فى ذروة المساجلات البريطانية عشية الحرب على العراق سأل رئيس الوزراء «تونى بلير» شخصية عربية غير رسمية كلمتها مسموعة فى إقليمها: «أتقولون إن التدخل العسكرى يفتح بوابات الجحيم فى الشرق الأوسط.. لماذا وكيف؟».
لم يكن ينتظر إجابة تحذره بمنطقها مما قد عزم عليه وبدا مستخفا بما تصور أنها مبالغات سياسية مفرطة.
وفق الوثائق الرسمية، التى احتواها تقرير لجنة التحقيق البريطانية فى ملابسات حرب العراق (مارس ــ ٢٠٠٣) برئاسة السير «جون تشيلكوت»، تعهد «بلير» فى رسالة خطية للرئيس الأمريكى «جورج دبليو بوش» بالمضى معه إلى النهاية فى (سبتمبر ـ ٢٠٠٢) قبل الغزو بشهور طويلة.
كعادة التغطيات الصحفية الدولية لمثل هذه التقارير، فإنها تلتقط من بين آلاف الصفحات والوثائق والشهادات ما هو جوهرى وكاشف.
وقد وجدت فى رسالة «بلير» بخط يده ما يثبت توجهه لدعم سياسات «بوش» بغض النظر عن أية قواعد تقتضيها مسئولياته أو أية مصالح بريطانية.
تقليديا هناك علاقة خاصة بين الولايات المتحدة وبريطانيا لكنها لم تصل فى أية مرحلة سابقة إلى درجة التماهى الشخصى، فقد تجاهل «بلير» الحكومة التى يترأسها، ولم يحطها علما بتوجهاته، ولا أطلع مجلس العموم بتنوعه السياسى عليها، ولم يعر التفاتا لقطاعات واسعة من الرأى العام فى بلاده ناهضت الحرب على العراق التى أفضت بعض نتائجها إلى سقوط عشرات القتلى بين الجنود البريطانيين.
بعد ثلاثة عشر عاما من غزو العراق فإن مآسيه غلبت أية توقعات قبلها، حتى إن تعبير «بوابات الجحيم» يبدو مخففا فى وصف ما جرى، فالمنطقة كلها وجدت نفسها فى قلب الجحيم لا عند بواباته.
ثبت فى تقرير «تشيلكوت» ما كان معروفا وثابتا من تلاعب بالتقارير الاستخباراتية لتمرير قرار الحرب بادعاء امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وأن العالم سيكون أفضل بلا «صدام حسين».
لم يتحقق ذلك الرهان كأنه كلمات خرقاء وذهبت الأمور فى العراق والإقليم كله من أسوأ إلى أبشع.
رغم اعتذار «بلير» لأسر الضحايا البريطانيين إلا أنه يصر على عدم تحمله أية مسئولية عن تفشى الإرهاب، ولم يجد فى نفسه أية نزعة لاعتذار مماثل للضحايا العراقيين ولا لما جرى فى العالم العربى، ومن بينه تقويض القضية الفلسطينية التى يتولى رئاسة «الرباعية الدولية» بحثا عن حل لها دون جدوى.
كان إسناد ذلك المنصب إليه نوعا من المكافأة الأمريكية على دوره فى الحرب على العراق.
من المثير أن رجلا لعب دورا جوهريا فيما وصل إليه العالم العربى من حرائق أخذت منه سلامة دوله ووضعته فى قلب جحيم الإرهاب والاحترابات المذهبية وسيناريوهات التقسيم، يجرى استقباله فى عواصمه باحتفاء وتسند له من حين إلى آخر أدوار استشارية فى شئونه.
بغض النظر عن الطابع الفنى الاستقصائى للتقرير فإن هناك الآن رواية بريطانية تؤكد أنها ذهبت للحرب دون استنفاد كل السبل السلمية المتاحة لنزع أسلحة الدمار الشامل التى ثبت بيقين أنها غير موجودة أصلا.
بالقياس لا يوجد استقصاء عربى لقصة الحرب، ولا بحث فى أية وثائق ولا تعرف على أية شهادات، رغم أشلاء الضحايا والأوطان.
إذا ما جرت أية محاولة لمثل هذا الاستقصاء فإنها قد تكشف أسرارا فوق طاقة تحملها.
بعض الذين ينعون على «بلير» الآن أدواره ويأخذون عليه اتهامات لجنة «تشيلكوت» ساعدوا بقسط وافر فى الدعايات التى تسوغ الحرب على العراق بذريعة التخلص من أسلحة الدمار الشامل ووعود الديمقراطية تحت جنازير دبابات الاحتلال.
عند أبواب الجحيم شرد ملايين العراقيين وسقط مئات الألوف من الضحايا وأصبحت الحياة الإنسانية بأبسط معانيها لا تطاق.
على نحو مقصود ومخطط ضربت «الوحدة الداخلية العراقية» فى مقتل بإثارة النزعات المذهبية والعرقية وثاراتها.
على عكس ما ذهبت إليه لجنة «تشيلكوت» عن عدم كفاية التحضير والاستعداد لما بعد الحرب فقد كان كل شىء معدا وجاهزا للتنفيذ.
منذ الأيام الأولى تولت سلطة الاحتلال تفكيك الجيش العراقى والأجهزة الأمنية ومؤسسات الدولة الأخرى وتسليم السلطة السياسية لمن جاءوا برفقة دبابات الغزو على أساس المحاصصة المذهبية.
فى تفكيك الدولة فوضى ممنهجة أفضت نتائجها إلى تخريب أية فرصة ممكنة لاستعادة العافية بأى مدى منظور أو اكتساب أية قدرة على بناء توافقات وطنية حقيقية.
لم تكن هناك أدنى التزامات تجاه الادعاءات الديمقراطية التى صاحبت الغزو، فالفكرة الديمقراطية سحقت تماما بالاستغراق فى تصفية الحسابات المذهبية.
ولد النظام الجديد مسخا مذهبيا كأنه مقصود مسخ العراق كله بدوره ووزنه واعتباره.
وقد اتخذت أحداث (١١) سبتمبر فى نيويورك ذريعة لاحتلال أفغانستان والعراق على التوالى.
ورغم أنه لم تكن هناك أية صلة للعراق بـ«تنظيم القاعدة» فقد جرى اتهامه دون أدنى سند لأهداف أخرى تبناها اليمين الأمريكى المتشدد الموالى لإسرائيل فى إدارة «جورج دبليو بوش».
لا يصح أن ننسى العامل الإسرائيلى فى قصة غزو العراق ومئات الوثائق والشهادات متوافرة لمن يطلب إدراك الحقائق كاملة.
دون أية مساحيق تجميل فإن الحرب على العراق عمل إجرامى بكل معنى تاريخى وإنسانى.
بدت اللعبة المذهبية التى انتهجت تحريضا مباشرا على تمركز الجماعات الإرهابية وتوفيرا لبيئة حاضنة بعدما لم يكن لها أى وجود يذكر رغم أية دعايات استبقت الأعمال العسكرية.
فى البدء نشطت «القاعدة» قبل أن تسلم زمام الموقف إلى «داعش» التى خرجت من عباءتها ووجدت فى تحطم الدولة فرصتها للتمدد باسم «الخلافة الإسلامية».
بمعنى آخر فإن المسئولية السياسية والأخلاقية عن تفشى ظاهرة الإرهاب ترجع بالمقام الأول إلى تحطيم العراق وجره لاحترابات مذهبية مهلكة أخذت منه دوره ووزنه واعتباره.
اللحظة التى جرى بها تخريب العراق كدولة ومجتمع هى نفسها اللحظة التى تبدت فيها مقدمات العمليات الإرهابية بقلب أوروبا وانقلاب الموازين الإقليمية بصورة استدعت صراعات مفتوحة كأنها «سايكس بيكو جديدة» ترسم بالسلاح على الأرض لا بأقلام على الورق.
بسقوط بغداد تقدمت «إيران» و«تركيا» لملء الفراغ الاستراتيجى، فمصر الدولة العربية الأكبر منكفئة بأثر اتفاقيتى «كامب ديفيد»، والتاريخ لا يعرف الفراغ.
لم يكن لدى الأمريكيين وحلفائهم هدف واضح سوى إخراج العراق من معادلات الإقليم تاركين ما بعده لتداعيات الحوادث، وقد آلت الجوائز كلها تقريبا لإيران على طبق من ذهب كما يقال عادة.
عندما تراجع الشعوب تاريخها وتبحث فى شهاداتها ووثائقها فإنها تطلب تصحيح أى خلل وإصلاح كل خطأ.
المراجعة ضرورية والاعتراف بالخطايا دون مواربة لازم حتى نحفظ للدول الوطنية فى العالم العربى سلامتها ونكسب الحرب المفتوحة مع الإرهاب.
يجب أن تكون لدينا الشجاعة السياسية والأخلاقية لنعرف ونعترف فى الوقت نفسه بأن «بلير ليس وحده».
عبدالله السناوي
صحيفة الشروق