كشف الحديث «الإسرائيلي» الملتبس، بين حين وآخر، عن وجود ميل للبحث في أمر مبادرة السلام العربية، ثم التراجع السريع، وبعدها تجديد الحديث بغموض أكثر، عن حقيقة مهمة، تَحكم الفكر الاستراتيجي «الإسرائيلي» مفادها أن الوقت الراهن بكل ما يشهده العالم العربي، وإقليم الشرق الأوسط من تطورات درامية غير مسبوقة، وغير متوقعة، يمثل فرصاً نادرة أمام «إسرائيل»، لتحقيق كل ما ظلت تحلم به، منذ تأسيسها، وهو فرض نفسها كقوة إقليمية غير منازعة وغير مهددة، وقادرة على فرض السلام الذي تريده على أعدائها العرب.
فالدول العربية تتفكك ومعرضة لإعادة التقسيم إلى دويلات وكيانات إقليمية عرقية وطائفية مفرَّغة تماماً من هويتها القومية العربية، ومتنازعة مع بعضها البعض، والنظام العربي يتداعى مع كل ما يحدث من صراعات وحروب دامية داخل كثير من الدول العربية، وميزان القوة بين العرب و«إسرائيل» أضحى لصالح الكيان الصهيوني، بعد تدمير القدرات الاستراتيجية (العسكرية والأمنية والاقتصادية) لدولتين عربيتين شديدتي الأهمية من دول المواجهة، هما العراق وسوريا أولاً، واستنزاف الجيش المصري في الحرب ضد الإرهاب داخل شبه جزيرة سيناء.
هذه التطورات التي حدثت، والتي تحدث على صعيد الوطن العربي، وإقليم الشرق الأوسط دعمت قناعات «إسرائيلية» بأن هذا هو وقت «اقتناص الفرص الإقليمية» في اتجاهين أساسيين؛ أولهما، فرض المشروع «الإسرائيلي» في فلسطين بإنهاء أي حديث عن «خيار الدولتين» وفرض خيار الدولة الواحدة، مع قبول باستيعاب العرب سكان الضفة الغربية التي باتوا يعتبرونها أرضاً «إسرائيلية»، تحت اسم «يهودا والسامرة» داخل «إسرائيل» كأقلية قومية مع استبعاد قطاع غزة من هذه الترتيبات، وإنهاء أي حديث عن موضوع حق عودة اللاجئين الفلسطينيين.
الاتجاه الثاني هو فرض تأسيس نظام إقليمي جديد وفق استقطاب إقليمي ضمن «محور إسرائيلي- عربي- تركي» يعمل ضد إيران.
ولتحقيق هذين الهدفين يرى «الإسرائيليون» أنهم مطالبون بتقديم «مبادرات إغراء وتحفيز» لدول عربية باتت تميل للتعاون سواء لمحاربة إيران أو لمحاربة الإرهاب، أو لمحاربة الاثنين معاً. من هنا يجيء الحديث «الإسرائيلي» المتلعثم على لسان بنيامين نتنياهو، رئيس الحكومة وقيادات سياسية «إسرائيلية» أخرى، وفي الإعلام «الإسرائيلي» عن إمكانية القبول بمبادرة السلام العربية بعد تعديلها، وهي المبادرة التي تتحدث عن «السلام الشامل مقابل الانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي التي احتلت في حرب الخامس من يونيو/حزيران 1967». تعديل لا يجعل السلام الشامل، أي تطبيع العلاقات العربية – «الإسرائيلية» تطبيعاً كاملاً، مرهوناً بالتحقيق الكامل للانسحاب «الإسرائيلي» من كل الأراضي المحتلة، بل البدء في تطبيع العلاقات العربية – «الإسرائيلية» بمجرد بدء مفاوضات «إسرائيلية» مع السلطة الفلسطينية، وترك أمر انتهاء هذه المفاوضات للطرفين المعنيين بها أي «إسرائيل» والسلطة الفلسطينية، وفتح كل أبواب التطبيع مع الدول العربية بمعزل كامل عن مآل هذه المفاوضات.
ما يعني العمل على تحقيق ما لم يستطع مؤتمر مدريد للسلام (1991) تحقيقه من «سلام دافئ» عربي – «إسرائيلي».
ومن هنا أيضاً يجيء الحديث «الإسرائيلي» عن «آفاق واعدة للتعاون الأمني والاقتصادي» العربي – «الإسرائيلي» على نحو ما كشفته دراسة مهمة صادرة عن «معهد أبحاث الأمن القومي» في تل أبيب. فهذه الدراسة ترى أن التقارب العربي مع «إسرائيل» في مواجهة أعداء مشتركين «يهددون استقرار المنطقة وسلمها» مثل إيران وحزب الله و«حماس» والمجموعات السلفية الجهادية، أضحى مصلحة عربية يجب ترسيخها. أمّا على المستوى الاقتصادي، ترى الدراسة أن إنهاء الصراع «الإسرائيلي» – الفلسطيني هو المدخل لإقامة «منظومة تعاونية شرق أوسطية في مجالات الطاقة والتجارة والمواصلات».
تعليقات إسحاق هيرتسوغ زعيم المعارضة في الكنيست، رئيس حزب «المعسكر الصهيوني»، على ما يراه من ميول متصاعدة لدى قيادات عربية لفتح صفحة تعاون جديدة مع «إسرائيل» جاءت في اتجاهين، أولهما ضرورة دعم وتشجيع هذه الميول من جانب «إسرائيل»، بإظهار القبول باتخاذ خطوات لحل النزاع «الإسرائيلي» الفلسطيني، ومن هنا يجيء الحديث عن القبول المحتمل ب «مبادرة سلام عربية معدَّلة»، وثانيهما السعي المشترك للقضاء على تيار الكراهية والعنف الذي ينتشر في المنطقة بتأسيس تحالف إقليمي لمحاربة القوى الداعمة لهذا التيار، خاصة إيران التي «تواصل دعمها للإرهاب» وأيضاً تنظيم «داعش» الذي لا يزال يهدد الأمن والاستقرار في المنطقة.
بمعنى آخر، فإن «إسرائيل» مطالبة ب «اقتناص الفرص الإقليمية» لتأسيس تحالف إقليمي جديد: «إسرائيلي- عربي» أو «إسرائيلي- عربي- تركي» يحارب إيران والإرهاب السلفي الجهادي، مدعوماً بعلاقات «سلام دافئ» يرتكز على عنوان زائف هو القبول بسلام وفق مبادرة السلام العربية.
د.محمد السعيد إدريس
صحيفة الخليج