ما إن انتشرت القطع العسكرية التركية في شوارع أنقرة وإسطنبول في مساء الخامس عشر من تموز/يوليو الحالي، ووقف جنود الانقلابيين في الشوارع، وحلّقت طائراتهم في مجال الجوي التركي، حتى تكشّف على مستوى الإعلام العربي والشرق أوسطي من يريد للانقلاب على تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا أن تنجح، ومن التزم بالمهنية الإعلامية في تغطية مجريات تلك الليلة. الإعلام -كعادته- كان الوسيلة الوحيدة لمعرفة ما يجري في تلك اللحظات التاريخية، فبينما كانت بعض القنوات الإعلامية كقناة الجزيرة القطرية وقناة التغيير العراقية وقناة “Rudaw” الكردية تتحسس كلماتها ومصطلحاتها، إذ اختارت تلك القنوات منذ اللحظة الأولى من وقوع المحاولة الانقلابية متابعة الأحداث بمهنية عالية، بحيث ظلت تبث أخبار ما يجري في تركيا عبر موقعهم الرسمي وصفحاتهم على “فيس بوك” وشاشاتهم، وأفردوا مساحة للتصريحات الأولى والثانية لـلرئيس التركي رجب طيب أوردغان، بعد سيطرة المحموعة الانقلابية من الجيش التركي بشكل جزئي.
بينما سارعت قنوات فضائية أخرى للانحياز للانقلابيين، كنهجا مسايرا لهم ومتفاعلا مع التطورات التي تصب في صالح تكريسهم، وكأن الأمر قد حسم بالفعل لهم، أو هكذا كانوا يريدون أن يروجوا. حيث بثت إحدى القنوات العربية خبر طلب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اللجوء إلى ألمانيا في الوقت الذي كان فيه متوجها إلى إسطنبول للوقوف إلى جانب الجماهير، وجزمت أخرى بنجاح الانقلاب و”استعادة الجيش التركي الديمقراطية في البلاد” حسب تعبيرها، كما استقبلت على مدار تغطيتها الإعلامية محللين سياسيين وإعلاميين كانوا في معظمهم مؤيدين لمحاولة الانقلاب العسكري، متفاخرين بالانجازات التي حققتها المؤسسة العسكرية في تاريخ تركيا المعاصر، مفبركين في تلك التغطية، بما ينسجم مع توجهاتهم السياسية استطلاعات رأي مفادها أن المؤسسة العسكرية في تركيا هي المؤسسة الأولى التى تحظى باحترام ومكانة الرفيعة لدى الشعب التركي على مختلف المراحل من تاريخ تركيا المعاصر، وكأن هذه المؤسسة لم تقم بأي انقلاب عسكري لتعزيز هيمنتها على النظام السياسي، ومبررين محاولة الانقلاب بما شهدته تركيا مؤخرا من حالة عدم الاستقرار الأمني الناجمة عن العمليات الإرهابية من قبل تنظيم الداعش، وكأن تركيا هي الدولة الوحيدة التي زعزع استقراها الارهاب، ونتساءل هنا وفق ذلك المنهج التبريري: ألم تتعرض فرنسا مؤخرا لعمليات إرهابية كان آخرها العملية التي وقعت في مدينة نيس الفرنسية، فلماذا لم تتحرك المؤسسة العسكرية الفرنسية للإطاحة بالرئيس فرانسوا أولاند؟!
كما تبادل بعض الصحفيين التهاني بـ”سقوط الطاغية” الذي دعم الإرهاب في البلاد العربية، حسب وصفهم. وإعلام آخر أقام عبر برامجه “التوك شو” حفلة الشماتة والتهكم مبكراً، ففتحت الهواء للمداخلات الهاتفية المؤيدة لما يجري في أنقرة، كما لم يتردد مقدمو هذه البرامج في ممارسة عادتهم في التلسين. وبدورها دخلت القنوات السورية الرسمية التابعة لبشار الأسد على خطّ التهليل للانقلاب، فأكّدت إحدى القنوات التابعة له -بسعادة واضحة- وقوع محاولة الانقلاب، ونقل أنباء الاحتفال بذلك، لا بل وصل الأمر إلى وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بـ”الهارب”.
في حين هناك اعلام ثالث التزمت فضائيته الصمت ولم تغط شيئاً عن المحاولة الانقلابية في تركيا على الرغم من أن هذه الفضائية لها مكاتب إعلامية فيها، وما يثير الاستغراب الأكثر في عدم قيامها بتغطية ما حدث في تركيا أن مسؤولي هذه القناة كانوا يلتقون بشكل يومي مع المسؤولين في المخابرات التركية. وبمجرد إعلان الحكومة التركية إحباطها للمحاولة الانقلابية غيرت تلك القنوات سياستها المنحازة للانقلاب إذ قامت بحذف كل الأخبار الكاذبة على مواقعها الالكترونية والمرئية عن محاولة الانقلاب.وبين الشائعات والحقيقة، انكشفت أقنعة وسائل الإعلام،وهذا ليس بالأمر الجديد أو المفاجئ، فالجميع يعلم أن “لا حيادية في وسائل الإعلام”، تلك كانت الكلمة الأولى التي تقال عند دراسة الإعلام، لكن أن تظهر بهذا الحجم من التحيز، ناسفةً كل الشعارات التي تتخذها!
ويمكن القول أن الفضائية العراقية الرسمية كانت تُمثل نموذجا على الانحياز الإعلامي الفاضح مع الانقلاب العسكري في تركيا وذلك من خلال تغطيتها غير المسؤولة وعدم مهنيتها من خلال إشارتها بأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان طلب اللجوء إلى ألمانيا، وأن الجيش التركي سيطر على جميع مرافق الدولة. علما بأن رئاسة الأركان التركية لم تصدر بيانا يؤكد على سيطرتها على مرافق الدولة. فما هو مصدرها الإعلامي أو السياسي أو الاستخباراتي كي ثبث هذه “الأخبار” الكاذبة؟
فهذه القناة الفضائية لم تتحلى بروح المسؤولية والمهنية تجاه ما حدث في تركيا بحيث تعمل على مراقبة الوضع عن كثب والحرص في نقل الأخبار الدقيقة لمحاولة انقلابية على تجربة الحكم لحزب العدالة والتنمية في تركيا -في حال نجاحها- كانت حتماً ستغير من توازنات السياسية في المنطقة الشرق الأوسط وعلى المستوى الدولي أيضاً، فالدقة الخبرية المطلوبة في هذا الحدث الجسيم لأن الاعتماد على التلفيقات الخبرية من شأنها أن تحرج دولتها مع دولة لا يستهان بقوتها في الشرق الأوسط، خاصة إذا كانت هذه القناة تعلم أن قبل عدة أيام زار وفد عراقي كبير تركيا للبحث في سبل تطوير العلاقات الثنائية. و من الواضح أن هذه القناة كانت في تغطيتها الإعلامية الكاذبة عن مجريات محاولة الانقلاب انها تعمل بدون أي توجيه من رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي.
وما ينطبق على القناة الفضائية العراقية الرسمية ينسحب أيضاً على أكثرية الفضائيات العراقية التي وقفت بشكل فاضح مؤيدة لمحاولة الانقلاب العسكري في تركيا. هذا الخلل في المنظومة الإعلامية العراقية قد يكون فرصة لرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي لترشيدها وتقييم أدائها فمن غير المعقول أن يترك بدون عملية ضبطه فالتغطيات الاعلامية لحدث كبير لا يدار بتلك الطريقة فلا بد أن تكون هناك سياسة إعلامية واضحة يلتزم فيها جميع العاملين في القطاع الإعلامي العراقي، فالأخطاء والأكاذيب و الأخبار المتعمدة والتي كان آخرها في الحالة التركية من شأنها أن تحرج العراق وتدخلها بخلافات مع دولة جارة وقد يتطور هذا الخلاف إلى أزمة سياسة، والعراق اليوم وغدا ومستقبلا بأمس الحاجة بإقامة علاقات ودية مع دول الجوار وخاصة تركيا لما لها من ثقل إقليمي لا يستهان به.
وبما لا يدع مجالاً للشك كشفت التغطيات الإعلامية العربية والشرق أوسطية لمحاولة الانقلاب العسكري في تركيا، بأن هناك نوعين من الإعلام الفضائي في الشرق الأوسط، الأول إعلام مُسيس إلى حد بعيد يدفع لكي يفبرك الأخبار والأكاذيب. وهنا نتساءل هل كان هذا الإعلام سينحاز بشكل فاضح للمحاولة الانقلابية ويعزف من عواصم متعددة عزفاً جماعياً مرحبا بتلك المحاولة الانقلابية، لوكانت علاقة حكومة حزب العدالة والتنمية بعواصم تلك دول ايجابية؟!
وهناك إعلامي مهني كقناة التغيير العراقية، فالقناة لم تعتمد كبقية القنوات والمواقع العربية طريقة النسخ واللصق لتنشر الخبر ذاته وغيره من الشائعات دون التحقق منها، وإنما اعتمدت المهنية والمصداقية في تغطيتها الاخبارية، وهذا الموقف الرصين ليس منبعه بأن القناة محسوبة على تركيا وقطر، والدليل على ذلك بأن ليس لقناة التغيير أي مكاتب إعلامية في تلك الدولتين لكي تنسق مع مواقف تلك الحكومتين. فقناة التغيير العراقية تدرك أن الحيادية التامة في مجال الإعلام ضرب من الخيال لكن المهنية والمصداقية إحدى أبجدياته التي من الواجب الالتزام بهما. فالتغريد الملتزم مهنياً لقناة التغيير العراقية خارج السرب الإعلامي العربي والشرق الأوسطي غير المهني ما هو إلا درس للإلتزام بقواعد عمل السلطة الرابعة،في إعلام المنطقة.
وحدة الدراسات الإعلامية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية