حتى بينما تطلق موجات من الهجمات الإرهابية حول العالم، تقوم مجموعة “داعش” بتهيئة أتباعها للانهيار الحتمي لخلافتها المعلنة ذاتياً، بالكثير من الصخب الإعلامي.
وفي الرسائل العامة والأعمال الأخيرة في سورية، يعترف قادة المجموعة بتراجع حظوظ التنظيم الإرهابي في ميادين المعارك، بينما يعدون العدة لاحتمال سقوط معاقله الأخرى.
وفي الأثناء، تتعهد المجموعة بالمضي قدماً في حملتها الأخيرة من العنف، حتى لو أُجبر الإرهابيون أنفسهم على العودة إلى العمل تحت الأرض. ويعتقد الخبراء الأميركيون في مكافحة الإرهاب بأن الهجمات التي أسفرت عن مجازر في اسطنبول وبغداد في الشهر الماضي، كانت في جزئها الضخم نتيجة للانتكاسات العسكرية التي منيت بها المجموعة في العراق وسورية.
ويقول محللون إن من المرجح أن تستمر هذه الأعمال الإرهابية أو تتكثف في البداية على الأقل، بينما تتحول المجموعة من شبه دولة تسيطر على الأرض إلى شبكة شبحية منتشرة، لها فروع وخلايا في ثلاث قارات على الأقل.
وفي الحقيقة، بينما يشكل فقدان الملاذ صفعة رئيسية لتنظيم “داعش” -حيث يحُد بشكل حاسم، من قدرته على جمع الأموال وتدريب المجندين أو التخطيط لعمليات إرهابية معقدة، على سبيل المثال- فإن الطبيعة اللامركزية إلى حد كبير للمجموعة تعني أنها ستظل خطيرة لبعض الوقت المقبل، كما يقول خبراء في الإرهاب ومسؤولون أميركيون حاليون وسابقون.
ويقول مايكل هايدن، جنرال سلاح الجو المتقاعد الذي ترأس وكالة المخابرات الأميركية من العام 2006 وإلى العام 2009: “بينما كانت منظمة القاعدة تسلسلية ومنضبطة بعض الشيء، فإن هؤلاء الأوغاد ليسوا كذلك. إنهم يتوافرون على كل الطاقة وعدم إمكانية توقع ما يفعلونه، تماماً مثل الحركات الشعبوية”.
يصر مسؤولو “داعش” في تصريحات علنية وفي مقابلات صحفية على أن مشروع “خلافة” المجموعة قابل للديمومة، بينما يعترفون أيضاً بأن الانتكاسات العسكرية قد أملت تغييراً في الاستراتيجية.
وفي هذا الإطار، قال ناشط في “داعش” منذ وقت طويل بينما يتحدث عبر خدمة صوتية على الإنترنت خلال مقابلة معه: “بينما نرى هيكلنا المحوري في العراق وسورية تحت الهجوم، فإننا مع ذلك ما نزال قادرين على التوسع، وقد نقلنا بعض هيكل قيادتنا وإعلامنا وثروتنا إلى بلدان مختلفة”.
وقال الناشط الذي وافق على التحدث مع صحفي غربي شريطة عدم الكشف عن اسمه أو موقعه: “يتصل بنا في كل يوم أناس يقولون لنا إنهم يريدون أن يأتوا إلى الخلافة، لكننا نطلب منهم أن يظلوا في بلدانهم وأن ينتظروا فعل شيء هناك”.
لكن علامات اليأس تتصاعد أسبوعياً داخل الخلافة التي انكمشت بواقع نسبة 12 في المائة إضافية خلال الشهور الستة الأولى من العام 2016، وفق تقرير صدر في الأسبوع الماضي صدر عن مؤسسة “آي. أتش. أس” للتحليلات والاستشارات.
وكانت سلسلة من البلاغات صدرت في الجيب السوري لـ”داعش” في الشهر الماضي قد قضت بإقفال مقاهي الإنترنت في إحدى المحافظات وأمرت بتدمير أجهزة التلفزة وأقراص الأقمار الاصطناعية في محافظة أخرى. وقد قطعت الأوامر التي وصفت بأنها جهد للقضاء على أداة “لنشر معتقدات الكافرين” من الناحية الفعلية الوصول إلى الأخبار من العالم الخارجي.
“من دون مدينة ولا أرض”
ثمة المزيد من مؤشرات السقوط المقبل للمجموعة، والمضمنة في تصريحات صادرة عن مسؤولي “داعش” خلال الأسابيع الستة الماضية التي شهدت تراجع مقاتلي المجموعة في جبهات عدة، من الفلوجة في وسط العراق إلى الحدود السورية التركية.
وقد عرض مقال افتتاحي مهم في الشهر الماضي، نشرته صحيفة النبأ الناطقة بلسان الدولة الإسلامية تقييماً كئيباً لفرص الخلافة، واعترف باحتمال خسارة كل ممتلكاتها من الأراضي التي استولت عليها في نهاية المطاف. وقبل عامين وحسب، كان قادة الجهاديين مهدوا لبداية حقبة جديدة في تاريخ العالم مع تأسيس “خلافتهم” الإسلامية التي ضمت في حينه معظم شرقي سورية ومناطق شاسعة من شمال وغرب العراق، والتي تساوي مجتمعة مساحة بريطانيا.
وسعى المقال المعنون “وهم الصليبيين في عصر الخلافة” إلى تعبئة أتباع المجموعة من خلال الإصرار على أن الدولة الإسلامية ستدوم، حتى لو سقطت كل مدنها بيد “الصليبيين” -أي القوات المختلفة التي تقاتلهم، والمدعومة من الغرب وروسيا.
ويقول المقال: “يتوهم الصليبيون وعملاؤهم المرتدون أنهم سيكونون قادرين على القضاء على كل الولايات التابعة للدولة الإسلامية في الحال بحيث يمكن محوها تماماً، وبحيث لن يظل لها أي أثر”. لكن الحقيقة هي أن أعداء المجموعة “لن يكونوا قادرين على القضاء عليها من خلال تدمير واحدة من مدنها أو محاصرة أخرى، أو من خلال قتل جندي أو أمير أو إمام”.
ويشدد المقال على أن “العالم بأسره… قد تغير” مع خلق الجيب الثيوقراطي الذي “أظهر لكل البشر كيف تكون الدولة الإسلامية الحقيقية”. ويضيف: “إذا كانوا يريدون تحقيق النصر الصحيح -ولن يحققوه إن شاء الله- فعليهم الانتظار وقتاً طويلاًً إلى أن يتم محو جيل كامل شهد تأسيس الدولة الإسلامية وعودة الخلافة”.
وتكررت هذه الثيمات نفسها في موعظة متفائلة للناطق الرسمي بلسان “داعش”، أبو محمد العدناني، بمناسبة شهر رمضان. واجتذبت رسالة العدناني انتباهاً دولياً بسبب ما اشتملت عليه من دعوة إلى شن حملة إرهاب عالمية خلال شهر الصوم في رمضان. لكن العدناني بدا وكأنه يعد أتباعه لمواجهة خسائر جسيمة.
وعند إحدى النقاط، استحضر واحداً من الفصول الأكثر سواداً في “داعش”، عندما كانت المجموعة التي تعرف حينها باسم “الدولة الإسلامية في العراق” على وشك أن تدمر على يد خليط من القوات، بما فيها القوات الأميركية بعد زيادة عديدها، و”الصحوة في الأنبار”، الثورة ضد الإسلاميين التي حملت لواءها العشائر العربية السنية.
وتساءل العدناني في معرض إشارته إلى المعاقل الأولى لـ”داعش” في العراق وليبيا وسورية “هل هزمنا عندما خسرنا المدن في العراق وأصبحنا في الصحراء من دون مدينة ولا أرض؟ وهل سنهزم وهل ستنتصرون إذا استوليتم على الموصل أو سرت أو الرقة، أو حتى استوليتم على كل المدن؟”، وأجاب: “كلا بالتأكيد”.
استحضار ماضٍ غير مجيد
في الأسابيع الأخيرة، تم الاستشهاد مرات عديدة بشبه الهزيمة التي مُنيت بها المجموعة في العام 2008 في إرساليات وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما يوحي لبعض المحللين بأن قادة المجموعة يحاولون الحد من الضرر الحتمي الذي سيلحق بسمعة “داعش” في أوساط الجهاديين كقوة عسكرية وأخلاقية لا يمكن إيقافها.
وقال كول بنزل، المرشح لشهادة الدكتوراه في كلية دراسات الشرق الأدنى في جامعة برينستاون، والذي قدم ترجمة وتعليقاً على مقال نشرة “النبأ”: “إنهم لا يريدون خسارة الأرض، لكنهم يحاولون تذكير الناس بأن للمجموعة تاريخاً طويلاً، وبأنهم سيسودون مرة أخرى كما كانوا فعلوا في أوقات سابقة”.
ربما كانت الهجمات المميتة ضد مطار أتاتورك في إسطنبول ومنطقة التسوق في الكرادة في بغداد -وكلاهما هدفان سهلان نسبياً لإرهابيين مهتمين فقط بإيقاع خسائر كبرة في صفوف المدنيين- جزءا من الجهد نفسه لطمأنة أتباع “داعش” إلى حيوية الدولة، كما يقول ويل مكانتس، الباحث في معهد بروكينغز.
ويضيف مكانتس: “تعكس الهجمات الناجحة في الخارج قلقاً عميقاً في الداخل”. فبعد أعوام من التفاخر بعدم قابلية المجموعة لأن تقهر، يشرع قادة، مثل العدناني، في الاعتراف بالخسائر في ميادين المعارك بينما يحاولون عرضها في ضوء أكثر ايجابية. وأضاف أنه يغيب عن بيانات المجموعة أي إقرار بارتكاب أخطاء استراتيجية وتكتيكية أسهمت في الورطة الراهنة للمجموعة الإرهابية التي تقاتل وحدها ضد طائفة من القوات التي تضم القوى الغربية الرئيسية والمسلمين السنة والشيعة، والروس والأكراد.
وقال مكانتس أيضاً: “إنهم لن يحاولوا أن يكونوا أذكياء في الوقت الراهن، لكنهم في الواقع يحاولون تحضير أتباعهم للتكيف مع “خلافة” لم تعد “خلافة””.
من جهته، أقر ناشط “داعش” المذكور الذي وافق على إجراء مقابلة معه بأن بعض أتباع المجموعة أصيبوا بخيبة أمل بسبب أخطاء ارتكبها قادة. وقال إنه لا يهتم بما إذا ظلت قيادة التنظيم في الرقة أو انتقلت إلى شمال أفريقيا أو أي مكان آخر -مع أنه أضاف أن المجموعة ستنتقم لخسارة الرقة بالتأكيد. وقال: “هذه رسالة لكل أعضاء التحالف الذي يقاتل ضدنا: لن ننسى وسوف نأتي إلى داخل بلدانكم لنضربكم بطريقة أو بأخرى”.
يخشى مسؤولو الاستخبارات الأوروبيين أن تكون المرحلة الجديدة أصبحت قيد العمل أصلاً. وقال مسؤول أمن فرنسي شريطة عدم الكشف عن هويته لبحث حول استراتيجية مكافحة الإرهاب: “إنهم يواجهون التحدي بينما نقوم نحن بتكييف استراتيجيتنا وفقاً لاستراتيجيتهم الأساسية من أجل الشروع في تفكيك ملاذاتهم. لكنهم سينتقلون الآن إلى تكتيكات أخرى والبدء في تنفيذ خيارات أكثر بشاعة وعمومية بكثير في المدن الكبيرة”. وأضاف: “لقد بدأت الخطوة التالية مُسبقاً”.
ترجمة:عبدالرحمن الحسيني
صحيفة الغد