في زيارة لم يُعلن عنها من قبل وصل أمس الإثنين وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر إلى بغداد، والتقى برئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، ووزير الدفاع خالد العبيدي. والتقى أيضا برئيس قوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، الفريق شون ماكفارلاند. وتأتي هذه الزيارة السرية في السياق الحرب الدولية ضد تنظيم داعش الإرهابي، واستعداداً لمعركة الموصل. وأجرى وزير الدفاع الأميركي اتصالا هاتفيا برئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني في خطوة هدفها التأكيد على أن بلاده لا تضع بيضها في سلة الحكومة لوحدها، خاصة أن قوات البيشمركة أثبتت قدرات عالية في مواجهة داعش بينما لا يزال الجيش وقوات الأمن في بغداد يعتمدان بشكل كبير على ميليشيا الأحزاب الحاكمة لحسم الموقف على الأرض في مواجهة داعش. وتعهدت الولايات المتحدة بدعم البيشمركة الكردية التي تخوض معارك ضد داعش في الموصل بمساعدات تبلغ 415 مليون دولار.
لا تأتي زيارة مسؤول أمريكي رفيع المستوى وبشكل سري كوزير الدفاع آشتون كارتر لبغداد ما لم يطرأ تحول نوعي على أرض المعركة ضد تنظيم داعش الإرهابي ولعل هذا التحول الذي عجل في زيارته أنها جاءت بعد يومين على استعادة القوات العراقية السيطرة على قاعدة القيارة الجوية جنوب مدينة الموصل ذات الأهمية الاستراتيجية، لذلك أرادت الولايات المتحدة الأمريكية توظيف هذه الاستعادة بما يخدم مصالحها في المرحلة الراهنة واستباق أية خطورة إيرانية في التواجد من خلال مليشيات “الحشد” أو “الحرس الثوري” في قاعدة القيادة الاستراتيجية. وفي هذا الإطار أعلن وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر في بغداد أن بلاده سترسل 560 جنديا إضافيا الى العراق للمساعدة في القتال ضد تنظيم داعش والاستعداد لمعركة الموصل. وهو ما يعني، أن واشنطن قد تشارك بعدد محدود من القوات فيها نظراً لصعوبتها شريطة عدم زج مليشيات “الحشد الشعبي” فيها، بسبب ممارساتها وتجاوزاتها في العراق، خصوصاً في أعقاب معركة الفلوجة. وهذا ما تم ابلاغه لرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي من قبل كارتر آشتون إلا أنه يخشى وقوع رئيس الوزراء العراقي تحت ضغط إيراني قد يتسبب بتغيير المعادلة، خاصة مع إصرار المليشيات على المشاركة بدعوى أنهم لن يدخلوا الموصل وسيبقون خارجها. ومع هذا العدد الجديد للقوات الأمريكية المنتشرون في العراق سيرتفع عددهم إلى أكثر من 4600 عنصر وغالبيتهم يقدمون المشورة ويقومون بتدريب القوات العراقية.
فالزيارة تأتي لتحقيق عدة أهداف منها إقناع أو إجبار رئيس الوزراء حيدر العبادي ووزير الدفاع خالد العبيدي، بأن يسمحا لمستشاري بلاده الموجودين في العراق بالاستفادة القصوى من قاعدة القيارة ذات الموقع الاستراتيجي في معركة استعادة الموصل. ولا يستبعد أن يتحول هذا الطلب الظرفي إلى أمر دائم خاصة في ظل استمرار تدفق المستشارين الأميركيين إلى العراق ما يوحي بأن الهدف يتجاوز مهمة هزيمة داعش الإرهابي إلى وجود رغبة لدى الولايات المتحدة الأمريكية في إعادة الانتشار بالعراق والبحث عن مواقع استراتيجية تسهل عمل العسكريين الأميركيين في المستقبل. ولا تخفي قلقها من الوجود العسكري والاستخباراتي الإيراني في العراق خاصة أنه يلقى ترحيبا من التحالف الوطني الذي يسيطر على الحكومة المركزية في بغداد.
فالغرض الأمريكي من هذه الزيارة منع إيران من نشر “مستشاريها” العسكريين في مواقع ذات أهمية استراتيجية، وخاصة بالقيارة التي تعتبر منطقة “قطع” بين الامتدادات الجغرافية القادمة من إيران وصولا إلى الشمال الغربي في العراق حيث التماس مع سوريا وقوات حزب الله هناك. ومن شأن التغاضي عن التمدد الاستخباراتي الإيراني بين العراق وسوريا أن يخلق مشكلة مستقبلية للأميركيين الذين يسارعون الآن للعودة إلى العراق تحت غطاء الحرب على داعش لمنع الاستئثار الإيراني الكامل به.
وتحتاج الولايات المتحدة إلى قاعدة متقدمة ومتوسطة بين حلفائها في آن آخر. وتوفر القيارة مكانا مثاليا في تقاطعات القوى الحليفة لها من أكراد وعشائر في الحشد الوطني (السني) ومن الجيش العراقي. وتبتعد قاعدة القيارة بما يكفي عن مناطق الحشد الشعبي التقليدية على عكس الفلوجة حيث كانت احتمالات الاحتكاك واردة بين القوات الأميركية والميليشيا المدعومة إيرانيا. وقال خبراء إن اختيار القيارة مهم أيضا لأنها منطقة خالية نسبيا من السكان مما يجعل الحركة إليها ومنها بعيدة عن التهديدات من التنظيمات القريبة من داعش.
ويتسق مع هذا التحليل ما صرح به آشتورن كارتر للصحفيين قبيل زيارته لبغداد إن قوات الولايات المتحدة الأمريكية ستساعد العراق في إنشاء مركز لوجيستي في المطار الذي استعادته القوات العراقية السبت من أيدي مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية.وقال كارتر إن المركز سيستخدم في التقدم نحو الموصل، المعقل القوي لمسلحي التنظيم.وقال كارتر للصحفيين إن “الهدف هو تأسيس مركز لوجيستي هناك، وسيكون هناك دعم لوجيستي أمريكي.”ويعد المطار – بحسب ما قاله كارتر – “أحد المراكز التي تستطيع القوات العراقية منها، مدعومة بنا، وباستشارتنا كلما احتاجت ذلك، استكمال تطويق جنوب الموصل بالكامل.” ويفهم من هذه التصريحات أن الولايات المتحدة الأمريكية ستحول قاعدة القيارة إلى قاعدة أمريكية دائمة في عراق ما بعد داعش في إطار صراع النفوذ عليه.
وتعتبر قاعدة القيارة 58 كلم جنوب الموصل أكبر القواعد العسكرية الاستراتيجية. تعد القاعدة مكانا استراتيجيا في الحرب على داعش في مناطق شمال محافظة صلاح الدين وصولا لمدينة الموصل، نظراً لما تمتلكه من موقع ستراتيجي وطبيعة الدور الذي تؤديه.وتقع قاعدة القيارة (قاعدة صدام الجوية سابقاً) على بعد 16 كم غرب مدينة القيارة في محافظة نينوى وعلى بعد 60 كم جنوب الموصل و330 كم شمال بغداد، وقرب الطريق الرابط بين مدينة الموصل والعاصمة بغداد.
ولعبت القاعدة دوراً مهماً خلال الحرب العراقية الإيرانية حيث كانت تأوي أسراب طائرات الميراج و ميغ-23 و ميغ-25 (وهي أحدث طائرات القوة الجوية العراقية أنذاك).وشيدت قاعدة القيارة أواخر السبعينات من قبل شركات يوغسلافية ضمن مشروع القواعد العملاقة للإستفادة من دروس الحروب العربية مع إسرائيل عامي 1967 و 1973، وكانت تعد في وقتها اكبر قاعدة في الشرق الاوسط.
وتتألف القاعدة من مدرجين بطول 3505م و 3596 م وحوالي 33 حظيرة طائرات محصنة تنتشر في القاعدة ويحيط القاعدة سياج بقطر 20 كلم ومع السياج حزام أخضر من الأشجار يحيط بالقاعدة لحجب الرؤية وضمان السرية، فضلا منطقة سكنية للعاملين في القعدة. وتعرضت القاعدة الى القصف المكثف خلال حرب الخليج 1991. وبعد غزو 2003 استخدمت القوات الأميركية القاعدة كمعسكر لها بعد أن قامت بترميم المدرج وبرج المراقبة وفي 2010 سلمتها إلى القوات العراقية، وكان احد القواعد الجوية الرئيسية لها في العراق، وبقيت تستعملها حتى العام 2010 حين سلمته الى القوات العراقية، اذ أصبحت قاعدة لطيران الجيش العراقي ومعكسرا له.
وسقطت قاعدة غرب القيارة بيد تنظيم داعش في حزيران/يونيو عام 2014 بعد انسحاب قوات الجيش العراقي منه دون قتال.
واتخذ تنظيم داعش قاعدة القيارة كمعسكر وقاعدة عسكرية له، فضلا عن سجن، فيما تعرضت خلال فترة سيطرة داعش الى غارات جوية مكثفة من قبل الطيران العراقي وطيران التحالف الدولي، ومنذ منصف عام 2015 بدء التنظيم بتخريب القاعدة الجوية عن طريق هدم مبانيها وبيع انقاضها كمواد انشائية، اذ قام احد التجار من سوريا بشرائها من التنظيم ونقل المواد الانشائية والاجهزة والاثاث الى سوريا. وباستعادتها يمكن اتخاذها كموطئ قدم اساسي عسكري جنوب الموصل لاستعمالها في عمليات تحرير المدينة من سيطرة داعش.
أما الهدف الثاني لزيارة وزير الدفاع الأمريكي للعراق آشتون كارتر تأتي للتأكيد على رغبة الرئيس الأمريكي باراك أوباما في إنهاء معركة الموصل بأسرع وقت ممكن، من أجل تقديم إنجاز كبير لرئيسة الولايات المتحدة الأمريكية المحتملة عن الحزب الديمقراطي، هيلاري كلينتون، تستطيع البدء فيه بولاية رئاسية مريحة في ملف حساس كالعراق. كما إنها تأتي لتقوية موقف حيدر العبادي بعد تراجع شعبيته إثر تفجير الكرادة الإرهابي والتفجير الانتحاري الذي استهدف مرقد محمد الهادي في ناحية بلد في محافظة صلاح الدين واستعداد التيار الصدري والتيار المدني لتنظيم مظاهرة، يوم الجمعة المقبل، ضد الحكومة.
فعراق اليوم يشبهنا بما كان عليه حالة الشاعر العربي أبو العلاء المعري الذي أطلق عليه وصف رهين المحبسيين”العمي والبيت” أما العراق فهو رهين المحبسيين “التنافس والصراع “الإيراني والأمريكي عليه، وهو بأمس الحاجة منذ عام 2003م، إلى دور عربي ينقذه من هذين المحبسيين. قبل فوات الأوان.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية