بعد مرور أكثر من يومين على محاولة الانقلاب العسكري في تركيا يمكن القول بأن هذه المحاولة والتي قادها مجموعة من الضباط العسكريين قد فشل لغاية الآن. أهمية هذا الحدث تدفعنا للوقوف على الأسباب التي قادت إلى فشله. لأنها، هي الأولى من نوعها في تاريخ الانقلابات العسكرية في تركيا، فالانقلابات العسكرية الأربعة (1960م، 1971م، و1980م، و1997م) السابقة كان حليفها النجاح.
هناك جملة أسباب برزت إلى واجهة الاحداث عملت على إفشال المحاولة الانقلابية، أولاها رفض النظام السياسي التركي بشقيه الحكومي وغير الحكومي تلك المحاولة، فقد أبدى الشق الحكومي للنظام السياسي تماسكه وثباته من خلال التصريحات والتي اقترنت-فيما بعد بأفعال رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس الجمعية الوطنية “البرلمان”، الرافضة له واستعدادهم للمواجهة حتى آخر رمق. ولعل هذا التماسك والثبات مرده استقرار تلك السلطات وتناغمهم وعدم الصراع فيما بينهم. إذ جرت العادة في الانقلابات العسكرية السابقة بمجرد وقوعها تُسلم تلك السلطات بالأمر الواقع، ولا تبدي أي مقاومة تذكر، وهذا ما لم يحدث في المحاولة الفاشلة، إذ لم تُقر تلك السلطات بما وقع، وبينت معارضتهم ومقاومتهم الشديدة لها، فبُعيد قيام المحاولة الانقلابية واعلان المنقلبون تسلم زمام الحكم في تركيا سارع “بن علي يلدريم” رئيس الوزراء التركي في الإعلان بأن وزراته مستمرة في أعمالها وأن الانقلاب لا قيمة له وأنه سيقاتل للحفاظ على المكتسبات الشعبية، ولم يدم غياب رجب طيب اردوغان رئيس الجمهورية التركي عن مجريات المحاولة الانقلابية طويلاً إذ طالب الشعب التركي للنزول في الشوارع والميادين لمواجهة تلك المحاولة، ولم يكتف بذلك بل استقل طائرته ونزل بها إلى مطار أتاتورك لتبدأ المرحلة الفعلية في مواجهة الانقلاب، فهو لم يترك الشعب التركي بمفرده ليواجه الانقلاب، بل التحم مع شعبه في تلك المواجهة، مما أعطاها زخما جماهيرياًّ ولعل الظهور السريع للرئيس التركي وما ترتب عليه، والاستجابة السريعة من قبل شعبه لندائه كان سبباً حاسماً في إضعاف الانقلاب وفشله-فيما بعد- وما ينطبق على الرئيس التركي ورئيس الوزراء من ثبات على الموقف الرافض لمحاولة الانقلاب ينسحب أيضا على إسماعيل كهرمان رئيس المجلس الوطني الكبير”البرلمان” الذي أصدر بياناً مع مجموعة من النواب الأتراك في أثناء المحاولة الانقلابية يُبين رفضهم لها وتمسكهم بالشرعية الديمقراطية.
وقد انعكس هذا التماسك والثبات في السلطتين التنفيذية والتشريعية بشكل إيجابي على المؤسسات الأمنية والعسكرية في الدولة، إذ وقفت كل من المؤسسة الأمنية والعسكرية “المخابرات العامة والجهاز الشرطي” ومعظم المؤسسة العسكرية إلى جانب الشرعية الدستورية في الدولة التركية، إذ اشتبك أفراد المخابرات العامة وأفراد القيادة العامة لقوات الشرطة مع القوات الانقلابية في اسطنبول، كما أن خلوصي أقار رئيس هيئة أركان الجيش التركي، على الرغم من احتجازه من قبل الانقلابيين لساعات طويلة والضغط عليه للمشاركة في محاولة الانقلاب إلا أنه رفض ذلك. بالاضافة إلى وقوف معظم الجيش التركي إلى جانب الشرعية الدستورية. هذا الامر بحد ذاته، يُعد سابقة في تاريخ الانقلابات العسكرية في تركيا. إذ تخبرنا تجارب الانقلابات السابقة فيها بأن هذه المؤسسات الأمنية والعسكرية كانت تقف دائما إلى جانبها، ولعل هذا التحول في ادائها، يعود إلى حزمة الإصلاحات الدستورية والقانونية التي قامت بها الحكومات المتعاقبة لحزب العدالة والتنمية في إعادة هيكلية هذه المؤسسات والأجهزة “المخابرات،والشرطة،والمؤسسة العسكرية” بشكل يعمل على صيانة وحماية الشرعية الديمقراطية.
أما الشق غير الحكومي الرافض لمحاولة الانقلاب فقد تجسد بمواقف أبرز الأحزاب السياسية التركية” حزب الشعب الجمهوري، وحزب الحركة القومية، وحزب الشعوب الديمقراطية” والممثلة بالجمعية الوطنية التركية “البرلمان” فتلك الأحزاب وعلى الرغم من تباينها الفكري مع حزب العدالة والتنمية، ومعارضتها الشديدة لمجمل السياسات الداخلية والخارجية لرئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان إلا إنها رفضت جميعها المحاولة الانقلابية وانتهاز الفرصة التاريخية للتخلص من خصم قوي كحزب العدالة والتنمية والرئيس التركي، لكنهم لم يفعلوا ذلك ليس حباّ لهما، وإنما للحفاظ على المكتسبات المتراكمة النظام الديمقراطي والإلتزام بقواعده، وكأن لسان حالهم يقول: بأن الحزب السياسي الذي يحُكم تركيا وفق صناديق الاقتراع لا يغادر الحكم إلا من خلالها وليس عبر انقلاب عسكري، لما له من تأثير سلبي على الحياة السياسية التركية برمتها. وهذا الموقف الرافض لمحاولة الانقلاب من قبل الأحزاب ينطبق أيضا على موقف المجتمع المدني التركي منه وخاصة وسائل الإعلام التركية، إذ ساهمت بدور كبير في إفشال المحاولة الانقلابية من خلال قيامها بأدوار متعددة كقيام إحداها في إجراء لقاء سريع مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وتبيان موقفه الرافض للانقلاب والذي دعا من خلال تلك القناة الشعب التركي للنزول إلى الشوارع لمواجهة الانقلاب، وقيام أخرى بعرض مواقف الأحزاب السياسية التركية الرافضة للانقلاب واجراء مقابلات مع مسؤولين تركيين سابقين رافضين لمحاولة الانقلاب أمثال رئيس الجمهورية التركية السابق عبدالله غول ورئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو. هذا الموقف يعد موقفاً تاريخياً لوسائل الاعلام التركية إذ لم يحدث من قبل أن واجهت تلك الوسائل أي محاولة انقلاب عسكرية من قبل.
ويتجسد السبب الثاني في إفشال مفعول المحاولة الانقلابية بوقوف الشعب التركي إلى جانب الشرعية الدستورية، فنزوله إلى الشوارع لمواجهة تلك المحاولة ومحاصرة من أرادو الانقلاب على إرادتهم الشعبية والديمقراطية تبعث برسائل عديدة منها أن قوة أي حاكم تنبع من محبة شعبه له، وهذه المحبة لا تأتي من فراغ وإنما من سلسلة انجازات استطاع أن يحققها لشعبه طيلة فترة حكمه وهذا ما ينطبق على الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الذي قدم العديد من الانجازات للشعب التركي حينما كان رئيساً لبلدية اسطنبول (1994م-1998م) ورئيساً للوزراء (2003م-2014م) فثقة الشعب التركي برجب طيب أردوغان جعلته منه رئيساً للجمهورية التركية ليواصل مسيرة الاصلاحات والانجازات، فالمحاولة الانقلابية الفاشلة هذه تذكرنا بالانقلاب العسكري ضد الرئيس الفنزويلي السابق هوغو تشافيز في فنزويلا عام 2002م، فعلى الرغم من نجاح الانقلاب واحتجاز الرئيس من قبل قيادة الانقلاب، إلا أن حب الشعب الفنزويلي لرئيسه والتي تمثلت بمظاهرات عارمة رافضة للانقلاب هي التي أعادت تشافيز إلى الحكم، وما ينطبق على تشافيز يسري على أردوغان، فالحالتين تعني أن الشعب هو المصدر الحقيقي لكل السلطات وليس معنى احتكار المؤسسة العسكرية للقوة المادية في الدولة يعطيها الحق في الانقضاض على الإرادة الشعبية في الحالتين الفنزويلية والتركية.
أما الرسالة الثانية والتي لا تقل أهمية عن الأولى تنطلق من قناعة عامة لدى الشعب التركي الذي خرج في الشوارع وموجهة إلى المؤسسة العسكرية التركية مفادها أن دورك ينحصر في حماية الدولة التركية من الاعتداءات الخارجية وليس إعادة فرض وصايتها على النظام السياسي التركي والنظام الديمقراطي الذي ارتضيناه أسلوباً لحكمنا فنحن أي الشعب التركي مصدر منح أو حجب الحكم عن أي رئيس ولكن بالطرق الديمقراطية.
أما السبب الثالث في إفشال محاولة الانقلاب تتمثل بالانقلابيون أنفسهم الذين ظنوا بمجرد السيطرة على مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الرسمي بأن أركان النظام السياسي قد سقط، هذا التصور قد يصلح للانقلابات العسكرية التي حدثت في ماضي تركيا، أما في مرحلة ما بعد الحداثة والتكنولوجيا وخاصة في شقها الإعلامي” فيس بوك، وتويتر، وسكايبي، وانستغرام” فمن الصعوبة بمكان قبوله، ففي الوقت الذي كان الانقلابيون فيه يعلنون بيانهم عبر التلفزيون الرسمي كانت قناة تلفزيونية تركية خاصة تبث كلمة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عبر تطبيق”facetime” يدعو الشعب التركي للنزول إلى الشوارع التركية للتصدي للمحاولة الانقلابية والدفاع عن نظامهم السياسي الديمقراطي. فهذه التفاصيل الصغيرة كانت قد غابت عن مخططي الانقلاب فلو استطاع الانقلابيون السيطرة على وسائل الاعلام بمختلف أشكالها في تركيا ومنعوا الرئيس رجب طيب أردوغان من الظهور الإعلامي لتمكنوا من انجاح محاولتهم ولكن ذلك لم يحدث.
ما من شك فيه لا تخلو تجربة حكم من الأخطاء فهذا ديدن العمل السياسي لكن هناك فرق بين الخطأ والكارثة في الحياة السياسية فحزب العدالة والتنمية ورئيس رجب طيب أردوغان قد يكونا ارتكبا أخطاء لكنهما من المؤكد لم يرتكبا كوارث سياسية كي يتم الانقلاب على حكمها. فلا يليق لتجربة حزب العدالة والتنمية في حكم الخروج من المشهد السياسي التركي والإقليمي والدولي على ذلك النحو، فتركيا مع فشل محاولة الانقلاب ليس كما يرى البعض يعد انتصار لارودغان وإنما نرى انتصاراً للنظام الديمقراطي والارادة الشعبية التركية التي هي مصدر السلطات.
معمر فيصل خولي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية