تلقت بريطانيا العظمى ضربة وصفت بأنها الأسوأ منذ الحرب العالمية الأولى، عندما خسر الجنيه الإسترليني مكانته لمصلحة الدولار. ولأن الدول الكبرى تكتسب نفوذها من قوتها العسكرية والاقتصادية والنقدية، لوحظ أن «عظمة» بريطانيا أخذت تتراجع تدريجاً منذ ذلك التاريخ.
الفارق أن بريطانيا تلقت هذه المرة الضربة من شعبها الذي صوت في 23 حزيران (يونيو) الماضي بأكثرية ضئيلة جداً على خروجها من الاتحاد الأوروبي، وشكل ذلك صدمة قوية للعديد من المتابعين السياسيين ولمجتمعات الأعمال والمستثمرين في بريطانيا وأوروبا ومختلف دول العالم، وتعيش المملكة المتحدة حالياً فترة صعبة من الاضطراب الذي يشمل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مع بروز انقسامات واضحة في المجتمع خصوصاً ان نتائج التصويت برهنت عن وجود اختلافات كبيرة، إذ إن لندن واسكوتلندا وإرلندا الشمالية صوتت للبقاء في الاتحاد، أما التصويت في بقية انكلترا وويلز فجاء لمصلحة الخروج منه. ومن شأن هذه الانقسامات ان تهدد بتفكك المملكة المتحدة، التي تشكلت منذ نحو 414 سنة، وبالتحديد عام 1602، لتضع حداً للحرب بين الشمال والجنوب، وتكرست في 1922.
يعد الاقتصاد البريطاني خامس أكبر اقتصاد في العالم، إذ يبلغ الناتج المحلي الإجمالي نحو 2.8 تريليون دولار، ومتوسط الدخل السنوي للفرد نحو 41 ألف دولار، وسجل نمواً بنسبة 2.3 في المئة العام الماضي. لكن اللافت ان الاقتصاد البريطاني أصبح اقتصاد خدمات، إذ تبلغ مساهمة هذا القطاع بنسبة 78.4 في المئة من قيمة الناتج المحلي، في مقابل نحو 14 في المئة فقط هي مساهمة قطاع الصناعات التحويلية. وتعاني المملكة المتحدة عجزاً كبيراً في الحساب الجاري وصل إلى 96.2 بليون جنيه إسترليني أو ما يعادل 5.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ويعد هذا العجز الأعلى، وهو رقم قياسي منذ بدء الاحتفاظ بسجلات رسمية عام 1948.
وفي ظل الآثار المترتبة على هذا العجز، حذرت لجنة السياسة المالية التابعة لـ «بنك انكلترا» (المصرف المركزي للمملكة المتحدة) من أن حال عدم اليقين في شأن عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، تشكل خطراً على الاستقرار المالي. ووصف وزير الخزانة جورج اوزبورن ارتفاع العجز، بأنه يعين على المملكة المتحدة ان تبقى في الاتحاد الأوروبي، مؤكداً «أن بلاده تواجه مجموعة من التحديات الاقتصادية الكبرى»، ومحذراً «من أن عام 2016 هو أصعب عام تمر به بريطانيا منذ الأزمة المالية العالمية في 2008»، وموضحاً «ان الأرقام تكشف الخطر الحقيقي لعدم الاستقرار، وتبين أن الوقت الحالي ليس مناسباً لتعريض أمننا الاقتصادي للخطر من خلال ترك الاتحاد الأوروبي».
تلك المواقف للوزير البريطاني كانت قبل التصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي، لكن بعد التصويت أكد اوزبورن «أن علامات الصدمة الاقتصادية باتت واضحة، وستتطلب الجهد الوطني الأعلى، لكننا يمكن ان نتخطى هذا التحدي». وأعلن في الوقت نفسه أن «التخلي عن إستراتيجيته الاقتصادية لعام 2020» والتي تهدف إلى تحقيق فائض في موازنة 2019 – 2020 يقدر بنحو 10.4 بليون جنيه إسترليني، وهو أمر أصبح متعذراً تحقيقه، خصوصاً أنه يتطلب تحقيق فائض في ظل الوضع الحالي يزيد على 30 بليون جنيه إسترليني، بفرض ضرائب إضافية ومزيد من الخفض في الإنفاق، ويلاحظ ان عدداً كبيراً من الخبراء والمراقبين يشككون في جدية التطبيق حتى بعد التغيير الحكومي المتوقع في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل. في هذا المجال شدد وزير الخزانة البريطاني على أهمية استمرار حكومة بلاده في مواجهة مشكلة تراكم عجز الموازنة التي تسببت في رفع مستوى الدين العام، مؤكداً ان «ارتفاع الديون يمكن ان ينسف كل ما جرى تحقيقه من نمو اقتصادي خلال السنوات الأخيرة».
من هنا يمكن معرفة خطورة قرار الوكالات الدولية («ستاندرد أند بورز» و «فيتش» و «موديز») بخفض تصنيفها الائتماني الأعلى (AAA) بمعدل درجتين في خطوة واحدة، وهي نظرة سلبيه تعكس الأخطار على الآفاق الاقتصادية، والأداء المالي والخارجي، ودور الجنيه الإسترليني كعملة احتياط، فضلاً عن الأخطار التي تهدد السلامة الدستورية والاقتصادية في المملكة المتحدة.
وسبق أن كشفت بيانات رسمية ارتفاع معدل اقتراض حكومة بريطانيا بأعلى من التوقعات خلال آذار (مارس) الماضي في إشارة إلى احتمال فشل خطط وزارة الخزانة في شأن العجز المالي، واقترضت 76 بليون جنيه إسترليني (110.2 بليون دولار) في السنة المنتهية في آذار 2016، أي بزيادة بليوني جنيه عن التقديرات الأولية.
ووفق إحصاءات «يو كاي بابلك ديت» يقترب حجم الدين البريطاني حالياً من 1.53 تريليون جنيه إسترليني، إذ تضاعف من 500 بليون جنيه في عام 2005. لكن بريطانيا لا تعاني وحدها من تراكم الدين العام، بل هي أزمة عالمية، ووفق التقرير السنوي لوكالة «ستاندرد أند بورز»، زادت الديون الحكومية العالمية اثنين في المئة إلى 42.4 تريليون دولار، وتوقعت ان تبلغ الديون الجديدة 6.7 تريليون دولار، ليصل إجمالي الرقم إلى 49.1 تريليون دولار.
وتتصدر اللائحة الولايات المتحدة بديون تبلغ 18 تريليون دولار، يتوقع ان ترتفع إلى 19 تريليوناً بعد إجازة موازنة 2017، مقارنة بـ 10 تريليونات عام 2009، وستواجه حكومة واشنطن أزمة حقيقية في خدمة ديونها، إذ سيجد الرئيس الأميركي الجديد نفسه أمام استحقاق سنوي يقارب النصف تريليون دولار. وتأتي اليابان في المرتبة الثانية، وارتفعت ديونها الحكومية إلى 11 تريليون دولار في العام الماضي، وهي لا تعاني فقط من مشكلة ارتفاع معدل الدين، بل في خفض النمو الاقتصادي، حتى باتت الحكومة غير قادرة على خلق الدخل الكافي لتسديد الديون. وكان «بنك التسويات الدولية» حذر العالم في تقريره العام الماضي من «أزمة ديون وليس اضطراب السوق المالي في الصين، هو ما يهدد بحدوث أزمة مالية عالمية».
عدنان كريمة
* نقلا عن صحيفة ” الحياة “