أعادني محدّثي إلى ما سمعته، أو قرأته، عما يجري داخل أوساطٍ شرّيرة نافذة، لكنني لم أشأ أن أقاطعه، فقد فضلت أن أسمع منه، قال: “دخلت الفلوجة في يومها التالي، وهي تعاني من جراحٍ عميقة، تتطلب مداواة سريعة تعينها على الشفاء. أسمعت ما قالته ليزا غراندي، منسقة العمل الإنساني للأمم المتحدة في العراق: “ركض الناس وساروا لأيام.. ولم يكن معهم شيء.. لا شيء لديهم ويحتاجون إلى كل شيء”. استطرد: “إنها مأساة أكثر من ثمانين ألفاً يعيشون في العراء، وفي مناطق صحراوية لا تتوفّر فيها أبسط متطلبات العيش، لا غذاء، لا ماء، لا رعاية صحية، لا كهرباء، صحيح أن بعض الخدمات الأولية البسيطة، قدّمتها جهاتٌ حكوميةٌ ومنظماتٌ دولية، لكننا نظل في مواجهة كارثة إنسانية محيقة، لا تلحق الأذى بهؤلاء النازحين وحسب، إنما قد تحفر في الوجدان الاجتماعي، وتعصف بمعنى الرابطة الوطنية الواحدة. هناك أيضاً رجال فرّوا من ظلم “داعش”، فقتلتهم مليشيات “وقحة” بدم بارد، وآخرون عذّبوا، وتعرّضوا لإذلالٍ وإهانةٍ بحجة تدقيق هوياتهم، وهناك أيضاً من شارك في عمليات حرق بيوت، أو نهب ممتلكاتٍ، وثمّة رواياتٌ وصور في مواقع التواصل الاجتماعي، تثير الغضب والنقمة. لماذا لا يُصار إلى جلاء الحقائق أمام الناس، وأن يُحال المتورطون في أفعالٍ كهذه إلى القضاء؟”.
“الفلوجة أيضا في يومها التالي تحتاج إلى خطة طوارئ، وحملة إعادة بناء وإعمار ما خرّبته الحرب، وإلى توفير جهد اقتصادي وموارد مالية، لإعادة تأهيل بنيتها التحتية، لكي يستطيع أهلها أن يعودوا إلى حياتهم الطبيعية، ويشعروا بنعمة الأمان والاستقرار”.
الأهم من هذا، تابع محدّثي، ضرورة التعامل مع الفلوجة مدينة عراقية صميمة، ضمت، وتضم، في كل دورات تاريخها أناساً من عديد طوائف وأعراق، لكن حظاً عاثراً جعلها تقع في قبضة “داعش” أكثر من سنتين، ومن الظلم أن تحمل مسؤولية ارتكابات “داعش” الشرّيرة وجناياته، وكذا التعامل مع أهلها كجزء من النسيج الوطني الذي لا يختلف عن نسيج أي مدينةٍ أو قريةٍ عراقية، ومن الظلم أيضاً فرزهم على أنهم “أحفاد يزيد”، وأن مواجهتهم تمت على يد “أحفاد الحسين”، كما تزعم بعض الأفواه الخبيثة هنا وهناك.
“الأخطر من ذلك أن الفلوجة في واقعها الحاضر “مدينة عشائر”، بعض هذه العشائر هادن “داعش”، أو اقترب منه، بعضها شارك في “الصحوات” وقاتل معها، بعضها اصطف مع مليشيات “الحشد الشعبي” في هذه الواقعة أو تلك، وبعضها الآخر حمل راية العراق الواحد الذي لا يعرف القسمة، كل هذا أحدث نوعاً من الحساسيات، انعكس على بيئة المدينة وعلى أهلها، جر إلى إثارة عداواتٍ وطلب ثاراتٍ، وحتى إلى إراقة دماء. مهمة الدولة، هنا، أن تعيد الحقوق إلى أهلها، وأن ترأب الصدوع، وأن تشيع التسامح، وتغلق صفحات الماضي بخيرها وشرها، وأظنها إن لم تفعل سيعمد بعضهم إلى مقايضة الدم بالدم، وتلك هي الكارثة”.
“المختصر المفيد أن الفلوجة، بفعل النكبات التي مرت عليها والحروب التي عاشتها، تحوّلت إلى جسد هش مليء بالأعطاب والندوب، أي خطأ من أي جانب سيلحق به الضرر، وربما يعم الضرر البلد كله.. ”
كانت كلمات “ابن الفلوجة” التي يتقاذفها عبر الهاتف أشبه بأجراس إنذار، ودعوة إلى توقّي ما قد يحدث، ومعالجته قبل أن يستفحل، لعل هناك آذاناً تسمع، وعقولاً تتخطّى السائد، لتجترح حلولاً قد تبدو بالنسبة لها مرّة، لكنها ترضي أولئك الناس الذين لا شيء لديهم، ويحتاجون إلى كل شيء.