انتهى التنافس السعودي الإيراني في مجال النفط للفترة الحالية، بينما قد يستمر التنافس السعودي الروسي، خاصة في الأسواق الآسيوية، لشهور قادمة. ورغم كل ما قيل وكتب عن العوامل السياسية وراء التنافس بين السعودية وإيران من جهة، وبين السعودية وروسيا من جهة أخرى، تشير الأدلة إلى أن طبيعة التنافس بين النفط السعودي والنفط الروسي اقتصادية بحتة، ودور السياسة فيها ضئيل إن وجد.
وقبل الخوض في التفاصيل لا بد من ذكر أربع حقائق:
أولا: النفط والسياسة توأمان يصعب فصلهما، خاصة في المراحل المفصلية في تاريخ صناعة النفط العالمية.
ثانيا: هناك منطقة ضبابية بين العوامل الاقتصادية والسياسية تجعل من الصعب على كثير من الخبراء والمحللين الوصول إلى نتيجة حتمية فيما إذا كانت الأسباب اقتصادية أم سياسية وراء قرارات معينة، خاصة في ظل تكتم الحكومات حول سياساتها النفطية.
ثالثا: ميول المحللين والإعلاميين للإجابات الأكثر سهولة والأكثر قبولا ضمن عامة الناس ساعد في انتشار التفسيرات السياسية ونظريات المؤامرة، وطمس معلومات في غاية الأهمية ترجح الرأي المخالف. وتكمن خطورة هذا الأمر في احتمال تبني الحكومات والمستثمرين قرارات مبنية على هذا الرأي الخاطئ.
رابعا: أن السبب الأساس لرفض السعودية تخفيض الإنتاج في نهاية 2014 والسماح لأسعار النفط بالانخفاض كان اقتصاديا بحتا، لأن ثورة النفط والغاز الصخريين في الولايات المتحدة هددت كل الأهداف الاقتصادية الاستراتيجية للسعودية، ولكن هذا لا يلغي بعض الأهداف السياسية فيما بعد.
التنافس النفطي بين السعودية وإيران
ليس هناك أدلة مقنعة على أن قرار السعودية زيادة إنتاجها وتخفيض أسعار النفط كان سياسيا بحتا بهدف الضغط على إيران أو منع إيران من إيرادات مهمة، وكل ما هو متوافر هو أدلة ظرفية، خاصة أن فشل اجتماع الدوحة في أبريل/نيسان الماضي كان سببه إصرار السعودية على تخفيض إيران للإنتاج لموافقتها على الاتفاق، رغم أن كل الدلائل تشير إلى أنه لا حاجة لهذا الشرط لأن النفط الإيراني موجود في السوق رغم العقوبات الاقتصادية من جهة، ولأن الزيادة كانت ستأتي من النفط الأثقل والأكثر حموضة، بينما أغلب الفائض في الأسواق العالمية من النفط الخفيف والحلو.
ولعل أهم سؤال هو: هل زادت إيران إنتاجها فعلا؟ البيانات في هذا المجال تشير إلى نتائج مثيرة، وخير مرجع في هذا المجال هو تقارير منظمة أوبك التي تنشر نوعين من البيانات حول الإنتاج: بيانات كما تقدمها لها حكومات الدول الأعضاء، وبيانات كما تراها الشركات التي تراقب عمليات الإنتاج والشحن.
نظريا، من المفروض أن تكون البيانات التي تنشرها الشركات مقاربة لما تنشره الحكومات، خاصة فيما يتعلق باتجاه الإنتاج ارتفاعا أو انخفاضا، إلا أن الأمر في إيران يختلف، حيث إن الأرقام التي قدمتها الحكومة الإيرانية أعلى بكثير مما ذكرته الشركات، فأين ذهب الفرق؟ وبناء على هذه البيانات فإنه وفقا لبيانات الحكومة ارتفع إنتاج إيران بحوالي 300 ألف برميل يوميا بعد رفع العقوبات، بينما تشير بيانات الشركات إلى أن الزيادة بحدود 700 ألف برميل يوميا.
والإشكالية الكبيرة هنا في التفريق بين الصادرات والإنتاج، حيث يتضح أن إيران زادت صادراتها من النفط، ولكن هل زاد إنتاجها بكميات كبيرة؟
إن دراسة تفصيلية للبيانات تجعل الأمر أكثر إثارة مما ذكر سابقا للأسباب التالية:
أولا: في الوقت الذي أشارت فيه تقارير أوبك الشهرية أن بيانات الإنتاج التي قدمتها الحكومة الإيرانية أكبر مما رآه المتعاملون في السوق، فإنها أشارت إلى العكس في العراق، حيث إن الكميات القادمة على أنها نفط عراقي أكبر بكثير من الكميات التي ذكرتها الحكومة العراقية في تقارير أوبك. فهل كان جزء من النفط الإيراني يباع على أنه نفط عراقي، رغم اختلاف النوعية؟ البيانات تشير إلى أن الأمر كذلك.
ثانيا: الحظر الأوروبي والأميركي على صادرات إيران شمل كل صادراتها تقريبا، ولكنه تجاهل صادرات الكهرباء إلى الدول المجاورة والتي ازدادت كثيرا في السنوات الأخيرة. وتشير البيانات إلى زيادة توليد الكهرباء في العامين الأخيرين، وانخفاض نسبة الغاز الطبيعي المستخدم في توليد الكهرباء، كما تشير أيضا إلى انخفاض كبير تجاوز 70% في صادرات إيران من الكهرباء بعد رفع العقوبات، وهذا يعني أن إيران كانت تصدر النفط على شكل كهرباء أثناء فترة العقوبات ثم بدأت بتصديره خاما بعد رفع العقوبات.
ثالثا: خزنت إيران كميات كبيرة من النفط، وأغلبها من المكثفات، في حاملات النفط في المرافئ الإيرانية. وتختلف تقديرات المراقبين لهذه الكميات، ولكن أغلب التقديرات أن الكمية كانت بين 60 مليون و80 مليون برميل، ومن المنطقي أن تكون أول زيادة في صادرات إيران بعد رفع العقوبات من هذا المخزون، ومن المنطقي أيضا أن يؤدي تصدير هذا المخزون المختلف في كميته إلى الخلط بين الإنتاج والصادرات بحيث يعتقد البعض أن زيادة الصادرات تعني بالضرورة زيادة الإنتاج.
خلاصة القول: أن كمية الزيادة في إنتاج إيران بعد رفع العقوبات أقل بكثير مما يتم الحديث عنه، ووفقا للبيانات الحكومية المقدمة إلى أوبك فإن الزيادة الفعلية بحدود 300 ألف برميل فقط، ولكن البعض يشكك حتى في هذه الكمية، لأن بيانات إنتاج العراق بعد رفع الحظر عن إيران تشير إلى تغيير كبير في البيانات، حيث أصبح الإنتاج وفقا للبيانات الرسمية من الحكومة العراقية أكبر من الإنتاج حسب تقرير الشركات، فاين ذهب الفرق؟
هذا يعني أنه من المحتمل أن بعض النفط العراقي بيع بطريقة ما على أنه نفط إيراني. وإذا كانت هذه الخلاصة صحيحة، فإن لها انعكاسات على سياسة النفط السعودية سواء كان هدف تخفيض أسعار النفط سياسيا أو اقتصاديا.
التنافس النفطي بين السعودية وروسيا
الأدلة تشير إلى أن التنافس النفطي بين السعودية وروسيا هو تنافس اقتصادي بحت، بينما الأدلة على أنه مبني على عوامل سياسية ضعيفة، وهناك ما ينقضها. وقصة التنافس السعودي الروسي في مجال النفط لا تقل إثارة عن التنافس السعودي الإيراني.
بداية القصة تعود إلى سنوات مضت عندما اتخذت شركة أرامكو السعودية قرارا استراتيجيا بالتركيز على تصدير النفط الخام إلى الصين بسبب الزيادة المستمرة في استهلاك النفط هناك، والتركيز على تصدير المنتجات النفطية لعدد من الدول الآسيوية الأخرى.
وكانت القناعة العامة أن الحصة السوقية للسعودية في الدول الآسيوية في تزايد مستمر ولا يمكن لأحد أن ينافسها. إلا أن خسارة الجزائر وأنغولا ونيجيريا لحصتها السوقية في الولايات المتحدة بسبب ثورة النفط الصخري جعلها تنافس السعودية في أسواقها التقليدية، فبدأت السعودية تخسر جزءا من حصتها السوقية في هذه الدول. كما أن الزيادة في الصادرات العراقية إلى الصين كانت على حساب الحصة السعودية أيضا.
إلا أن الخطر الأكبر لم يكن من هذه الدول بل من روسيا، فبعد قيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم وتأييد الانفصاليين في شرق أوكرانيا، فرضت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي حظرا اقتصاديا على شركات النفط الروسية وكل الشركات الحكومية، الأمر الذي من شأنه تخفيض صادرات النفط الروسية.
إلا أن الصين أدركت أنه يمكن الاستفادة من الوضع بإقناع روسيا بتصدير النفط إليها، وهذا ما حصل، حيث تزايدت الصادرات النفطية الروسية إلى الصين بشكل كبير في العامين الماضيين، ما زاد من حصة روسيا على حساب حصة السعودية.
وشكل التصرف الروسي خطرا كبيرا على حصة أرامكو، لأن السوق الصينية جزء هام من استراتيجية أرامكو طويلة المدى، ودخول روسيا السوق الصيني ليس ظاهرة مؤقتة، بل فتّح عيون الروس والصينين على مزيد من التعاون في مجال النفط والغاز.
في الوقت نفسه بدأت روسيا بتصدير المنتجات النفطية إلى أسواق تعد جزءا أساسيا من استراتيجية أرامكو في المنتجات النفطية على المدى الطويل مثل الهند وإندونيسيا.
باختصار، التنافس السعودي الروسي في مجال النفط مصيري لأرامكو، لذا من الواضح أن التنافس السعودي الروسي اقتصادي وليس سياسا كما يدعى.
ظرة مستقبلية
بما أن المنافسة بين السعودية وإيران انتهت في هذه المرحلة، فإن المنافسة بين السعودية وروسيا في الأسواق الآسيوية عامة، والصين خاصة، ستلقي بظلالها على أسواق النفط وأسعاره.
ورغم أمل السعودية بارتفاع أسعار النفط، فإنها ترغب في ارتفاع هذه الأسعار دون أي خسارة للحصة السوقية، هذا يعني أن مستويات المخزون ستبقى عالية في الشهور القلية القادمة، وعليه لن تتحسن أسعار النفط عما هي عليه الآن، حسب المعطيات الحالية.
ونظرا لارتفاع إنتاج السعودية مؤخرا لمقابل الطلب المحلي المتزايد على النفط في قطاع الكهرباء في الصيف وبالتالي إبقاء صادراتها النفطية على مستوياتها السابقة، قد يزيد انتهاء فصل الصيف من صادرات السعودية في محاولة لاسترداد جزء من سوقها من روسيا، وقد يضعف هذا الأسعار في الربع الثالث وبداية الربع الرابع من هذا العام. لكن هناك من يشكك في أن الزيادة في إنتاج النفط مؤقتة ولا يمكن الاستمرار فيها لفترة طويلة من الزمن.
أما على المدى الطويل، فإن هدف روسيا زيادة الإنتاج بكميات بسيطة، إلا إذا ذاب الجليد في القطب الشمالي وفتحت روسيا حقولا جديدة، عندها ستزيد إنتاجها وستتمكن من شحنه عبر القطب إلى جميع أنحاء العالم.
وتشير البيانات الحالية إلى أن إنتاج إيران من النفط وصل إلى مستويات ما قبل فرض العقوبات، إلا أن انخفاض الإنتاج في الأشهر القادمة وارد لأسباب فنية بحتة، خاصة أن قرار زيادة الإنتاج والصادرات الإيرانية كانت سياسية أكثر منها اقتصادية.
ولكن ماذا عن خطة إيران رفع إنتاجها بحوالي مليوني برميل يوميا خلال السنوات القادمة؟ الواقع يشير إلى أن إيران بحاجة إلى استثمارات هائلة غير موجودة في إيران حاليا، كما أنها تحتاج إلى الخبرة التكنولوجية والإدارية لشركات النفط العالمية لتطوير حقولها, هذا يعني أن أي زيادة كبيرة في الإنتاج ستتطلب وقتا يقدر بالسنوات، وليس بالشهور.
ويجدر بالذكر أن الحقول الإيرانية الكبيرة هي أقدم الحقول في المنطقة وعمرها أكثر من مئة عام، وأغلب الحقول التي اكتشفت في السنوات الأخيرة هي حقول صغيرة نسبيا.
باختصار، أي زيادة في إنتاج إيران خلال العامين القادمين ستكون محدودة.
د.أنس بن فيصل الحجي
الجزيرة