يمكن بسهولة لمن يتابع تطور الأزمات الإقليمية في الشرق الأوسط، علي مدي العامين الأخيرين، ملاحظة أن معظم -إن لم يكن كل- أزمات المنطقة تشهد تطورات كثيرة علي الأرض، سواء في المواجهات المسلحة، أو التداعيات الإنسانية للصراع. بينما تشهد التطورات السياسية، خصوصا في اتجاه حل أو تسوية الأزمة، ضجيجا بلا طحن.
وتكفي مراجعة سريعة لقائمة أزمات وصراعات الشرق الأوسط، من سوريا شمالا إلي اليمن جنوبا، ومن ليبيا غربا إلي العراق شرقا، لإدراك أن “الحركة في المكان” عنوان كل المسارات السياسية لتلك الأزمات، حيث تنعقد مؤتمرات، وتطلق مبادرات سياسية، وتجري جولات من التفاوض، لكنها جميعا تفتقر لأسس النجاح، بل ومقومات الانعقاد أساسا.
كأن كل المبادرات والصيغ المطروحة تنطلق من فرضية أن التباحث واللقاءات المباشرة يكفيان وحدهما وتلقائيا لإيجاد حلول، وإنهاء الأزمات، فتكون النتيجة هي التفاوض لغرض التفاوض. وتعد الأزمة السورية المثال الأكثر تجسيدا لهذا النمط. فقد حرصت القوي الكبري في العالم علي تدشين مسار تفاوضي سياسي تجتمع فيه الأطراف الداخلية المعنية بالأزمة، وتحديدا النظام والمعارضة. واستنفد هذا الهدف قدرا كبيرا من الجهد السياسي والدبلوماسي، بل والميداني أيضا. فقد لعبت الأوضاع الميدانية، وتطور المواجهات المسلحة دورا محوريا في توجيه الأطراف ناحية المسار السياسي، وتحديد مواقفها المبدئية منه. فمن حيث المبدأ، لم تكن المعارضة السورية لتقبل مجرد المشاركة في عملية تفاوضية، طرفها الآخر نظام بشار الأسد، لولا تحول ميزان القوة العسكرية علي الأرض لمصلحة النظام بفضل التدخل الروسي المباشر، والامتناع الأمريكي عن موازنة هذا التدخل، سواء بدعم مباشر لفصائل المعارضة بالسلاح، أو بالمعلومات الاستخبارية، أو حتي بالسماح لدول أخري بتقديم السلاح والمساندة العسكرية المطلوبة.
وفي ظل هذا الوضع غير المتوازن علي الأرض، واستمرار التناقضات الجوهرية بين مواقف الأطراف وحساباتها السياسية، كان من الطبيعي أن تئول كل محطات المسار السياسي إلي إخفاق ذريع، بدءا من المحطة الأولي في جنيف-1، وحتي الآن، حيث توالت جولات التفاوض علي مدي أكثر من ثلاث سنوات. ولا فرق تقريبا بين هذه الجولات التفاوضية وبعضها، إذ تنطلق بلا أجندة واضحة، وبلا توافق بين أطرافها علي الهدف من اللقاء، أو الإطار العام الحاكم للعملية التفاوضية.
ولا يختلف الوضع كثيرا في اليمن، أو ليبيا، أو العراق، حيث لا يوجد تقدم فعلي في اتجاه إنهاء الحرب في اليمن، أو الخروج من الفراغ الأمني في ليبيا، أو المأزق الأمني السياسي في العراق. ورغم اختلاف معطيات وخصائص كل حالة، فإنها تشترك في غياب مؤشرات حل بعيدا عن استخدام القوة، وعدم وجود إجراءات ملموسة لصياغة مخرج سياسي.
ثمة سبب مفصلي وراء استمرار هذه المعضلة، هو أن مختلف الأطراف تزعم قبول الحل السياسي، والحرص علي إنهاء المواجهات، بينما السلوك الفعلي علي الأرض يكشف بوضوح عن أن كل طرف يستهدف حلا يخدم مصالحه حصريا، ويتجاهل حسابات ومصالح الأطراف الأخري، بل وقوتها أيضا، الأمر الذي يعني بالضرورة أن تلك الحلول أو الأفكار لن تساعد سوي علي تأجيل الأزمة، أو بالأحري تمديدها، فضلا عن عدم قابلية تلك الحلول أو الأفكار المطروحة للتطبيق أصلا.
ويتضح هذا التناقض الجوهري في المرات القليلة التي تم التوصل فيها بصعوبة إلي حلول أو صيغ سياسية معينة. مثال ذلك اتفاق الصخيرات، الذي أبرم بين الفرقاء الليبيين برعاية أممية. فبعد أشهر من توقيعه، لا يزال تطبيقه يواجه عثرات، وعراقيل قوية. بل إن حكومة التوافق التي تشكلت، استنادا إلي ذلك الاتفاق، سيطرتها أقرب إلي الافتراضية منها إلي الإمساك بزمام الحكم بالفعل في ليبيا.
والأمر مشابه في اليمن، حيث لا تفرض الحكومة سيادتها إلا بشكل نسبي، وفي مناطق متفرقة. بينما الحوثيون مستمرون في استهلاك الوقت والمناورة إزاء الحلول السياسية، والاستغراق في نقاط تفصيلية كثيرة ومتشعبة. والنتيجة النهائية أن إنهاء الحرب باتفاق أو تسوية سياسية يظل أملا بعيدا، لا يقربه التوصل إلي اتفاق أو خطة عمل سياسية، حيث التنفيذ الفعلي، وإرادة التفعيل لا يزالان غائبين.
ورغم أن الصراع العربي – الإسرائيلي -تحديدا المسار الفلسطيني منه- له خصوصية مختلفة عن بقية قضايا المنطقة، ونزاعاتها المستجدة، فإنه انضم أيضا إلي حزمة الملفات التي تشهد ضجيجا سياسيا بلا أساس واقعي. فعلي نحو مفاجئ، وغير مفهوم، بادرت فرنسا إلي تنظيم ما سمته مؤتمرا للسلام في الشرق الأوسط، يضم إسرائيل، والفلسطينيين، والأطراف الأخري المعنية بالقضية، وتأثيرها في الوضع في الشرق الأوسط. وانعقد المؤتمر وانفض دون اتضاح هدف انعقاده سوي العنوان العريض التقليدي “استئناف المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين”، مما لا يكفي بالمرة لتوافر، ولو بعض أسس ومتطلبات النجاح، أو حتي التمهيد لخطوات أخري لاحقة.
إذن اجتمع العاملان الإقليمي والدولي ليضعا منطقة الشرق الأوسط في هذه الحالة من الدوران في دائرة مغلقة من التفاوض، ثم التفاوض، ثم التفاوض. بينما الوضع الميداني داخل تلك الدائرة هو الأساس، وهو الذي يوجه بوصلة الأزمة، وهو المستوي الذي تقوم فيه الأطراف المعنية بتحركات جادة لتحقيق نتائج، وليس لتمرير الوقت، كما في المستوي السياسي. لكن مع تعقد الأمور علي الأرض في بعض الملفات، يتم اللجوء إلي التظاهر بالبحث عن حل سياسي، كغطاء لنقص القدرة، أو لعدم الرغبة في تحمل تكلفة الحسم العسكري، خصوصا في فترة تعد حرجة لبعض الفاعلين الأساسيين في العالم، تحديدا الولايات المتحدة الأمريكية، التي تمر بعام انتخابات رئاسية، مما يجعل الإقدام علي أي خطوة مهمة في السياسة الخارجية أمرا مستبعدا. كما أن حسم الخيارات في ملفات الشرق الأوسط، سواء كان سياسيا أو عسكريا، سيعني الدخول في مواجهة مع أطراف إقليمية لحساب أطراف أخري. وإن كانت بعض القوي الكبري، مثل روسيا، لديها موقف محدد ومحسوم في هذه المصفوفة الشرق أوسطية المعقدة، فإن واشنطن، وربما أيضا بعض العواصم الأوروبية، ليس لديها هذا الحسم، وتعاني ترددا والتباسا في الحسابات والاتجاهات الحركة. لذا، فسواء كان تدوير الأزمات، والعمل علي “إدارتها”، وليس حلها، خيارا متعمدا، أو اضطراريا، فإن النتيجة بالنسبة لشعوب ودول المنطقة واحدة، هي أن تلك الأزمات ليست مرشحة للحل سريعا، وأن آفاق التسوية السياسية لا تزال غير واضحة في الأفق القريب.
سامح راشد
نقلا عن مجلة السياسة الدولية