قاسم العراق وإيران وجود أتباع الدِّيانة المندائية. أصبح القسم الأكبر داخل إيران بعد ضم الأحواز، وما حولها (1925)، فالبيئة متشابهة، ويفضل المندائيون الإقامة على شواطئ الأنهار، لحاجة طقوسهم للماء الحيّ. صبروا على إيذاء المحيط، خصوصاً المتشددين في الأزمان كافة، وتكفي الإشارة إلى فتوى محتسب بغداد الأصطخري (ت328ه)، بطلب مِن القاهر بالله (ت339ه): «أفتاه بقتلهم، لأنه تبين له أنهم يخالفون اليهود والنَّصارى. وأنهم يعبدون الكواكب، فعزم الخليفة على ذلك، حتى جمعوا بينهم مالاً كثيراً» (البغدادي، تاريخ مدينة السَّلام).
مع أن كتابهم يقول: «باسم الحيّ العظيم، أشرق نور الحيّ وتجلى… حطم ألوهية الكواكب، وأزال أسيادها من مواقعهم» (الكَنزاربا- اليمين). ومَن لم ينظر في ديانتهم يفتي ما يشاء فيهم بلا عِلم، وقد وقع العديد مِن الفقهاء في أخذهم بظاهر توجههم صوب القطب الشمالي في صلاتهم، وهنا يُوضح الإمام أبو حنيفة (ت150ه): «إنهم ليسوا بعبدة أوثان، وإنما يعظمون النُّجوم كما نعظم الكعبة» (الآلوسي، روح المعاني).
بعد الثَّورة الإيرانية لم يعترف بهم الدستور ولا الدوائر الرسمية، فأخذوا يعيشون حياة أشبه بالسِّرية في مناسباتهم، ويتحيّنون الفرص للهجرة مِن إيران، بالتوجه إلى أميركا وأستراليا، ومَن لم تطاوعه نفسه على ترك جذوره يضطر لإشهار إسلامه، كي يستريح مِن قسوة المعاملة. ولم يبق منهم سوى ألفين أو ثلاثة آلاف، وكانوا نحو (30) ألفاً. ومن عشائرهم التي لم يبق منها سوى القليل: آل زهرون، الجحيلية، الجيزانية، الدهيسية، والخميسية، عشائر ممتدة ومتداخلة الأنساب بين العراق وإيران.
لا يُوظف أبناء المندائيين، ولا يدخلون الجامعات، ففي استمارة القبول أربع خانات: مسلم، زرادشتي، يهودي، مسيحي. فإذا تجرأ أحدهم وسجل في إحدى الخانات، قد يواجه حدّ الرِدة (القتل)، ولهذا عندما يكمل المندائي الابتدائية والمتوسطة يخرج للعمل بحِرفة أبيه كالحدادة.
يشعرون بقلق على فتياتهم، ومنهنّ من يخطفن ويضطر الأهل للموافقة والسُّكوت، لأن خطف المندائية ليست عليه تبعات قانونية، وإذا أشهرت إسلامها تحت القوة تصبح محرمة على أهلها، وقد تُسأل الأم عن ابنتها المخطوفة فلا تفصح بغير أنها غرقت مثلاً، فليس هناك قانون يُنصف غير المشمولين في الدستور، حسب المادة (12): «الإيرانيون الزَّرادشت واليهود والمسيحيون هم وحدهم الأقليات المعترف بها». مع أنهم أهل الدِّيار الأُصلاء، وكيف الحال إذا كان المجتمع ضدهم أيضاً، ومعلوم أن «النَّاس على دين ملوكهم».
فبحكم الدستور والموقف الاجتماعي تتم طقوس الزواج والوفاة بالخفاء، لا وجود لمندي (معبد)، ولا نادٍ اجتماعي أو ثقافي خاص بهم. بينما في عهد الشَّاه كانوا يدرسون في الجامعات، ويتوظفون في الدَّوائر، ومنهم الضباط والأطباء، والقانون يحميهم أسوة ببقية الإيرانيين، أما الآن فلم يبق لهم سوى الحِدادة وحِرف يتعالى عليها الآخرون.
يرتبط هذا الموقف، مِن المندائية، برسالة الخميني «تحرير الوسيلة»: «تؤخذ الجزية مِن اليهود والنَّصارى مِن أهل الكتاب، وممِن لهم شبه كتاب، وهم المجوس… فلا يُقبل مِن غير الطَّوائف الثَّلاث إلا الإسلام أو القتل». أورد الخميني في أهل الكتاب ما يُطابق ما أورده ابن تيمية (ت728ه) فيهم (قابل أحكام أهل الذِّمة بين «تحرير الوسيلة» و«مسألة في الكنائس»).
قال الولي الفقيه خامنئي في رسالة «الصابئة حكمهم الشَّرعي وحقيقتهم الدِّينية» (1999): «إننا لا نعرف مِن المعارف والأحكام الدِّينية لهذه النَّحلة التَّاريخية، والتي أصبح المنتمون إليها موجودين بين أيدينا وفي عِقر بلادنا، شيئاً كثيراً تسكن النَّفس بملاحظته إلى معرفة أصحابها». وبالمحصلة فقد توصل إلى: «جملة عقائدهم التي يدعونها ويصرون عليها التَّوحيد». ومع هذا الاعتراف، لم يتغير شيء في معاملتهم. ذكر لي بعضهم أن رسالة خامنئي غدت حجةً بيد المندائيين يحتجون بها في طلب وظيفة أو غيرها، لكنها لم تخفف مِن معاناتهم.
كان هذا رأي الخميني فيهم، مع أن كبار فقهاء الإمامية يستقبلونهم، ولبعض شيوخهم صداقات مع أعيان النَّجف، كالسَّيد علي بحر العلوم (ت1960) والمندائي عنيسي، وعندما لامه البعض أجاب: «بيني وبين أَبي بشير صداقةٌ/ تبقى مدى الأيامِ والأحقابِ/ إني لأرجو الودَّ يبقى بيننا/كودادِ سيدنا الرَّضي والصَّابي». يقصد ما بين الشّريف الرَّضي (ت406ه) والكاتب الصَّابئي أبي هلال (ت384ه). وكان شيوخ المندائيين يزورون المرجع الخوئي (ت1992) بالكوفة (الخوئي، قبس من تفسير القرآن)، ما يؤكد الاعتراف بوجودهم وعلى دينهم، وليس كما تشدد ضدهم الخميني، ليكن له رأيه كفقيه، لكنه أصبح زعيم دولة عليه رعاية الجميع.
هنا تأتي الخشية مِن الدَّولة الدِّينية، فالمندائيون تحت عَلم «الجمهورية الإسلامية» في النَّزع الأخير، ما يتطلب مِن المنظمات الدَّولية حماية قوم ما زالوا ينطقون الآرامية، والسَّلام شعيرة مِن شعائرهم، ويعتقدون أن مِن أقطابهم نوحاً وساماً ويحيى.
رشيد الخيّون
نقلا عن جريدة الاتحاد