كما لو أن شباب مصر، وهم يحشدون على مواقع التواصل الاجتماعية ويسيرون إلى ميدان التحرير، وكأنهم قد أصبحوا أخيراً قادرين ومستقلين. وعندما تنحى الرئيس مبارك، استدرت إلى أبي الذي تجاوز عمره السبعين، والذي كان قد وقف على المتاريس في ثورة العام 1952، لأستمع منه إلى كلمات الحكمة حول مستقبل البلد.
قال أبي: “سوف يعود الجيش إلى السلطة في غضون عام”. لكنني قلت محتجة بعبارات طنانة، مقتبسة الشاعر ووردزورث عن نعمة كون المرء حياً، والنعيم نفسه في حقيقة أنه يعيش هذه الأوقات الثورية. قلت له: “ولكن يا أبي، انظر إلى الديمقراطية التي تتجسد؛ انظر إلى ما حققه هؤلاء الشباب. ماذا عنهم”؟ فأجاب والدي، من دون تفكير تقريباً: “آه، نعم. سوف يكونون في السجن”.
الآن، كان والدي طبيباً جراحاً وليس كاهناً يضرب في الرمل، لكنه فهم ما فشلت أنا والكثير من المراقبين في فهمه بشكل كامل: الحنين المصري الأساسي إلى الاستقرار بأي كلفة تقريباً. كيف حدث أن الناس الذين قاتلوا من أجل الإطاحة بالدكتاتورية أصبحوا يدعمون الآن نهجاً أكثر بطشاً وشراسة؟ كيف ذهب المصريون الشباب من النشاط الثوري إلى اللامبالاة بهذه السرعة؟ وكيف سيتمكن جيل جديد من التوفيق بين الإغراء وبين الخلاص؟ هذه بعض من الكثير من الأسئلة التي تستكشفها مجموعة راشيل أسبدين القصصية “ثورة جيل”، من خلال سرد الحكايات الحميمة لنحو دزينة أو نحو ذلك من المصريين الذين يعيشون في المناطق الحضرية، قبل وخلال وبعد اضطرابات العام 2011. وقد ولَّد الربيع العربي محصولاً وفيراً من الكتب عن الشباب في كل أنحاء المنطقة، لكن “ثورة جيل” يبقى واحداً من بين أكثرها غنىً وإثماراً.
بعد أن عاشت بشكل متقطع في القاهرة لأكثر من عقد، أصبحت لدى أسبدين رؤية واضحة عن تفاصيلها الرائعة والمثيرة، من عطفها على الغرباء، إلى نظريات المؤامرة الحاضرة فيها على الدوام. وتبلي أسبدين بلاء حسناً أيضاً في تعقب خطوط الصورة الكبيرة، سواء كان ذلك في استكشاف المسافة بين المظهر والحقيقة والضغط الساحق من أجل الامتثال الذي يميز الكثير من الحياة المصرية، أو في التقاط التقلبات والمنعطفات السياسية للسياسات المحلية على مدى العقود القليلة الماضية. ومع أن أسلوب أسبدين السردي يكون محيراً في بعض الأوقات، حيث تمحو الخطوط بين ما رأته هي وما سمعته من آخرين، فإن قصصها تبقى دائماً مقنعة وواقعية.
في حين ركزت الكثير من الكتب المشابهة على النساء، فإن “ثورة جيل” مثير للاهتمام بشكل خاص بتصويراته المختلفة للشباب المصريين الذكور. وعلى سبيل المثال، نرى فيه قسوة سوق الزواج من خلال عيون عبد الرحمن، المصور من أعالي مصر، وخيبة أمله المتنامية من “مفاوضات كامب ديفيد” حول النقود التي تصاحب الكثير من مشاريع الزواج. ويناضل عمرو، مهندس برمجيات الحاسوب من الأسكندرية، مع تلك الطقوس الجوهرية الخاصة بالذكورة، من النضوج، إلى الخدمة العسكرية، وضغوط “الاسترجال”، التي تدعم النظام الأبوي، من والد الأسرة إلى والد الأمة.
مع سقوط جماعة الإخوان المسلمين وصعود العنف المرتبط بـ”داعش”، ثمة ميل، خاصة في داخل مصر، إلى توحيد وشيطنة كل الأطياف الإسلاموية. ويشكل “ثورة جيل” عدسة منشورية مرحباً بها، والتي تعرض طيف الإسلام السياسي من خلال تعقب نمو شخصياته وبلوغهم سن الرشد. وعلى سبيل المثال، يعتنق أيمن -16 عاماً- مذهب السلفية التي يمنح تقشفها الصارم في البداية معنى لعالم غارق في الاستهلاك والفساد، لكنها تترك أيمن في نهاية المطاف في مكان عالٍ وناشف.
وينجذب صديقه، مازن، إلى شكل أكثر اعتدالاً وذكاء إعلامياً من الانبعاث الإسلامي، واحدٍ يخيِّب أمله هو الآخر في نهاية المطاف. وتبقى رقية وسارة، من جهة أخرى، متحديتين، متمسكتين بصرامة بولائهما لجماعة الإخوان المسلمين، عبر كل أطوار الاعتقال، والموت والدمار. ويأخذ إيمان هؤلاء الشباب والشابات أشكالاً أخرى. ولكن، وكما تكتشف أسبدين بطريقة تدهشها: “بالنسبة لهم، ليس الدين بعيداً جداً عن أن يكون قيداً أو عبئاً فحسب –إنه وسيلة للتحرر”.
بينما تبحث أسبدين عن بصيص من الأمل في وعود انتفاضة 2011، فإن مستقبل مصر القريب ما يزال بعيداً تماماً عن أن يكون وردياً. ويلخص عمرو، في طريقه إلى استكشاف حياة جديدة خلف البحار مثل الكثيرين جداً من شخصيات الكتاب، يلخص الأمر بالقول: “البنية التحتية، الكهرباء، الاقتصاد، الإرهاب، القمع، الفساد، اغتصاب الغوغاء، الانفجار السكاني، والقائمة تطول. إن هذه السفينة تغرق ويجب أن أقفز منها”.
يروي “ثورة جيل” قصة الجذور الأولى لما يحدث في الراهن المصري؛ ويسرد حكاية واقعية آسرة لكل من له اهتمام ومصلحة في مستقبل مصر.
ترجمة:علاء الدين أبو زينة
صحيفة الغد الأردنية