ضجت شوارع طهران بالاحتفالات قبل سنة من يوم الخميس الماضي، عندما وقعت إيران اتفاقاً نووياً تاريخياً مع ست قوى عالمية، والذي اعتُبر انتصاراً للدبلوماسية على الحرب.
وقام الطرفان بتسويق الاتفاق على أنه كسب للطرفين: سوف تقوم إيران بتفكيك العناصر الأكثر إثارة للجدل من برنامجها النووي -بطريقة تخفض إلى الحد الأدنى فرصة حيازة سلاح نووي لمدة عقد على الأقل- في مقابل رفع العقوبات التي شلت اقتصادها.
وبينما كان الإيرانيون المبتهجون يلوحون بالأعلام مستبشرين بإنهاء عزلة إيران، وعد الرئيس روحاني بأن “صفحة طويت في تاريخ إيران”.
ولكن، بعد سنة من ذلك، أصبح الاتفاق المكون من 159 صفحة عبارة عن حالة دراسة للتوقعات الكبيرة التي لم تتحقق بالتغيير، بينما يناضل المتشددون في كل إيران والكونغرس الأميركي في سبيل تقويض الصفقة لضمان تحقيق أقل قدر ممكن من المصلحة السياسية لمنهدسي الاتفاق -السيد روحاني والرئيس باراك أوباما- وكذلك لخصومهم الاستراتيجيين منذ فترة طويلة في كل من واشنطن وطهران.
يقول المحللون إن الرئيس الإيراني وعد في ذلك الحين بأكثر مما يستطيع أن يفي به. ويقول علي واعظ، كبير محللي إيران في مجموعة الأزمات الدولية في بروكسل: “لم يكن لدى روحاني أي خيار سوى الاستفادة من المطالب الشعبية المكبوتة من أجل حشد دعم النخبة للدبلوماسية؛ وكانت الدعاية وتهويل المكاسب أموراً حتميَّة تماماً كما هو حال خيبة الأمل التي نجمت عنها”.
ويضيف السيد واعظ: “لم يؤذن الاتفاق بقدوم حقبة جديدة. وهو -في أحسن الأحوال- يعيد إيران إلى حيث كانت قبل الأزمة النووية. وقد نظرت المؤسسة إلى إنهاء العزلة الاقتصادية على أنه ضرورة للحفاظ على نفوذها. والآن، تخشى هذه المؤسسة أن يؤدي الانفتاح الاقتصادي المتسارع إلى إرخاء قبضتها عن السلطة”.
وقد التزمت جميع الأطراف برسالة الاتفاق بحزم: فقد خفضت إيران بشكل كبير بنيتها التحتية النووية -مثل إعادة تشكيل مفاعل نووي للماء الثقيل ومرفق مدفون عميقاً لتخصيب اليورانيوم- في حين أبقت على قدرة محدودة لإنتاج وقود الطاقة النووي. وفي المقابل، تم رفع العقوبات غير النووية بطريقة آذنت جزئياً بإعادة إيران إلى حظيرة الاقتصاد العالمي.
لكن الاتفاق لم يُحسِّن بعد قدرة روحاني على الوفاء بوعده بتوسيع الحريات الاجتماعية، أو خلق مناخ أقل خضوعاً للنزعة الأمنية. وفي حقيقة الأمر، ربما يكون العكس هو الصحيح بعد التحذيرات المستمرة من الزعيم الإيراني الأعلى آية الله علي خامنئي من “الاختراق” و”الحرب الناعمة” اللذين تمارسهما الولايات المتحدة والغرب.
كما تبدو المصارف الأميركية والأوروبية مترددة أيضاً في الانخراط مع إيران، خشية التعرض للسعات العقوبات الأميركية غير النووية، بحيث يحرم هذا التردد إيران من جني كامل المنافع المأمولة من الاتفاق. ويستعد الكونغرس هذا الأسبوع لاقتراح تدابير جديدة من شأنها فرض المزيد من العقوبات على إيران حول الإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان، أو تقييد استخدام إيران للدولار، وهي الاقتراحات التي يقول البيت الأبيض إنه سيستخدم ضدها حق النقض.
يقول علي أكبر ولايتي، مستشار السياسة الخارجية الرفيع للسيد خامنئي، في معرض انتقاده هذا الأسبوع للضغوط الأميركية المستمرة: “إن إيران تلتزم بوعدها… (لكنهم) جربونا سابقاً”. ويضيف السيد ولايتي: “إذا كانوا قد هُزموا في العراق وبغداد ودمشق وحلب والفلوجة على يد حلفاء إيران، وما تزال إيران تتقدم باعتبارها القوة الأولى في المنطقة، فإنهم يحاولون أن ينتقموا وأن يتنكروا لوعودهم في المناطق التي يستطيعونها”.
وفي تعليقاته الأخيرة على الاتفاق، يعبر روحاني بلهجته الخاصة عن الحذر. وقال يوم الأربعاء الماضي إن الاتفاق النووي “يعزز السلام العالمي والأمن والاستقرار والتنمية”. ولكن، إذا كان الطرف الآخر “يتملص من التزاماته، فإننا مستعدون تماماً (من ناحية القدرات النووية) للوصول إلى النقطة التي نريدها في فترة زمنية قصيرة”.
توقعات كبيرة
كانت التوقعات كبيرة في إيران، والتي أججها المؤيدون للاتفاق، بأن منافعه ستكون واضحة وفورية. ومع ذلك، استعادت إيران مجرد جزء صغير فقط لا يتجاوز 150 مليار دولار من الأموال التي توقعتها، ويشكل تمويل الصفقات الجديدة قضية رئيسية بسبب مخاوف المصارف الغربية.
مع ذلك، لم تتبدد آمال الإيرانيين بجني الفوائد بعد. ويقول محمد علي شعباني، محرر الشؤون الإيرانية في موقع “المونيتور” في لبنان: “الأمور لم تتحسن، ليس هناك تأثير محسوس على حياة الناس. ولكن، ما يزال هناك بصيص أمل بقدوم الأفضل”.
كان اقتصاد إيران الذابل -وتصويت الإيرانيين على أساس محافظ نقودهم، بالإضافة إلى الوعود بحريات اجتماعية أكبر- هي التي ساعدت روحاني على كسب الانتخابات في حزيران (يونيو) 2013. وقد تعهد بـ”وضع حد للتطرف”، وهندسة اتفاق نووي، وإعادة إحياء الاقتصاد الذي تضرر بسبب سوء الإدارة والعقوبات.
ومن أجل الدفع بقضية المفاوضات النووية في ذلك الحين، قدم روحاني ثلاثة عروض تقديمية باستخدام “بور-بوينت” لخامنئي، والتي عرَضت توقعات قاتمة للمستقبل. وكانت التوقعات الاقتصادية لمدة عشر سنوات تقول إن إيران، إذا استمرت العقوبات، ستكون “مثل بنغلادش”، كما يقول أكاديمي إيراني على دراية بتلك الإحاطات التي قدمها روحاني، والذي طلب عدم الكشف عن اسمه.
كانت تلك معركة شاقة “لإقناع المرشد الأعلى”، الذي قيل له إنه “سيكون هناك أناس يحتجون في الشوارع” إذا لم يحدث تغيير، كما يقول الأكاديمي. والآن “لم يتلق الشخص العادي فوائد” الاتفاق بعد، كما يقول، لكنه “يشعر أن الأمور تسير في الاتجاه الصحيح”.
الدعم الشعبي يتراجع
يعكس المشهد الإيراني الآن نتائج استطلاع أجري بواسطة الهاتف، ونشرت نتائجه شركة الاستطلاعات الكندية “إيران بول. كوم”، وتم إجراؤه لصالح جامعة ميريلاند؛ حيث سُئل أكثر من 1.000 إيراني من كل أنحاء البلاد عن وجهات نظرهم تجاه الاتفاق، مقارنة باستطلاع مشابه كان قد أجري مباشرة بعد التوصل إلى الاتفاق النووي قبل عام من الآن.
ويعد إجراء استطلاعات الرأي في إيران أمراً بالغ الصعوبة؛ حيث يشعر المستطلِعون في كثير من الأحيان بالإحباط بسبب عدم رغبة الإيرانيين في التعبير عما يفكرون فيه بدقة –خاصة حين يتعلق الأمر بالقضايا السياسية.
ومع ذلك، تراجعت الموافقة على الاتفاق في هذا الاستطلاع من 76 في المائة إلى 63 في المائة؛ حيث هبط عدد الذين يؤيدون الاتفاق بقوة بمقدار النصف، ليصل إلى 22 في المائة. وما يزال 80 في المائة من الإيرانيين يقولون إن تطوير برنامج إيران النووي هو أمر “مهم جداً”، بينما يقول أكثر من 60 في المائة إن الانخراط مع الغرب يجب أن يزداد.
مع ذلك، وعلى نحو حاسم، قال 73.7 في المائة من الإيرانيين المستطلَعة آراؤهم إن ظروف المعيشة “لم تتحسن”، في حين تعتقد نسبة أكثر قليلاً بأن الولايات المتحدة كانت “تحاول منع” تطبيع الاقتصاد الإيراني.
وقال عباس عراقجي، أحد كبار المفاوضين النوويين الإيرانيين، لمحطة تلفزيون “إيريب” التي تديرها الدولة هذا الأسبوع، إن عداء الولايات المتحدة تجاه الجمهورية الإسلامية “لم ينته مع إبرام الاتفاق”. وبالمثل، لم تغير إيران برنامجها الصاروخي أو سياساتها الأخرى التي كانت قد جلبت عليها العقوبات الأميركية غير النووية، كما قال.
وأضاف السيد عراقجي: “مشكلتنا مع الولايات المتحدة هي أنهم طبقوا التزاماتهم بموجب الاتفاق، لكنهم (أضافوا) القيود والدعاية خارج حدود الاتفاق”.
هل يستطيع روحاني الفوز بولاية ثانية؟
ثمة مشكلة أخرى، هي الإفراط في عرض منافع الاتفاق في الوطن. وقد أدى القيام بذلك إلى “كشف (فريق روحاني) أمام نوع الانتقاد والقنص الذي ترونه اليوم من جهة الجانب المحافظ، ولكن… روحاني يعتمد على سيادة البراغماتية عند صناديق الاقتراع”، كما يقول السيد شعباني الذي يضيف: “بالبراغماتية، أعني الرغبة في التصويت لأهون الشرور. وليست هذه طريقة مغوية لتأمين صناديق الاقتراع، ولكنها تعمل”.
وقد عملت في شباط (فبراير) الماضي في الحقيقة، عندما استطاعت قائمة “الأمل” المكونة من مرشحين يدعمهم روحاني وشخصيات إصلاحية شعبية أخرى هزيمة العديد من المحافظين في انتخابات البرلمان ومجلس الخبراء، الهيئة الدينية التي تختار المرشد الأعلى القادم.
تتركز الكثير من النقاشات الآن حول الاتفاق النووي وتأثيره على الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقبلة المقرر إجراؤها في حزيران (يونيو) 2017. ويقترح المتشددون أن روحاني ربما يكون قد استثمر كثيراً من الأمل في الاتفاق النووي -وفي التعويل على التزام الولايات المتحدة والغرب بجانبهم من الصفقة- حتى أنه يمكن أن يكون أول رئيس يخدم ولاية واحدة فقط في فترة جيل كامل.
مع ذلك، عمل تخفيف العقوبات مُسبقاً على جلب “فائدة كبيرة” لإيران، كما يلاحظ السيد واعظ، مثل عودة إنتاج النفط إلى مستوياته لما قبل العقوبات؛ وحدوث طفرة في حجم التجارة مع الاتحاد الأوروبي بنسبة 22 في المائة؛ وما يعادل 3.5 مليارات دولار من الاستثمار الأجنبي المباشر في إيران في الربع الأول من العام 2016 -في كسر لسجل بطول عقل كامل.
كما ظل سلوك واشنطن أيضاً تحت المراقبة الحثيثة في طهران. ويقول السيد واعظ: “بالنسبة لروحاني وحلفائه، فإن حقيقة أن البيت الأبيض يضغط بشكل استباقي لضمان تخفيف فعال للعقوبات ويهدد باستخدام حق النقض ضد العقوبات الجديدة، هي دليل على أن إيران تستطيع التعامل مع الولايات المتحدة. ولكنْ بالنسبة للخصوم، فإن حقيقة أنك تستطيع التعامل مع الشيطان لا تغير الشيطان”.
التجارب الصاروخية على المحك
أشاد خامنئي ذات مرة بالمفاوضين، ووصفهم بأنهم “أبناء الثورة”، وقال في الشهر الماضي “لقد صليت من أجلهم وسوف أستمر في ذلك”.
لكنه أثار أيضاً حساً من الشك في الخريف الماضي، محذراً من أن الأميركيين لا يمكن الوثوق بهم مطلقاً؛ ومن أن أي عقوبات أميركية جديدة سوف تدمر الاتفاق؛ وأن على الولايات المتحدة أن لا تتوقع أي تعاون في القضايا الشائكة الأخرى، مثل سورية.
ويردد المتشددون والضباط العسكريون صدى هذا النقد، حتى مع أن الحرس الثوري الإيراني اختبر حدود الصفقة من خلال تجارب الصواريخ هذا الربيع. وليس المقصود من هذه الاختبارات أن يتم إجراؤها على الصواريخ المصممة لحمل رؤوس حربية نووية، على الرغم من أن إيران تقول إن صواريخها ليست مصممة لهذا الغرض.
من جهته، قال الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون هذا الأسبوع لمجلس الأمن، في تحديث سري نقلته وكالة رويترز للأنباء، إن اختبارات الصواريخ الإيرانية “لا تتفق مع الروح البناءة” للاتفاق النووي، لكنه لم يذهب إلى حد تسميتها انتهاكاً.
وفي الأثناء، ذكرت الاستخبارات الألمانية في الأسبوع الماضي، أن “الشراء غير القانوني الحساس لمسألة الانتشار النووي” قد استمر في العام 2015 على “مستوى عالٍ نوعياً”، خاصة في المواد النووية والمتصلة بالصواريخ.
وقد نفت إيران هذه التقارير. وقال العميد أمير علي حاجزادة، قائد القوات الجوية للحرس الثوري الإيراني في الأسبوع الماضي: “لماذا لا تصدقون غدر العدو وخداعه. من أجل القضاء على قوتنا الدفاعية… يقولون لنا اليوم أن لا نمتلك الصواريخ. وغداً سوف يقولون، “لماذا تقدمون المشورة في سورية؟”، ثم “لماذا تدعمون حزب الله؟”… يجب أن لا نعتقد أبداً بأن لمطالب العدو سقف”.
سكوت باترسون
صحيفة الغد