نجحت الحكومات في كل من أوروبا والولايات المتحدة في تصوير الإنفاق الحكومي على أنه إهدار أسهم في تفاقم الأزمات الاقتصادية. وفرضت هذه الحكومات سياسات تشمل تخفيضات قاسية في موازنات “التقشف”، آملة في أن تحل هذه السياسات مشكلات الديون الحكومية المتفاقمة، وهي مشكلات تعتبر من تداعيات الأزمة المالية العالمية التي بدأت في العام 2008 ولم تنته بعد.
ويعني التقشف شدّا للأحزمة يبدأ بالحكومات وينتهي بالمواطنين، وفقا لرأي مؤيديه من الاقتصاديين. لكن مارك بليث، أستاذ علم الاقتصاد السياسي في معهد واتسون للشؤون الدولية، ينتقد في كتابه “التقشف: تاريخ فكرة خطرة” هذه السياسة، ويرى أن هؤلاء المؤيدين ينسون مصدر الديون التي تغرق الحكومات.
فالمصدر لم يكن يوما الإنفاق الحكومي المفرط، بل إنفاق الحكومات لمبالغ فلكية بهدف إنقاذ مؤسسات مالية تعثرت بسبب الأزمة المالية العالمية، والتي أسهمت هذه المؤسسات في إطلاقها وتأجيجها. وهكذا تحولت ديون القطاع الخاص إلى ديون للقطاع العام وبالتالي ديون على المكلفين أو دافعي الضرائب، فيما لم يتكلّف مسببو الأزمة والديون الحكومية شيئا.
ويسعى بليث، وفقا لما جاء في مقدمة كتابه الذي ترجمه للعربية اللبناني عبدالرحمن إياس، وصدر مؤخرا عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت، إلى المساعدة على ضمان ألا يكون المستقبل ملكا للأقلية صاحبة الامتيازات حاليا. ويروي كيف أن التقشف فكرة خاطئة.
سياسة التقشف طُبّقت بقوة استثنائية خلال الأزمة الأوروبية الحالية وأنتجت الفشل نفسه الذي يتوقعه المرء
ويلفت بليث إلى أن ما يزعجه هو أن “التقشف لن يكون منصفا للجيل الحالي من العمال الذين ينقذون المصرفيين، فالحراك المجتمعي الذي سلّمت به مجتمعات مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة بين خمسينات القرن العشرين وثمانيناته والذي جعلني وكثيرين مثلي قابلين للوجود، دخل في الواقع في فترة جمود، فبطالة الشباب عبر العالم المتقدم بلغت في حالات كثيرة مستويات قياسية، وفاقمت سياسات التقشف هذه المشاكل، فتقليص الدولة للرفاه باسم إنتاج المزيد من النمو والفرص، هو خرافة مهينة”. وطبّقت سياسة التقشف بقوة استثنائية خلال الأزمة الأوروبية الحالية وأنتجت الفشل نفسه الذي يتوقعه المرء إذا تقصى التاريخ الفكري والطبيعي السابق للتقشف.
ويتساءل بليث كيف وصلنا إلى هذه الفوضى مرة أخرى؟ ويوضح “بمعنى ما إذا تركنا وراءنا أمّ الاتجار بالخطر المعنوي التي كانت مولدة للجانب الأوروبي من الأزمة، كانت شرارة هذا كله حالة كلاسيكية من النوايا الحسنة التي ساءت، ففي حين كان النظام المالي في الولايات المتحدة حالة تنتظر الحدوث، تمثل الأمر الذي دفعنا إلى أسفل المسار المعين الذي نجد أنفسنا عالقين فيه الآن بقرار إنقاذ البنوك، بدءا من برنامج إغاثة الأصول المعسرة في 2008”.
ويقدم بليث السبب الذي جعل الحكومات وخصوصا حكومة الولايات المتحدة تفعل ذلك بقوله “150 مليون ونيفا من العمال، و72 بالمئة يعيشون على رواتبهم فقط، و70 مليون قطعة سلاح، ولا مبالغ نقدية في أجهزة البنك الآلي. ففي 2008 اعتقدت شخصيا أن إنقاذ البنوك هو الشيء الصحيح الذي ينبغي فعله، لقد فكرت “لم يكن هناك بديل” لكن كما هي الحال منطق غياب البديل، ثمة بدائل دائما، وعندما ننظر الآن في تكاليف هذا القرار، أنا لم أعد متأكدا من أنه كان الشيء الصحيح الذي ينبغي فعله”.
ويلفت بليث إلى التكاليف المباشرة للأزمة، مؤكدا أنه “ربما كان يجب علينا السماح بإفلاس البنوك، نعم تقول الأخطار النظامية خلاف ذلك، لكن إذا كان البديل لا ينتج سوى 10 سنوات أو أكثر من التقشف، فنحن حقا بحاجة إلى إعادة التفكير في ما إذا كانت تكاليف تفاقم الأخطار النظامية أسوأ من التقشف الذي لدينا أصلا الآن، ولا نزال نضع أنفسنا فيه. لقد أدى الإنقاذ إلى دين وأدى الدين إلى أزمة وأدت الأزمة إلى التقشف. ربما كان بإمكاننا تجنّب هذا المسلسل حيث توجد لحظات اختيار”.
محمد الحمامصي
صحيفة العرب اللندنية