صورتان عن العراق أثارتا الأسبوع الماضي حيزاً من النقاش. تقرير السير جون تشيلكوت الذي عرّى وأسقط المبررات التي دفعت طوني بلير إلى مشاركة جورج بوش في غزو هذا البلد العربي. والتفجير الإرهابي في الكرادة الذي سعر الصراع السياسي في بغداد وبات يهدد بانهيار آخر ما بقي من مؤسسات ومن وحدة بلاد الرافدين. وهذا أحد أبرز تداعيات الغزو. لذا يحتاج العراق إلى لجنة تذهب أبعد مما ذهبت إليه اللجنة البريطانية بتفنيدها الأسس القانونية الباطلة التي دفعت المملكة المتحدة إلى المشاركة في إسقاط نظام اتهم بامتلاك أسلحة دمار شامل. لا أحد يجهل اليوم أن هذه الأسلحة كانت ذريعة فحسب. فما لم يقله تحقيق تشيلكوت قالته كوندوليسا رايس من زمن. ردت عشية وداع الإدارة السابقة الجنود المنتشرين في العراق ، على الذين يروجون لمقولة فشل الغزو الأميركي وأهدافه. قالت باختصار إن احتلال هذا البلد أزال تهديداً رئيسياً لإسرائيل. وشطب من المعادلة الإقليمية وميزان القوى فيها عنصراً فاعلاً. ما لم تقله وزيرة الخارجية الأميركية السابقة صراحة أن سقوط بغداد وجه ضربة قاصمة إلى النظام العربي. وشرّع الباب واسعاً لتأجيج الصراع المذهبي على مستوى المنطقة كلها. وبدل المشهد الاستراتيجي. حتى أن بعض الدوائر يعتقد بأن كل ما شهده الشرق الأوسط في العقد الأخير وما يشهده اليوم بدأ مع سقوط بغداد. وما تلا ذلك من تعزيز نفوذ إيران. وما قدم من وقود جديد لتفاقم الإرهاب مع قيام «دولة الزرقاوي» وبعدها «دولة البغدادي»، شاغلة العالم. وهذا ما لم يلحظه السيد بلير الذي يبدو أنه لم يستوعب ما اقترفه بتجاهله المرور الإلزامي بمجلس الأمن بدل الإنجرار الأعمى خلف إدارة المحافظين الجدد في واشنطن. لا أحد يأسف لإسقاط نظام صدام حسين. ولكن لا أحد يجهل أن الغزو ساعد على انتشار الإرهاب وتصاعده!
يحتاج العراق إلى لجنة توثق للتاريخ الدوافع الفعلية للغزو، وتحدد المسؤولين، وهم كثر وبينهم النخب العراقية التي تحكم البلاد بعدما سارت في ركاب الغزو. وقوى إقليمية ساهمت في تسهيل الحرب وعلى رأسها إيران. وأخرى انصرفت كالعادة إلى صراعات وتصفية حسابات بدل السعي إلى التمسك بالحلول الديبلوماسية، مثلما حصل في القمة العربية بشرم الشيخ عشية الغزو. يومها لم تعر الجامعة ومعظم القادة العرب اهتماماً إلى اقتراح تقدمت به أبو ظبي لإقناع صدام حسين بالتخلي عن السلطة من أجل تفادي الحرب. وجاء موقف القمة نتيجة طبيعية لعجز عربي عن معالجة مشكلة الحصار الذي كلف العراق طوال عقد آلاف الضحايا. بل إن الخلافات التي ذرت بقرنها في القمة كادت أن تطيحها فاستعاضت يومها ببيان تقليدي قطع الطريق على خطب تقليدية لا تسمن ولا تغني.
وبعيداً عن الجدل القانوني الذي أثاره تقرير تشيلكوت، لم يكن الدافع الفعلي للغزو تدمير أسلحة الدمار الشامل غير الموجودة. كان الهدف، إضافة إلى ما ذكرته رايس، إقامة نظام ديموقراطي في بغداد، في إطار ما سمي «الشرق الأوسط الجديد». لعل هذا النظام يشكل نموذجاً جاذباً وناقلاً للعدوى إلى إيران وسورية. فهذان البلدان وضعتهما إدارة الرئيس بوش الإبن عشية الحرب على رأس لائحة «محور الشر». فتصرف نظامهماعلى أساس أن الأميركيين باتوا على مشارف الحدود، وأن دورهما آت لا محالة. لذلك عملا على تحويل المغامرة العسكرية الأميركية – البريطانية عبئاً ثقيلاً كلف المحتلين أكثر من أربعة آلاف قتيل وما يربو على ترليون دولار. أنهك الاحتلال القوة العظمى، مثلما أرهقها احتلال أفغانستان. وساهم «نظام المحاصصة» والصراعات السياسية ذات الوجه المذهبي والإثني في تحويل العراق ساحة سهلة لشتى التدخلات الخارجية. وهو ما فاقم ظاهرة الإرهاب، وعرض وحدة بلاد الرافدين للتفكك. صحيح أن تقرير تشيلكوت يشكل وثيقة إدانة لحكومة بلير ولجميع المسؤولين عن خراب العراق. لكنه لن يغير شيئاً من صورة عراق اليوم. فالحرب لم تكن أصلاً تحتاج إلى قرار من مجلس الأمن أو إلى غطاء من الأمم المتحدة. إدارة المحافظين الجدد لم تلتفت إلى اعتراض فرنسا وألمانيا وروسيا والصين. بقدر ما استعجلت تغيير صورة البلد وهويته ونظامه ومؤسساته. فلم يتردد الحاكم الأميركي بول بريمر منذ اليوم الأول في حل المؤسسة العسكرية وكل الأجهزة الأمنية، فضلاً عن باقي المؤسسات. وترك البلد من يومها نهباً للصراعات المذهبية ومرتعاً للتدخلات، خصوصاً من جانب إيران التي يقيم «ممثلها» الجنرال قاسم سليماني في قلب بغداد، في قلب المعادلة السياسية والأمنية… بغطاء شرعي من حكومة حيدر العبادي!
ما لم يقله تشيلكوت في تقريره روج له تلامذة برنارد لويس من المحافظين الجدد الذين أرسوا مفهوم الحرب الاستباقية ودفعوا إدارة بوش الإبن إلى مغامرات قاتلة. بشروا بعد 11 سبتمبر 2001 بوجوب نقل المواجهة مع الإرهاب من الشوارع الأميركية والغربية عموماً إلى أرض المنطقة، وإشغال أهلها بقتاله. فعملوا على استكمال تقويض النظام العربي (السني) في الإقليم، والذي شكل أكبر تحد له قيام دولة «ولاية الفقيه» الشيعية في إيران، مع نجاح «الثورة الإسلامية». ثم بعد ذلك في قيام «الحركة التصحيحية» في سورية (1970) التي كانت ولا تزال الحليف الوفي للجمهورية الإسلامية. ثم قامت «دولة حزب الله» في لبنان بعد تحرير الجنوب العام 2000 وترسخت إثر حرب 2006. وبعده جاء إسقاط نظام صدام حسين ليكرس نفوذ طهران في حكم العراق وتمدده حتى شواطىء المتوسط وساحل البحر الأحمر على أيدي الحوثيين.
صورة الاصطفاف المذهبي في الإقليم واضحة لا تحتاج إلى شرح. ويبقى العراق صورة جلية عن هذا الاصطفاف. ولا يحتاج «تشيلكوت» عراقي أو دولي إلى سبع سنوات لتظهير الصورة. ليست هناك أحزاب فاعلة عابرة للطوائف أو المذاهب أو الاتنيات، فكيف يمكن الحديث عن وحدة هذا البلد؟ الحديث كان ولا يزال على سبل التمسك بنظام «تقاسم» خيرات البلاد. ونظام الميليشيات المذهبية بعدما بات لكل مكون عسكره ورجاله، وإن تفاوتت موازين القوى، من كردستان إلى الجنوب والغرب مروراً بالعاصمة التي يبدو أن التغيير الديموغرافي فيها وفي محيطها مستمر على قدم وساق. وهو ما يمهد الطريق ليس لقيام فيديرالية هنا وهناك بقدر ما يدفع البلاد نحو تقسيم حقيقي يحول دون إعلانه اليوم غياب الإرادة الدولية وبعض القوى الإقليمية التي تتخوف من أن تكر السبحة ويبدأ رسم حدود جديدة ترسخ حدود المذاهب وليس مصالح المتصارعين على الإقليم. فيما الجميع يتغنى بشعار وجوب الإصلاح والتغيير. وما أن تقدم حيدر العبادي ببعض الإصلاحات ثار عليه زعماء الكتل ووضعوا العصي في الدواليب. لا يريد هؤلاء التخلي عن سياسة تقاسم المناصب والمواقع والمصالح.
وفّر تحرير الفلوجة من «داعش» للنخب السياسية مساحة للهروب من استحقاقات الإصلاح، ومواجهة الغضب الشعبي المتنامي منذ السنة الماضية. لكن الاحتفال بهذا الإنجاز لم يدم طويلاً. بل أدى دحر التنظيم الإرهابي وانتقاله إلى الانتقام في الأسواق والتجمعات السكانية، إلى تعميق الغضب. وقد يتحول هذا إلى انفجار قد يكون أخطر بكثير من تفجيرات الإرهابيين. سيعمق الفجوة بين القوى السياسية والفئات الشعبية التي بدأت تشعر بغياب الأمن بعد وطأة الجوع والبطالة وغياب الخدمات، فيما الفساد المستشري إلى تصاعد. واللافت في تململ العامة أنه يخرج من شوارع بغداد والمحافظات الجنوبية التي تعتبر خزان القوى الشيعية الحاكمة. ويعطي ذلك صورة عما بلغه الصراع بين القوى الشيعية على السلطة، وبينها وبين حكومة العبادي الذي كان إلى ما قبل معركة الفلوجة يبدو محاصراً من خصومه في الائتلاف الشيعي. لكنه سرعان ما استدار بتقديم الغطاء الشرعي اللازم لوحدات «الحشد الشعبي»، سلاح خصومه في وجه وزارته. ويكاد يستنسخ تجربة سلفه. فالمراكز الأمنية التي خلت أو أقيل شاغلوها على وقع ضربات «داعش» بات يتولاها رجال بالوكالة. أي أن لا حساب ولا مساءلة في المستقبل. باتت هناك شبه قاعدة راسخة أن يستقيل المسؤولون عن الفساد أو عن الإخفاقات الأمنية قبل أن يواجهوا البرلمان أو القضاء ويتركون مسؤولياتهم لآخرين!
لن يغير تقرير تشيلكوت شيئاً من صورة العراق. قد يحتاج هذا البلد إلى محكمة دولية وليس لجنة تحقيق فحسب، تنظر في جرائم حرب لم يرتكبها بوش الإبن وبلير فحسب، بل ارتكبت بعضها نخب وقوى سياسية عراقية متصارعة… وتفاهم اللدودتين واشنطن وطهران اللتين تساهمان في بقاء النظام والوضع القائم، وتعوقان أي إصلاح، نظراً إلى تضارب الأجندات والحسابات والأهداف والمصالح. ومن يدري قد ينجح العبادي في تجاوز الاستحقاقات المقبلة إذا عرف كيف يخاطب أميركا وإيران. فهما لا تستسيغان لعبة حافة الهاوية التي قد يلجأ إليها مقتدى الصدر أو نوري المالكي أو غيرهما من القوى، بقدر ما تحرصان على تفاهم الحد الأدنى، كما حصل إبان التجديد للمالكي في 2010 أو إبان إخراجه من كرسي الوزارة لاحقاً. وبانتظار ما ستحمله الأيام المقبلة على السيد بلير أن يتذكر دوماً أن الكثير مما يرتكب في العراق والإقليم هو من بنات سياسته وقراراته مع كثير من الشركاء!
جورج سمعان
صحيفة الحياة اللندنية