حجم ما تكشّف من بناء ضخم موال لفكرة الانقلاب في المؤسسة العسكرية والمؤسسات الأمنية، والإسناد القضائي الكبير لها؛ شكّل صدمة واسعة في داخل الدولة التركية وفي بناء حزب العدالة الحاكم، والقاعدة الشعبية الموالية للرئيس أردوغان.
وما تسرب أو أُعلن من خطط إعادة هيكلة الجيش التركي، ومعالجة الإرث القوي للدولة العميقة النافذة فيه -وهو الإرث الذي تم توارثه منذ انقلاب 1954، وإعدام أبرز زعماء الكفاح الديمقراطي في تركيا (عدنان مندريس) المنتمي للتيار الديمقراطي الليبرالي الوطني- يكفي لضرورة إعادة البناء العسكري لصالح الدولة المدنية أيا كانت قيادتها الديمقراطية المنتخبة، وليس لشخص الرئيس أردوغان وحسب، فهذا ما يمثل قوة للدولة واندماج سلطاتها، ويعزز نجاح التجربة الإسلامية في تركيا.
وهذا الأمر لا يقلل أبدا من دور الكاريزما الشخصية للرئيس أردوغان، في تحوله لأيقونة صمدت في أوج الأزمة، ووجد الشعب رمزا قويا يلتف عليه، وأخذت هذه الرمزية بعدها الشعبي الكبير في تركيا، وفي شعوب الشرق الإسلامي الذي عايش لحظة بلحظة عداء أوروبا للديمقراطية التركية، وعداء مشروع الحرب المضادة الذي أسقط ربيعه، لأن تركيا الديمقراطية تخلق وطنا شرقيا قويا في دستوره وشعبيته ومدنيته، ولأن قيادته ذات عمق إسلامي، يؤمن بهوية الشرق الكبير ورسالة نبيه (صلى الله عليه وسلم) الجامعة.
وهذا ما يبرر دعوة الرئيس أردوغان رغم قوة شخصيته وتأثيرها الجديد على الجيش لعدم مغادرة الميادين كليا والبقاء على حذر لضمان إجراء هذه التعديلات وسط زخم شعبي، يمنع أي حالة تفويج ضدها، ترى أن دمج الجيش تحت الإرادة الدستورية الشعبية يهددها.
وإن كانت هذه الدعوى تأتي عشوائية أحيانا، ولها قواعد شعبية كبيرة مؤيدة، لكنها بالجملة ستفقد زخمها وتبريرها مع التكرار، وهو ما يحتاج إلى تقنين لاستقرار الحياة المدنية اليومية للناس، وتجنب انزعاجهم من تطويل أجواء الأزمة.
ولعل الرئيس أردوغان في حواراته المتعددة مع الجزيرة وغيرها، أوضح أكثر من مسار لتعاطي حكومته مع ما بعد فشل الانقلاب، وهناك تركيز على شهداء الديمقراطية التركية مقابل الآلة العسكرية المتوحشة، وتبرير أخلاقي للإجراءات القانونية، كونها تحمي بقية الشعب والدولة من مصير مماثل عند أي انقلاب جديد، وتحمي المجتمع التركي من مصير الشعب المصري، ودرسه العميق.
والاستدعاء الثاني الذي يطرحه إعلام الدولة بوضوح في وسائلها والوسائط الحليفة، يتعلق بذاكرة انقلاب 1954 التي استخدمت الصحافة في حينها، وثبت توظيف الجيش لبعضها، لتبرير الانقلاب وإعدام رمز الديمقراطية التركية، وتربطه بما يواجهه الرئيس أردوغان بل وواجهه سابقا من بعض الحملات.
أما الجانب الآخر فهو التضخيم غير المسبوق في الإعلام الرسمي لجماعة فتح الله غولن (حركة الخدمة) التي تورط لوبيها السياسي في الانقلاب أو مقدماته قطعا، وبارك إسقاط أردوغان بأي وسيلة، كما أن الحركة تشعبت وهيمنت على مسارات تربوية واجتماعية.
وسنناقش هنا خطورة بعض هذا التعاطي على مستقبل تركيا العدالة، فالفكرة التي يروج لها إعلام العدالة، والقائمة على تبرير تجريم ومطاردة كل منتم إعلامي وتربوي لحركة الخدمة غير صحيحة مطلقا، وقد ترتد سلبا على حزب العدالة والرئيس أردوغان.
من المتفهم تماما تحييد الجيش عن تصويره كبؤرة معادية للشعب، وتعويض ذلك بالتركيز على حركة الخدمة، لكن ذلك يظلم قطاعا شعبيا واسعا مشتركا في القاعدة الاجتماعية الدينية مع قاعدة العدالة، فحتى ولو اختلفت مسالكهم المدرسية، فيبقى التصوف وحركة الإمام النورسي مرجعا ثقافيا لكتلة كبيرة من الجانبين، ويعرف ذلك كل قريب أو متابع للمشهد التركي.
وحتى خطابات الرئيس أردوغان كانت تؤكد أن أعضاء الحركة، وجهازها التربوي والاجتماعي الديني، هم إخواننا ولكن الصراع مع الكيان الموازي -حسب نص كلامه- والمقصود به كتلة رجال الأعمال والسياسيين المحيطين بفتح الله غولن، والذين ورطوه في صراع سياسي مرير.
غير أن هذا الخطاب غُيب تماما بعد الانقلاب، واستُبدل باستباحة إعلامية غير معقولة لكل منتم لحركة الخدمة؛ في حين أن أجواء صعود الحركة وتحالفاتها -بما في ذلك تحالفها مع حزب العدالة برغبة منه- معروفة للسياسيين والمهتمين، كما أن طبيعة شراكة لوبي الخدمة السياسي مع الانقلاب -التي ستتأكد بمحاكمة عادلة- معروفة خطورته.
ولكن ذلك الأمر لا يُبرر في العدالة الديمقراطية الحازمة ومعيار الشريعة العدلي المقدس، أن تُنتهك حرية أي بريء أو يسرح من وظيفته ويقطع رزق عائلته، أو تُتابع وتوقف شخصيات إعلامية وجهّت قديما انتقادات للحزب وأردوغان، سَمح بها الدستور والقانون التركي، والمعيار الديمقراطي، ولم يشارك صاحبها بأي جرم عسكري أو سياسي.
ولذلك فإن حكومة العدالة -كما شخصية الرئيس أردوغان- تحتاج لتعزيز معادلة التوازن من جديد، والخروج من عواصف الوجدان ونزوات الانفعال، إلى قواعد الحقوق التي لا تتعارض أبدا مع الوقاية القانونية للشعب وإرادته المدنية.
ولن تصمت رياح كراهية أوروبا عن النقد، فمشروعها ليس حماية الديمقراطية التركية بل هي مع نقضها، لكن الهدف حماية البناء الشعبي الذي ثبت واستقر بقوة ضد الانقلاب، وترسيخ الوحدة الوطنية، والتخفيف من ظاهرة تقديس الرئيس كشخصية، وإن بقيت له كاريزما مستحقة، هي في ذاتها من صالح الدولة القوية التي تحتاجها تركيا.
إن هذه التشققات في المجتمع التركي هي مسالك يمكن أن يُبنى عليه أي مشروع لإسقاط الجمهورية من جديد، عوضا عن فرصة وقايتها بدستور وطني وتوافق نسبي جامع، وإعادة الروح الإعلامية الحرة، ليس من خلال شبكات الدولة العميقة وأهدافها السياسية، ولكن من خلال النبض الديمقراطي الطبيعي لكل دولة راشدة، وذلك شرط لإنجاز هيكلة الجيش والقوات المسلحة بتوافق وطني وتحت الإرادة المدنية الدستورية.
فأجواء الصراع مع قواعد اجتماعية لانتمائها الفكري فقط، أو المواجهة مع المعارضة السياسية الحزبية والمستقلة بأدوات أمنية، دون أي استحقاق يقتضي التوقيف القانوني الشرعي، هو مقدمة مكن أن يغزل عليها مشروع فوضى “خلاقة” داخل تركيا.
كما أن حرب الغرب عبر استخدام مجموعة صالح مسلم، وحزب العمال كحرب استباقية تنهك الدولة التركية، لن تتوقف حتى ولو اعترفت بقوة العهد التركي الجديد وولاء المؤسسة العسكرية له، ولذلك فاستقرار الموقف الوطني الديمقراطي والتراضي الشعبي -وإن بقي التنافس- هو ترس حماية صلب للجمهورية وحزبها الحاكم.
كما أن التوجه من جديد لاختراق حصار المتطرفين الأكراد، إلى شخصيات وقاعدة اجتماعية كردية تؤمن بتجديد مشروع المصالحة، هو في حد ذاته انتصار لتركيا ما بعد الانقلاب، واستثمار للمشاعر الشعبية الجديدة لدى أناضوليّيها وكردها.
إن فكرة التلويح بالقوة المستقلة لتركيا، وزهدها في الاتحاد الأوربي، مع بقاء خيارات التوازن المرنة مع الغرب، معادلة جيدة جدا للعهد التركي الجديد، وهو ما يقتضي أن يُنظَر خلاله بحذر شديد لتنفيذ أحكام الإعدام، وألّا تزيد الأحكام عن الاستحقاق القانوني العدلي، ويُطلق الأبرياء ويُعفى عن المقصرين الفرعيين.
كما أن مباشرة ملف الفساد القوي الذي ظهرت آثاره في الاختراقات الأمنية الكبيرة أهم من تغيير قائد المخابرات الذي لم ولن يستطيع هو أو غيره إنجاز مهمته دون تحييد ملف الفساد المتزايد في البلد، ووضع إستراتيجية وطنية لمواجهته.
وحينما يتم كل ذلك ستكون تركيا أقوى من أي وقت مضى، في مواجهة أي انقلاب قد لا يكون بالضرورة عسكريا؛ ولكن قد تأتي المفاجأة من باب مدني استفاد من أخطاء الاستفزاز الشعبي.
مهنا الحبيل
الجزيرة نت