هل كان الخلاف بين الرئيس الأميركي باراك أوباما ورئيس الوزراء الإسرائيلي، أولاً حول المستوطنات ثم حول إيران، نقطة تحول؟ يُزعم أن نتنياهو قد حول دعم الولايات المتحدة لإسرائيل إلى قضية حزبية. ويقال إن الليبراليين، بمن فيهم الكثير من الأميركيين اليهود، قد ضاقوا ذرعاً بـ”احتلال” إسرائيل، الذي سنشهد ذكراه الخمسين في العام المقبل. ويُفترض أن إضعاف روح إسرائيل الديمقراطية يقوم بتحجيم قضية “القيم المشتركة” للعلاقة بين الدولتين. ويقول البعض إن التزام إسرائيل العنيد بوضع قائم “غير قابل للاستدامة” في الضفة الغربية جعل منها عائقاً في منطقة تمر بمخاض التغيير. ويُزعم أن إسرائيل تنزلق إلى وضع الدولة المارقة المعزولة، الذي تفرضه عليها الحركة العالمية للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل.
كانت هذه الرثاءات من الطراز الإنجيلي لفساد إسرائيل النهائي حاضراً ثابتاً لدى منتقدي الدولة والمناهضين المتحمسين للصهيونية على مدى 70 عاماً. لكن هؤلاء لا يمكن يمكن أن يكونوا أكثر انفصالاً عن الواقع. بطبيعة الحال، تغيرت إسرائيل -وإلى الأفضل بكل تأكيد. فبكل المقاييس، أصبحت إسرائيل أكثر عولمة، وازدهاراً وديمقراطية مما كانت عليه في أي وقت مضى في تاريخها. وفي حين تغرق الأجزاء المجاورة من الشرق الأوسط تحت موجات من الصراعات الطائفية، فإن أقليات إسرائيل تستقر في البلد آمنة مستريحة. وفي حين تترنح أوروبا تحت ضغط المهاجرين المسلمين غير المرغوب فيهم، ترحب إسرائيل بالآلاف من المهاجرين اليهود القادمين إليها من أوروبا. وفي حين تكافح الدول المتوسطية الأخرى مع الديون والبطالة، تتباهى إسرائيل باقتصاد متنامٍ، مدعومٍ بموجات من الاستثمار الأجنبي.
سياسياً، كانت فترة ولاية نتياهو هي أقل أوقات إسرائيل اضطراباً. ومع أن نتنياهو خدم فترة أطول من أي رئيس وزراء إسرائيلي آخر، باستثناء ديفيد بن غوريون، فإنه قاد إسرائيل في حرب برية واحدة فقط: عملية “الجرف الصامد” في غزة في العام 2014. وقبل أربع سنوات، كتبت كاتبة العمود في صحيفة “نيويورك تايمز”، مورين دود: “كنتُ سأشعر أفضل لو لم يكن شريكنا هو نتنياهو المحارب الذي يبقي يده على الزناد”. لكن نتنياهو لم يضغط الزناد، حتى ضد إيران. ويستمر الناخبون الإسرائيليون في إعادته إلى المنصب، بالتحديد لأنه يتجنب المخاطر: لا حروب لا داعي لها، وإنما لا خطط سلام طموحة أيضاً. وعلى الرغم من أن هذا الوضع ربما ينتج “إحباطاً شاملاً” في بيت أوباما الأبيض، بالعبارة التوبيخية لنائب الرئيس جو بايدن، فإنه يناسب غالبية اليهود الإسرائيليين جيداً.
يثير بقاء نتنياهو كل هذه الفترة حنق اليسار الإسرائيلي المتقلص أيضاً: فبعد أن وجدوا أنفسهم محبطين عند صندوق الاقتراع، أصبح هؤلاء يعزون أنفسهم بفكرة خاطئة، هي أن الديمقراطية الإسرائيلية أصبحت في خطر. وكان اليمين خرج بمزاعم مماثلة قبل 20 عاماً، والتي بلغت ذروتها باغتيال رئيس الوزراء إسحق رابين. ولا شك أن القوى المناهضة للديمقراطية توجد في كل الديمقراطيات، لكنها تكون في إسرائيل، إما خارج النظام أو محصورة في الأحزاب الصغيرة، اليهودية والعربية على حد سواء. وليست هناك آلية يستطيع بها انعزالي أن يستولي على الأحزاب السياسية الرئيسية نتيجة صعود مفاجئ للشعبوية، كما يبدو مرجحاً الآن في الولايات المتحدة. وتحت ضغوط مماثلة من الإرهاب والحرب، فقدت حتى الديمقراطيات القديمة توازنها، لكن سجل إسرائيل في الانتخابات النزيهة والحرة يشهد على عمق روح ديمقراطيتها المحلية، تعززها صحافة نابضة وقضاء يقظ.
كما أن إسرائيل هي الآن أكثر أمناً من أي وقت مضى. ففي العام 1948، واجه نحو 700.000 يهودي فقط التحدي الكبير المتمثل في نيل الاستقلال ضد جيوش العالم العربي المحتشدة. وقد حذر كبار القادة بن غوريون في ذلك الحين من أن لدى إسرائيل فرصة 50-50 فقط في الانتصار. واليوم، هناك أكثر من ستة ملايين يهودي إسرائيلي، وأصبحت إسرائيل اليوم من بين القوى العسكرية الأكثر قوة وشراسة في العالم. وهي تتمتع بتفوق نوعي على أي تركيبة يمكن تصورها من الأعداء، وقد عملت الرقمنة المستمرة للحرب بشكل خاص في صالح مكامن قوة إسرائيل. وقد انسحبت الدول العربية من المنافسة، تاركة الميدان للإسلاميين المتشددين على حدود إسرائيل. ومع أن هؤلاء الإسلاميين يمجدون “المقاومة”، فإن صواريخهم البدائية وأنفاقهم التي يحفرونها ليست فعالة. ولعل التهديد الوحيد الموثوق لاستدامة إسرائيل هو إيران نووية. لكن أحداً لا يشك في أنه حتى لو عبرت إيران العتبة النووية، فإن إسرائيل تستطيع أن تنشر رادعها النووي الخاص، باستقلال عن أي تحالف يمكن أن يقيدها.
وماذا عن الفلسطينيين؟ ليس ثمة حل قريب لهذا الصراع الطويل، لكن إسرائيل كانت بارعة في احتواء آثاره. هناك مناطق محتلة، لكن هناك مناطق غير محتلة أيضاً. وتحتفظ إسرائيل ببصمة أمنية من بعيد في معظم الضفة الغربية؛ في حين يملأ التعاون الأمني الإسرائيلي الفلسطيني معظم الثغرات. وقد أصبحت السلطة الفلسطينية دويلة يدعمها مزيج من المساعدات الخارجية، والنمو الاقتصادي، والفساد المعتاد. وبمعايير الشرق الأوسط الراهن، فإن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني يبدو مستقراً. وتجري متابعته غالباً عن بعد، من خلال المناورات في الهيئات الدولية والحملات لصالح أو ضد حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات. وهناك مواجهات صوتية عالية النبرة، وإنما منخفضة التأثير. ويلخص يوسي فاردي، أشهر رواد الأعمال الإسرائيليين في مجال التقنية العالية، وجهات نظر التيار السائد في إسرائيل، فيقول: “لست قلقاً على الإطلاق من التأثير الاقتصادي لحركة المقاطعة. كنا عرضة للمقاطعات من قبل”. بل وكانت تلك المقاطعات أسوأ بكثير.
لكل حزب سياسي في إسرائيل حله الخاص المفضل للصراع، ولكن ليس هناك أي حل يعرض مزية لا لبس فيها على الوضع الراهن. “الاحتلال كما هو الآن يمكن أن يستمر إلى الأبد، وهو أفضل من أي بديل” -هذا الرأي، الذي صدر في نيسان (أبريل) عن بيني زيفر، المحرر الأدبي لصحيفة “هآرتس” اليسارية الليبرالية، يلخص رأي الإجماع الإسرائيلي الحالي. ومع أن القول إن حل الدولتين أصبح منتهي الصلاحية ما يزال قابلاً للجدل، فإن الواقع على الأرض لا يشبه دولة واحدة أيضاً. فبعد نصف قرن من حرب العام 67، يعيش ما نسبتهم 5 في المائة فقط من الإسرائيليين في مستوطنات الضفة الغربية، ويعيش نصفهم في خَمس كتل يمكن أن تحتفظ بها إسرائيل في أي سيناريو لحل دولتين.
وفي هذه الأثناء، تقوم دول عربية عدة بمصافحة إسرائيل، أحياناً أمام الكاميرات. وتغازل إسرائيل وروسيا بعضهما بعضا بدأب؛ وأبعد من ذلك أيضاً، تزدهر علاقات إسرائيل مع الصين والهند. وقد أصبح المنبوذ الحقيقي في الشرق الأوسط هو النظام السوري، الذي لم يتكرم بصنع السلام مع إسرائيل. وتتعرض هذه الدولة العربية التي تدعى صامدة للانهيار من الداخل من خلال حمام دم كبير؛ وقد أصبح مشروعها النووي ومخزوناتها الهائلة من الأسلحة الكيميائية الآن ذكرى بعيدة.
تواجه إسرائيل كل أنواع التهديدات والتحديات الممكنة، لكنها لم تكن أبداً بمثل هذا الاستعداد لمواجهتها. والفكرة الشائعة بين معظم منتقدي إسرائيل بأن مواطنيها يعيشون في حالة دائمة من الخوف المقعِد تضلل كلاً من حلفاء إسرائيل وخصومها على حد سواء. إن قادة إسرائيل حذرون، وإنما واثقون، ولا يمكن إفزاعهم بسهولة، وهم متمرسون في اللعبة الطويلة نفسها التي يلعبها الجميع في الشرق الأوسط. ولا شيء يجعلهم أقل تأثراً من الشعار الباطل القائل إن الوضع الراهن غير قابل للاستمرار. لقد اعتمد بقاء إسرائيل دائماً على رغبتها في إدامة الوضع الراهن الذي تكون قد هي قد خلقته، دافعة بخصومها إلى التنازل -والتسوية. وهذا فنٌّ أكثر مما هو عِلم، لكن هذا العزم خدم إسرائيل بشكل جيد مع مرور الوقت.
القوة العظمى تتراجع
مع ذلك، ثمة سحابة قاتمة تلوح في أفق إسرائيل. وهي ليست قنابل إيران النووية المؤجلة، ولا التهديدات الأكاديمية بالمقاطعة، أو مناورات الفلسطينيين في الأمم المتحدة. إنها فراغ هائل قادم في السلطة. الولايات المتحدة تتراجع من المنطقة بعد فورة مضللة إلى حد كبير من المغامرات الفاشلة. وهي تقطع تعرضها في الشرق الأوسط الذي لطالما تحدى التوقعات الأميركية وحرم الرؤساء الأميركيين المتعاقبين من لحظة “المهمة أنجزت” التي يسعون إليها. وكان فك الارتباط قد بدأ قبل دخول أوباما البيت الأبيض، لكن أوباما قام بتسريعه حين خلص إلى رؤية الشرق الأوسط كمنطقة ينبغي تجنبها لأنها “لا يمكن إصلاحها -ليس في عهده، وليس على مدى جيل مقبل”. (كان هذا هو الانطباع النهائي الذي تشكل لدى الصحفي جيفري غولدبيرغ، الذي منحه أوباما مقابلة إرثه حول السياسة الخارجية).
إذا كان التاريخ ليشكل سابقة، فإن ما يجري أكثر من مجرد إعادة تمحور. فعلى مدى القرن الماضي، كانت لكل من الأتراك، والبريطانيين، والفرنسيين والروس لحظتهم في الشرق الأوسط، لكنه اتضح أن إطالتها مكلفة عندما انحسرت قوتهم. وقد تخلوا عن السعي إلى الهيمنة واستقروا على النفوذ. وقبل عقد من الآن، وعلى صفحات هذه المجلة، تنبأ ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية، بأن الولايات المتحدة وصلت تماماً إلى هذه النقطة. وأعلن هاس: “الحقبة الأميركية في الشرق الأوسط… وصلت إلى نهاية”. وأضاف: “سوف تستمر الولايات المتحدة في التمتع بنفوذ في المنطقة أكثر من أي قوة خارجية أخرى، لكن نفوذها سوف ينخفض عما كان عليه في السابق”. وكان ذلك اقتراحاً قابلاً للمناقشة في العام 2006؛ والآن، في العام الحالي، جعله أوباما واقعاً لا جدال فيه.
ثمة العديد من الطرق لجعل التراجع يبدو شيئاً غير حقيقته. وكان المسار الذي اتبعته إدارة أوباما هو خلق وهم عن وجود توازن مستقر، عن طريق خفض التزامات الولايات المتحدة تجاه حلفائها وتهدئة خصومها. وهكذا، فجأة، لم يعد أي من أصدقاء الولايات المتحدة التقليديين جيداً بما يكفي لتبرير منحه ثقتها الكاملة. يجب على القوة العظمى أن تخفي قلقها وإنهاكها، وتتظاهر بأنها محبطة من تقلب هؤلاء “الركاب بالمجان”. وسوف تخدم الشكاوى من ذلك، من إسرائيل (كما هو الحال مع مصر والعربية السعودية) مثل هذا السرد.
لا يحجم قادة إسرائيل عن التحذير ضد تداعيات هذا الموقف، لكنهم يظلون حذرين إزاء عدم التفكير بصوت عال حول خيارات إسرائيل في شرق أوسط ما-بعد-أميركي. وتريد إسرائيل وضع مذكرة تفاهم جديدة مع الولايات المتحدة، والتي كلما كانت أكبر كان ذلك أفضل، كتعويض عن الاتفاق النووي الإيراني. وسيكون في مصلحة إسرائيل أن يتم تأكيد أهمية العلاقة الأميركية-الإسرائيلية باعتبارها حجر الأساس لجعل الاستقرار الإقليمي يمضي قُدماً إلى الأمام.
أما إلى أي مدى إلى الأمام، فهي مسألة أخرى. فحتى لو سعت إسرائيل إلى تعميق التزام الولايات المتحدة تجاهها على المدى القصير، فإنها تعرف أن الرباط الذي لا يتزعزع لن يدوم إلى الأبد. وهذا درس من دروس التاريخ. كان قادة الحركة الصهيونية سعوا دائماً إلى إقران مشروعهم بالقوة المهيمنة في ذلك اليوم، لكنهم استطاعوا النجاة والبقاء واجتياز الكثير من التاريخ الأوروبي بحيث لا يمكن أن يفكروا بأن أي قوة عظمى يمكن أن تظل ملتزمة إلى الأبد. وفي القرن العشرين، شهدوا انهيار الإمبراطوريات القديمة وصعود أخرى جديدة؛ حيث تغتنم كل لحظتها وتبذل الوعود ثم تعدل عنها. وعندما جاء دور الولايات المتحدة، لم تسارع الإمبراطورية الناشئة إلى احتضان اليهود، وإنما كانوا وحدهم معظم فترة الثلاثينيات، عندما كانت أبواب الولايات المتحدة مغلقة في وجوههم. وكانوا وحيدين خلال الهولوكوست، عندما استيقظت الولايات المتحدة متأخرة جداً. وكانوا وحدهم في العام 1948، عندما قال رئيس أميركي صراحة للإسرائيليين إنهم إذا ذهبوا إلى الحرب، فإنهم سيكونون فيها وحدهم.
بعد العام 1967، عشَّشت إسرائيل في “باكس أميركانا”. ثم عمقت العقود اللاحقة من “العلاقة الخاصة” اعتمادية إسرائيل على الولايات المتحدة في المجال العسكري، حتى أن الكثير من الإسرائيليين لا يستطيعون أن يتذكروا كيف تدبرت إسرائيل أمر بقائها في السابق من دون كل هذه المعدات الأميركية. وتقوم جيوش إسرائيل الخاصة من الأنصار في الولايات المتحدة، وخاصة المجتمع اليهودي، بتعزيز هذه العقلية، بينما يؤكدون لأنفسهم أنه لولا جهود الضغط واللوبيات التي يبذلونها في واشنطن، لكانت إسرائيل الآن في خطر مميت.
لكن إدارة أوباما منحت الإسرائيليين الدافع لمعاينة مدى احتمال تعرض هذه العلاقة غير القابلة للاهتزاز للاهتزاز. وربما يبدو هذا الاحتمال منذراً بالنسبة لأنصار إسرائيل، لكن الإدارة المحتومة للمقود وتغيير الاتجاه كانت بالضبط هي السبب في أن اليهود الصهاينة سعوا إلى استقلال ذي سيادة في المقام الأول. إن وجود إسرائيل مستقلة وغير معتمدة على أحد هو الضمانة ضد اليوم الذي يجد فيه اليهود أنفسهم مرة أخرى وحيدين. والفرضية التي تقوم بتشغيل الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي هي أن مثل هذا اليوم سوف يأتي حتماً.
إسرائيل وحدها
هذا الاعتقاد، بعيداً عن كونه يشل إسرائيل، إنما يدفع بها في الحقيقة إلى توسيع خياراتها وتنويع علاقاتها، وبناء قدراتها المستقلة. سوف يكون الشرق الأوسط في السنوات الخمسين المقبلة مختلفاً عن ذلك الذي كانه خلال المائة عام السابقة. لن تكون هناك قوى عظمى خارجية ساعية إلى الهيمنة هنا. فقد أصبحت كلفة السعي إلى تحقيق هيمنة كاملة الطيف مرتفعة جداً؛ والمكافآت قليلة جداً. سوف تسعى القوى الخارجية إلى تحقيق أهداف مخصوصة متصلة بالنفط أو الإرهاب. لكن مناطق واسعة من الشرق الأوسط سوف تُترك لتواجه أقدارها، لتنحل وتعاود التشكل بطرق غير قابلة للتنبؤ بها. وربما يطلب الجيران الأضعف من إسرائيل أن تمد شبكتها الأمنية لتشملهم. وقد شرع القلق العربي من إيران في العمل مسبقاً على تطبيع إسرائيل في المنطقة أكثر مما فعلت عملية السلام بعيدة المنال دائماً وغير الحاسمة مطلقاً. وسوف تظهر إسرائيل، التي بدت ذات مرة نقطة ارتكاز الأزمة الإقليمية، ركيزة للاستقرار الإقليمي -وليس لشعبها فقط، وإنما لجيرانها أيضاً، المهددين بمد متصاعد من الانقسام السياسي، والانكماش الاقتصادي، والإسلام الراديكالي، والكراهية الطائفية.
وهكذا، تخطط إسرائيل للبقاء والديمومة بعد الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ويظهر الإسرائيليون ضيقهم عندما تلمح الولايات المتحدة إلى أنها تفهم أفضل مصالح إسرائيل الأصيلة وطويلة المدى، والتي يُفترض أن إسرائيل مصدومة كثيراً أو مرتبكة تماماً بحيث لا تستطيع أن تدركها. وعلى الرغم من أن إسرائيل ارتكبت العديد من الأخطاء التكتيكية، فإن من الصعب المجادلة بأن استراتيجيتها كانت أي شيء سوى النجاح الصريح الواضح. وبالنظر إلى سجل الولايات المتحدة المتذبذب في تحقيق -أو حتى تعريف مصالحها في الشرق الأوسط، فإن من الصعب قول الشيء نفسه عن الاستراتيجية الإسرائيلية. لقد وضعت إدارة أوباما رهانها على الاتفاق النووي الإيراني، ولكن، حتى أكثر المدافعين عن الاتفاق تحمساً لم يعودوا يزعمون بعد الآن بأنهم يرون “قوس التاريخ” وهو يتشكل في الشرق الأوسط. ففي وجه انهيار الربيع العربي، والقتلى السوريين، والملايين من اللاجئين، وصعود “داعش”، مَن هو الذي يستطيع أن يخمن أي اتجاه يشير إليه هذا القوس؟ أو إلى أين سيؤدي الاتفاق الإيراني؟
ثمة لازمة أميركية شائعة أخرى تستحق أن توضع على الرف هي الأخرى. قبل خمس سنوات من الآن، قال باراك أوباما: “بسبب صداقتنا بالتحديد، من المهم أن نقول الحقيقة: إن الوضع الراهن غير قابل للاستدامة، ويجب على إسرائيل أيضاً أن تتصرف بجرأة من أجل تحقيق سلام دائم”. لقد حان الوقت لأن تتخلى الولايات المتحدة عن هذه اللازمة، أو تقوم بتعديلها على الأقل. وما لم يخلص خصوم إسرائيل إلى أن إسرائيل تستطيع إدامة الوضع الراهن إلى ما لا نهاية -تفوق إسرائيل العسكري، وميزتها الاقتصادية؛ و، نعم، احتلالها- فلن يكون هناك أي أمل في أن يوطنوا أنفسهم على التصالح مع وجود إسرائيل كدولة يهودية. ولا تستطيع التصريحات مثل تصريح أوباما المذكور أن تقنع حكومة إسرائيل التي تعرف أفضل، لكنها تذكي الرفض العربي والإيراني لإسرائيل بين أولئك الذين يعتقدون أن الولايات المتحدة لم تعد تقف خلف إسرائيل بعد الآن. بالنسبة لأعداء إسرائيل، سوف يكون استنتاج أن إسرائيل ضعيفة على هذا النحو خطأ مأساوياً: إن إسرائيل في وضع جيد جداً لإدامة الوضع الراهن من تلقاء نفسها. وتتأسس استراتيجيتها بعيدة المدى على ذلك.
سوف توفر إدارة أميركية جديدة فرصة لإعادة النظر في سياسة الولايات المتحدة، أو الخطاب الأميركي على الأقل. وكان أحد المرشحين الرئاسيين، هيلاري كلينتون، أدلت بتصريح في القدس عندما كانت وزيرة للخارجية الأميركية في العام 2010، والتي اقتربت أكثر من الواقع والتطبيق العملي. قالت، مرددة تلك العبارة المعتادة: “إن الوضع الراهن غير قابل للاستدامة” لكنها أضافت ما يلي: “الآن، لا يعني ذلك أنه لا يمكن أن يكون مستداماً لسنة أو عقد أو اثنين أو ثلاثة، ولكن هذا الوضع في الأساس غير قابل للاستدامة”. والترجمة: إن الوضع الراهن قد لا يكون الأمثل، ولكنه مستدام، إلى المدى الذي يتطلبه الأمر.
بينما تتراجع الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، يجب أن تكون هذه هي الرسالة التي ترسلها واشنطن إذا أرادت أن تساعد إسرائيل وبقية حلفاء الولايات المتحدة على ملء الفراغ الذي ستخلفه وراءها.
مارتن كريمر
ترجمة:علاء الدين أبو زينة
صحيفة الغد الأردنية