ابتهج صديقي العراقي بفوزه بالجنسية البريطانية. يملك الآن وسادة لأبنائه وأحفاده تجنبهم ويلات «داعش» وحنان «الحشدالشعبي». وبعد أسابيع تلقى أوراقاً تبلغه بحقه في المشاركة في استفتاء ستُقرر نتائجه ما إذا كانت بريطانيا ستواصل الإقامة في «البيت الأوروبي» أم ستغادره.
شعر بامتنان عميق. لم يحدث أن دعي فعلياً لإبداء رأيه في أوضاع العراق أو مستقبله. كان وزير الداخلية يحدد نتائج الانتخابات قبل إجرائها. إنها مجرد تجديد المبايعة لـ»السيد الرئيس القائد». وكانت الاستخبارات ترتب عرائض موقعة بالدم تؤكد الولاء المطلق لـ»قائد المسيرة». وبعد زوال «القائد التاريخي» ارتدت الانتخابات طابعاً آخر. كان عليك أن تختار بين «البيت الشيعي» و «البيت السني» و «البيت الكردي». بيوت مبنية على مرارات التاريخ وتبطن رغبة عميقة في الطلاق مع الآخر.
اختار ربطة عنق تناسب الحدث الكبير. لم يلمح أمام مركز الاستفتاء أي شرطي. ولم يشم رائحة رجال الاستخبارات. لم يسمع هتافات من قماشة «بالروح بالدم». ولم يقل أحد «كامرون إلى الأبد أو نحرق البلد».
كان الصف طويلاً نسبياً داخل قاعة الاقتراع. والجو هادئ يشبه مناخ مكتبة عامة. أعطته السيدة ورقة بسيطة ليضع عليها إشارة من اثنتين إما البقاء وإما الخروج. ولاحظ أن أياً من المنتظمين في الطابور لم يسأل جاره لمن ينوي أن يقترع. هذا غريب فعلاً.
والحقيقة أنه لم يشعر بقلق جدي. ففي أعماق رأسه قناعة مفادها أن السلطة لا تدعو إلى استفتاء كي تخسره. وأن الأجهزة ستجد بالتأكيد وسيلة لضمان النتائج. لهذا نام مطمئناً. لن تعكر النتائج هناءة وسادته البريطانية والأوروبية.
نام مطمئناً. الرأي العام البريطاني أعقل بالتأكيد من جماهيرنا. قد يبعث برسالة تعبر عن تذمره. من بيروقراطية بروكسيل. والقيادة غير المنتخبة. ووطأة القوانين الأوروبية. ومشكلة المهاجرين والمتدفقين من بلدان أوروبا الشرقية. وتململ الهويات وآثار العولمة وأنياب الشركات العملاقة العابرة للخرائط. لكنه لن يغامر بالتأكيد بإحداث ثغرة في العمارة الأوروبية وخلخلة البيت البريطاني نفسه.
كان الصباح قاسياً فعلاً. لم يتوقف البريطانيون طويلاً أمام دعوة ديفيد كامرون الذي طالبهم بالتفكير طويلاً في مصالح أبنائهم وأحفادهم وعدم الوقوع في فخ شعارات «بريطانيا أولاً» و «استعادة القرار والاستقلال». انتصر منطق الجزيرة على منطق البيت الواسع. وانتصرت بقايا المشاعر الإمبراطورية والاحتفاظ باللون على مغامرة الشراكة والتعدد. انتصر الخوف المبسط على الأمل المعقد. فضل البريطانيون المظلة القديمة على المظلة الجديدة الواعدة والمكلفة.
راح العراقي يراقب الشاشات. تكررت كلمة الزلزال كثيراً. وبدأت الأسواق والبورصات في إحصاء الخسائر. أرقام مخيفة تعادل نتائج حروب كبيرة مدمرة. وثمة من راح يتحدث عن منعطف تاريخي عاقداً المقارنات مع انهيار جدار برلين. وهناك من حذر أن الضربة التي سددها البريطانيون إلى البناء الأوروبي تشبه تلك التي وجهها غورباتشوف إلى الاتحاد السوفياتي.
بعد ساعات أطل ديفيد كامرون. قال إن البريطانيين قالوا كلمتهم وستحترم. وإنه سيستقيل ليترك رئاسة الوزراء في عهدة رجل آخر.
فرك العراقي عينيه. ماذا فعل كامرون ليغادر. لم يستقل الذي أمر الجيش باجتياح الكويت. ولم يستقل من تفكك الجيش في عهده وأهدى الموصل لـ «داعش». ليس في ثقافتنا مسؤول يعتذر أو مسؤول يستقيل. لا يذهب الحاكم عندنا قبل أن يضمن ذهاب البلاد إلى الهاوية.
لم يطل احتفال العراقي بالوسادة البريطانية. خريطة بريطانيا مرشحة للتمزق والتقلص تماماً كالخريطتين العراقية والسورية. مشاعر الطلاق تتصاعد في إسكتلنده وإيرلندا. السابقة البريطانية قابلة للتكرار في القارة العجوز. واليمين المتطرف عثر على فرصة جديدة. دور اللاعب الأوروبي مرشح للتراجع أمام شراهة القيصر وصعود العملاق الصيني وبلاد دونالد ترامب. هذه هي الأقدار. يخسر العراقي مرتين. ومن عادة العربي أن يخسر مرتين.
غسان شربل
صحيفة الحياة اللندنية