«داعش» ليس على وشك أن يُسحَق على رغم انحسار مناطق نفوذه في العراق وسورية. البنية الرئيسة للتنظيم لم تتعرض لضربات مؤلمة، وخسارة «دولة الخلافة» مدن تكريت والرمادي والفلوجة في العراق، وتدمر في سورية، تمت في سياق آخر غير الرغبة والنية بإلحاق هزيمة حقيقية بالتنظيم الإرهابي.
«داعش» لن يُهزم في حرب مذهبية على نحو ما جرى في المدن العراقية الثلاث، ولن يُهزم في حرب قومية على نحو ما يُهيأ لمدينة الرقة السورية. لا بل إن يقظة الهويات المذهبية ستساعد التنظيم على النهوض من كل هزيمة مذهبية أو قومية تلحق به ليستأنف بعدها «فتوحات» من نوع مختلف.
واليوم يجري التأسيس لظلامة سنّية لن ينجو منها الإقليم الذي لم تعد الحدود تفصل بين دوله وعشائره وجماعاته. لن تستقيم العلاقة بين الحكومة العراقية وأهل الفلوجة على نحو ذمي كما هو حاصل اليوم، ولن يتمكن الأكراد من حكم مدينة الرقة السورية بعد هزيمة «داعش» فيها. ثمة خلل جوهري في هذين «الانتصارين» إذا ما تحققا. إنهما نصران مؤسِسان لانهيارات كبرى، وهما، إذا ما تحققا، سيحيلان الصدع المذهبي زلزالاً بدأت ملامحه تلوح من المشاهد الآتية من الفلوجة.
العالم لم يُهيّء نفسه لإلحاق الهزيمة بـ «داعش»، وليس مؤشر ذلك اقتصار الحرب على التنظيم على بعديها المذهبي والقومي، إنما مؤشرات أبعد من ذلك. فبين «جند الخلافة» أكثر من 20 ألف مقاتل غير عراقي وغير سوري، وإلحاق الهزيمة بالتنظيم لا يعني قتل جميع هؤلاء ولن يعني اعتقال جميع من بقي حياً منهم! فمَن من الدول والمجتمعات المُصدرة لـ «المجاهدين» على استعداد لاستقبال العائدين من «داعش»؟ هل الأردن يتحمل عودة مئات من المقاتلين مع «داعش» من أصل أردني إلى مدنه؟ وماذا عن لبنان الذي يعيش على شفير الانهيار، وعودة عشرات من اللبنانيين من إمارة «داعش» ستعجِّل في مشهد الانهيار. ثم إن قضاء أكثر من ألفي تونسي نحو أربعة أعوام في «دولة الخلافة» بعد أن سهلت لهم حكومة النهضة بين 2012 و2013 مهمة «الخروج»، لن يكون برداً وسلاماً على تلك الدولة.
ثمة حقائق ثقيلة تفرضها احتمالات هزيمة «داعش». فتجربة العيش أربع سنوات في ظل «دولة الخلافة» ليست عابرة، ولا يبدو أن العالم أعد نفسه لتبعاتها. الهزيمة ضرورية من دون شك، لكن للبطء الذي مارسه الجميع في تنفيذ المهمة تبعات كارثية. ثمة أطفال أمضوا سنوات في مدارس التنظيم ومعسكراته، ولا يبدو أن أحداً ممن يستعد لهزيمة «داعش» طرح على نفسه سؤالاً حولهم. وهناك فروع لعشائر بايعت التنظيم لتصريف مصالحها على نحو ما فعلت عندما بايعت السلطات المتعاقبة على حكمها، فما هو مشروع «المنتصرين» على «داعش» للحكم على هؤلاء؟
ثمة أجوبة كثيرة عن هذه التساؤلات، لكنها أجوبة تؤشر إلى أننا في أعقاب هزيمة التنظيم سنكون أمام تزخيم هائل للحروب الأهلية. فأجوبة «الحشد الشعبي» الشيعي عن هذه التساؤلات بدأت تظهر في الفلوجة من خلال الحضور الاحتلالي لفصائل الحشد في محيط الفلوجة ومن خلال «الغنائم» والأسواق التي أقيمت في بغداد لعـــرضــها. و«أطفال الخلافة» لن يكونوا محصنين من الميول الانتقامية.
العائدون من «دولة الخلافة» إلى دولهم القريبة والبعيدة ستكون السجون في انتظارهم، وفي هذه السجون لطالما أعيد إنتاج العنف وبعثه على نحو أشد قسوة وإجراماً. «داعش» أصلاً وُلدت من السجون. الداعشي الأول، أبو مصعب الزرقاوي، تحول في السجن من فتوة إلى «أمير»، والقيادة الحالية لـ»داعش» تشكلت في سجن بوكا في البصرة، والأمراء التونسيون للتنظيم هم قادة الجماعات الجهادية الذين فتحت حكومة «النهضة» لهم أبواب السجون فخرجوا منها إلى دولة «داعش».
الهزيمة التي يُحضِّرها العالم للتنظيم تشبه الهزائم الهزيلة التي سبق أن ألحقها هذا العالم بـ «الإرهاب». تجربة هزيمة «طالبان» في أفغانستان بصفتها مؤسِسة لهذا النوع من الهزائم مثلت بالنسبة إلى الأفغان انتصاراً للطاجيك والأوزبك والهزارة على البشتون الذين يُمثلون نحو 40 في المئة من السكان، وما زالت أفغانستان تعاني تبعات هذه الهزيمة، و «طالبان» ما زالت حية ترزق وها هو التحالف الدولي يفاوضها على المشاركة في السلطة. وهزيمة «البعث» في العراق مثلت للسنّة العراقيين نصراً للشيعة، وما زال العراق يتخبط إلى اليوم بتبعات هزائم جماعاته وانتصاراتهم. وفي سورية يؤسَّس لهزيمة من هذا النوع ينتصر فيها على «داعش» طرفان، الأول مذهبي علوي وشيعي، والثاني قومي كردي.
وإلى جانب ما نجم عن عدم استعداد العالم لحقائق هزيمة «داعش»، بدأت تلوح استحقاقات الهزيمة قبل حصولها. فما حصل على الحدود الأردنية- السورية مطلع الأسبوع ربما كان نموذجاً لما ينتظر المنطقة جراء الضغوط الميدانية على التنظيم في مناطقه. فالمناطق الصحراوية الهائلة المساحة التي سيلجأ إليها مقاتلو التنظيم بعد ضربهم في المدن ستجعل الحدود المتداخلة ساحة مواجهات أكيدة. وباستثناء إسرائيل، الوحيدة التي نجت حتى الآن من الوثبات «الداعشية»، لن تكون دول الجوار العراقي والسوري في منأى عن محاولات الاختراق.
ثمة خطأ مؤسِّس لكل هذه الأخطاء، فعجز التحالف الدولي عن إيجاد حليف سنّي في الحرب على «داعش» سهّل للتنظيم مهمة تمثيل «ظلامة» مذهبية، وحال هذا العجز دون تأسيس حضانة سياسية واجتماعية لأي محاولة سنية للانخراط في الحرب على التنظيم الإرهابي. فأعداء «داعش» من السنّة العراقيين فقدوا تمثيلهم المذهبي وصاروا ملحقين بالحكومة التي يراها السنّة هناك شيعية. وهذا العجز لم يقتصر على الفشل في إيجاد شركاء سنّة من المجتمعات المحلية، إنما تغذّى أيضاً على سوء التفاهم الكبير الذي يسود العلاقات بين تركيا والسعودية من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى، ما أدى إلى اعتقاد صار شائعاً في أوساط المجتمعات المحلية، يتمثل في أن هزيمة «داعش» ستكون انتصاراً لطهران، والأخيرة حرصت على تعزيز هذا الاعتقاد عندما أرسلت قاسم سليماني إلى الفلوجة.
حازم صاغية
صحيفة الحياة اللندنية