نصت معاهدات الاتحاد الأوروبي على آلية قانونية تنظم انسحاب أعضائه منه، وأدرجتها في “بند الانسحاب” من “المادة 50” في “معاهدة لشبونة” التي وقع عليها قادة الاتحاد الأوروبي يوم 19 أكتوبر/تشرين الأول 2007 بالعاصمة البرتغالية لشبونة، ودخلت حيز التنفيذ يوم 1 ديسمبر/كانون الأول 2009.
وتحدد “المادة 50” من معاهدة لشبونة سبل انسحاب إحدى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بشكل طوعي ومن طرف واحد “وفقا للمتطلبات الدستورية الخاصة بها”. وهو حق للأعضاء لا يتطلب استخدامه تقديم أي تبرير له، كما هو الحال بالنسبةلبريطانيا التي قررت -بناء على استفتاء شعبي نظمته يوم 23 يونيو/حزيران 2016- الانسحاب من الاتحاد.
مضامين “المادة 50”
بموجب “المادة 50” في معاهدة لشبونة؛ يترتب على الدولة التي تنحسب من الاتحاد الأوروبي ما يلي:
1- التفاوض بشأن “اتفاق انسحاب” يقره مجلس الاتحاد الأوروبي (يضم الدول الأعضاء الـ28) بـ”الأغلبية المؤهلة” (تحددها المادة 238/3- ب من “معاهدة عمل الاتحاد الأوروبي”) بعد موافقة البرلمان الأوروبي، وذلك بعد إخطار الدولة المنسحبة للاتحاد بعزمها مغادرته.
2- ينتهي مفعول تطبيق المعاهدات الأوروبية على الدولة المنسحبة اعتبارا من تاريخ دخول “اتفاق الانسحاب” حيز التنفيذ، أو بعد سنتين من تسلم الاتحاد رسميا قرار الانسحاب إذا لم يتوصل الطرفان إلى أي اتفاق في هذه الأثناء. وبوسع الاتحاد والدولة المنسحبة منه أن يقررا تمديد هذه المهلة بالتوافق بينهما، بشرط تصويت دول الاتحاد على ذلك بـ”الإجماع”.
3- يجب أن يتفاوض الاتحاد مع الدولة المنسحبة للتوصل إلى اتفاق يحدد ترتيبات انسحابها، مع الوضع في الاعتبار البحث عن “إطار” لعلاقتها المستقبلية بالاتحاد. ويُجرى هذا التفاوض وفقا للمادة 218 (3) من “معاهدة عمل الاتحاد الأوروبي”.
4- لا يحق للدولة المنسحبة المشاركة في المناقشات أو القرارات المتصلة بها والتي يجريها الاتحاد بشأن انسحابها.
5- إذا أرادت الدولة المنسحبة من الاتحاد الانضمام مجددا إليه؛ فإن طلبها يخضع لنفس الإجراءات المنصوص عليها في “المادة 49” من معاهدة لشبونة.
الحالة البريطانية
رغم وجود “المادة 50” التي تمثل إطارا قانونيا عاما لترتيب الانفصال بين الاتحاد الأوروبي وأحد أعضائه؛ فإن عدم تطبيقها عمليا من قبل يثير أسئلة كثيرة حول المفاوضات المطلوب إجراؤها لتحديد علاقة جديدة بين الاتحاد وبريطانيا التي قررت مغادرته بنسبة تصويت شعبي قاربت 52%، وذلك بعد أربعة عقود نـُسجت خلالها علاقات متداخلة ومتشعبة بين الطرفين.
ومن تلك الأسئلة مثلا: هل يتعين تحديد هذه العلاقة الجديدة منذ اتفاق الانسحاب؟ أم يجدر إجراء المفاوضات على مسلكين منفصلين؟
ومع أن الخيار الثاني يبدو مرجحا أكثر؛ فإن لندن سيكون عليها تعديل تشريعاتها الوطنية لإيجاد بدائل عن النصوص الكثيرة الناجمة عن مشاركتها سابقا في الاتحاد الأوروبي، ولا سيما في مجال الخدمات المالية.
ويعتقد كثير من المراقبين أن إقامة علاقات تجارية جديدة بين بريطانيا والاتحاد ستستغرق وقتا أطول، ويخشون أن يشوب التعقيد ترتيب هذه العلاقات مما سيعطل ملفات الاقتصاد والشؤون الأوروبية على مختلف الأصعدة.
وفي حين يريد كثيرون -داخل بريطانيا والاتحاد على السواء- انفصالا سريعا بين الطرفين خلال عامين أو أقل؛ رأت الحكومة البريطانية في دراسة رفعتها إلى برلمانها في فبراير/شباط 2016 أنه “من المرجح أن يستغرق الأمر وقتا طويلا، أولا للتفاوض بشأن انسحابنا من الاتحاد، ثم بشأن ترتيباتنا المستقبلية مع الاتحاد، وأخيرا اتفاقاتنا التجارية مع الدول خارج الاتحاد”.
وتحدثت هذه الدراسة عن “فترة تصل إلى عقد من الغموض” ستنعكس على الأسواق المالية وكذلك على قيمة الجنيه الأسترليني.
وفور إعلان نتائج الاستفتاء البريطاني؛ أعلن رئيس الوزراء البريطاني ديفد كاميرون أنه سيستقيل بحلول أكتوبر/تشرين الأول 2016، وسيترك لخليفته المحتمل بوريس جونسون -باعتباره رئيس حزب المحافظين– إخطارَ الاتحاد بأن بريطانيا ستنسحب بموجب “المادة 50” من معاهدة لشبونة.
وسيعني هذا بدء فترة العامين التي تحددها “المادة 50″، لكن جونسون أكد أنه لا يرى سببا لبدء العملية وإنه ليس هناك ما يحتاج تغييرا على الأمد القصير.
وبشأن سيناريوهات ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد؛ يشير المراقبون إلى أن السيناريو الأسهل يقضي بانضمامها إلى آيسلندا أوالنرويج كعضو في “الفضاء الاقتصادي الأوروبي”، مما سيمنحها منفذا إلى السوق الداخلية. لكن ذلك سيُحتم على لندن احترام قواعد هذه السوق الملزمة دون أن تكون شاركت في صياغتها، كما سيُرتب عليها تسديد مساهمة مالية كبيرة.
ومن الخيارات الأخرى المطروحة أمام لندن اتباع النموذج السويسري في العلاقة مع الاتحاد، أو إبرام اتفاق تبادل حر بينهما، أو إقامة وحدة جمركية معه على غرار ما فعلته تركيا.
وعلى كل؛ ينبغي على الطرفين أن يتفاوضا بشأن وضع حوالي مليونيْ بريطاني يقيمون أو يعملون في دول الاتحاد، ولا سيما حقوقهم في التقاعد وحصولهم على الخدمات الصحية في هذه الدول. وتقول الحكومة البريطانية إن التفاوض بشأن هذه الحقوق سيتم على قاعدة المعاملة بالمثل لرعايا الاتحاد الأوروبي في بريطانيا.
أما بالنسبة للاتحاد الأوروبي؛ فإنه يحتاج للمسارعة بسد فجوة حجمها سبعة مليارات يورو في ميزانيته السنوية البالغة 145 مليار يورو حتى عام 2020، وهو موعد فقده مساهمات بريطانيا التي سيوفرها من المبالغ التي يحصل عليها البريطانيون من حسابات الاتحاد.
وسيحتاج الاتحاد أيضا إلى أن يوضح -في أقرب وقت ممكن- وضع الشركات والأفراد الذين يستخدمون حقوقهم بموجب العضوية فيه للتجارة والعمل والعيش على جانبيْ الحدود الجديدة بين بريطانيا والاتحاد. كما سيسعى زعماء الاتحاد إلى استعراض سريع للوحدة في مواجهة المشككين في جدوائية عضويته من أبناء الدول الأعضاء الأخرى، والذين ستدفعهم نتائج استفتاء بريطانياللمطالبة باستفتاءات مشابهة.
يشار إلى أن الحكومة البريطانية ستعرض نتيجة استفتاء الانسحاب من الاتحاد الأوروبي على برلمان بلادها لرفضها أو قبولها. وعلى المستوى النظري بإمكان النواب رفضها، لكن هذا الخيار يبقى صعبا على مستوى التطبيق لأنه سيعتبر معارضا للإرادة الشعبية.
الجزيرة