من أجل فتح الآفاق السياسية والديبلوماسية وجعلها أكثر ثقة والدخول في الأحلاف والشراكات العسكرية وغيرها والنهوض بالأمة، لا بد من إيجادالرغبة وإرادة التغيير والتطوير والتحديث أولاً، واتباع سياسة اقتصادية نشطة ومقتدرة، خصوصاً عند توافر البنى التحتية من الموارد الطبيعية لهذا الغرض ثانياً. وثالثاً تأتي بقية الأمور تباعاً.
هناك حيث يقيم منذ الأزل. هناك منذ تمكّن من شق درب الحرية بعد كفاح طويل، رأى نفسه وحيداً. حالته كانت أشبه بجزيرة محاطة بالأعداء من كل الجهات. وبعد جهد جهيد، نجح في تقليم الأنياب وتحطيم الأبواب وفتح ممرات شبه آمنة وشبه دائمة ليطل منها على الدول والقارات، وأصبح له دور في المنطقة ورقم لا يمكن تجاهله كإقليم طامح إلى الاستقلال، رغم تعثره في بعض المحطات الداخلية والسياسية منها. إنه كردستان العراق.
لقد استطاع أن يرسي علاقات اقتصادية كبيرة وسياسية متوازنة مع تركيا بعد أن كان جاراً غير مرغوب وغيـــر مرحب به لدى الأخيرة منــــذ نشوئه كمنطقة حكم ذاتي في التسعـــينات من القرن الماضي. وكان تلقــــى تهديدات بالويل والثبور بمناسبة أو مـــن دونها، ووسمت مدينة كركول وما حولها باللون الأحمر من تحت عباءة حلم الإمبراطورية بحجة وجود أقلية تركمانية فيها سبق أن اجتاح الجــيش التركي فعلاً أراضي إقليم كردستان مرات عدة بحجة ملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني. إلا أن عـــامل النفط والتجارة والاستثمار حــــال دون ذلك فيما بعد وقلب الطاولة، في لحظة مد فيها الإقليم يده لها تحت عنوان السلام وحسن الجوار والمصـالح المتبادلة. وبعد أن أيقنت هي الأخرى بأن جاراً غنياً يمدها بما تحتاج، أفضل من كيل العداء له، خصوصاً أن الظروف الدولية الحالية هي لمصلحة هذا الجار أكثر من أي وقت مضى، إضافة إلى احتمال أن يصبح وسيطاً في عملية السلام بينها وبين حزب العمال الكردستاني، فقد سبق أن لعب الرئيس العراقي السابق جلال طالباني دور الوسيط، ويبدي رئيس الإقليم هو أيضاً استعداده للعب هذا الدور.
هذا كله دفع تركيا المتعطشة للطاقة الى عقد اتفاقات اقتصادية كبيرة مع إقليم قابع على بحر من الموارد الطبيعية من خلال مد وتشغيل أنابيب عبر أراضيها وصولاً إلى ميناء جيهان ومنه نحو أوروبا وأميركا، بعد سد احتياجاتها وبأسعار أقل من الموردين الرئيسيين. كما وجدت في أسواق الإقليم ضالتها لإغراقها بالسلع والبضائع.
وكان لرداءة البنى التحتية للإقليم حافز لآلاف الشركات التركية للاستثمار في كل المجالات، خصوصاً في العقارات وغيرها من البنى التحتية. ويعطي اكتظاظ وديناميكية معبر إبراهيم خليل صـــورة عن مدى تطور العلاقات التجارية بين الطرفين. وليست العلاقات السياسية الودودة بين الطرفين إلا ترجمة في جزئها الأكبر للعلاقات الاقتصادية والمصالح المتبادلة.
أما شرقاً فلم تنقطع ولم تهدأ الشاحنات التجارية والنفطية عبر المعابر الحدودية، حتى أثناء فترة العقوبات الدولية التي فُرضت على إيران، لكن الأهم في الأمر الآن هو عزم الطرفين على إنشاء خط للذهب الأسود، على غرار المشروع مع تركيا عبر مد أنابيب بين بعض حقول الإقليم مع المصافي الإيرانية ومنها نحو مياه الخليج وآسيا .
يرتبط إقليم كردستان بحدود طويلة مع كل من تركيا وإيران، ويصل حجم التبادل التجاري إلى عشرات بلايين الدولارات سنوياً. أما داخلياً فيكاد الإنتاج والتصنيع أن يكونا معدومين، اذ بإمكان الإقليم إنتاج الكثير من السلع عوضاً من استيرادها لو اتبع خطة زراعية وصناعية نشطة على غرار الخطة النفطية، إذ يفتقر الإقليم إلى أبسط أنواع الصناعات ، ويعاني إهمالاً في القطاع الزراعي على رغم توافر المواد الأولية واليد العاملة. كما يشهد أيضاً تدهوراً في السياحة بسبب الحرب مع «داعش».
إن الاقليم مُعرّض للإفلاس في أي لحظة بسبب الفساد في مختلف القطاعات واعتماده في شكل كبير على الإيرادات النفطية. وقد حدث ذلك عندما أوقفت الحكومة الاتحادية حصـــة الإقليم من الميزانية إضافة إلى تكــاليف حربه مع «داعش»، ما أدى إلى أزمة مالية خانقة دفعت الى وقف دفع رواتب الموظفين، لذا فإن عليه محــــاربة الفساد وإجراء الإصلاحات والاهتمام ببقية القطاعات وإعداد جيــل منتج أفضل، بدلاً من الاتكال والإسراف والفساد، لأن التطور ليس فقط في تصدير النفط وبناء الأبراج واستيراد حتى أبسط الأشياء.
في مقابل رغبة الإقليم في تنويع طرق تصدير نفطه بين إيران وتركيا، فإن الدولتين ما زالتا غير موافقتين على استقلاله. وليس مستبعداً أن تنقلب إحداهما أو الاثنتان معاً عليه إذا وجدتا أن مصالحهما مع الاقليم تتقلص، في حال وجد الأخير طرقاً أخرى لتصدير نفطه. وما أسهل أن تتحول ايران وتركيا إلى عدوين، فالحجج والاتهامات سهلة الإعداد لديهما وأهمها إيواء الحركات العسكرية الكردية المناوئة لهما.
أفضل الطرق وأكثرها أماناً لتصدير نفطه والتي ستجلب استقلالاً قابلاً للحياة هو عندما يمتلك الاقليم مياهاً مالحة عبر إقليم كردي في شمال سورية (روجافاي كُردستان) ومن الممكن مد هذا الخط لأن المنطقة الكردية في سورية ستكون من حصة النفوذ الأميركي مستقبلاً التي ستحاول تقوية وجودها هناك حباً بمصالحها أولاً.
إلا أن هذا المشروع له معوقاته أيضاً حالياً، وأهمها:
– لا تزال السلطة الكردية في سورية بعيدة عن البحر.
– علاقة السلطة الحاكمة في إقليم كردي سوري (روجافي كُردستان) ليست على ما يرام مع إقليم كردستان العراق.
– ستحاول تركيا بكل الوسائل منع إقامة إقليم كردي في شمال سورية.
إن استـــقلال كردستان العراق هو مصلـــحة تركية وإيرانية بسبب العلاقات الاقتـــــصادية الضخمة، لكـــنّ البلديــن يرتعبان من انتـــقال العدوى إلى الأكراد في داخل حدودهما السـياسية. وعليه هذا الاستــــقلال إذا حدث سيكون ناقصاً وتحت رحـــمة الدولتين لأن الإقليم لا يملك منفذاً مائياً، وبمجرد وصول السلطة الكردية السورية إلى البحر يمكننا القول أن استقلالاً دائماً وذات سيادة سينتظر إقليم كردستان العراق.
خالد ديريك
صحيفة الحياة اللندنية