يبدو أن الاتحاد الأوروبي تنفرط حباته الواحدة تلو الأخرى، فبعد استفتاء بريطانيا في 23 يونيو/حزيران الذي أدى إلى خروجها من الاتحاد، تتجه إيطاليا لسلوك الطريق ذاته، والسبب هو تعثرها الاقتصادي، وفشل السياسات النقدية الأوروبية في ضمان رفاهها وازدهارها. ذلك أن إيطاليا لم تشهد فعلياً أي نمو في الإنتاجية منذ انضمامها لمنطقة اليورو عام 1999، وفقدت منذ عام 2011 أكثر من 10% من قوتها الاقتصادية، وتراجع إنتاجها الصناعي بمقدار 25%، وصعدت معدلات البطالة فيها إلى 13% بين عموم السكان، وبلغت ديونها حسب آخر تقديرات لبنكها المركزي 2.685 تريليون يورو، وهو ما يعادل 133% من ناتجها الإجمالي. وفقد الإيطاليون ثقتهم بالاتحاد الأوروبي، وبحسب شركة إيبسوس لاستطلاعات الرأي، فإن نسبة الإيطاليين الذين يعربون عن ثقتهم بالاتحاد الأوروبي تراجعت من 73 في المئة في عام 2010 إلى 40 في المئة في يناير/كانون الثاني 2016.
ومسألة عدم الارتياح للبقاء ضمن الاتحاد الأوروبي تعد قضية ذات نطاق واسع، لا تختلف في المناطق الشمالية الثرية عنها في المناطق الجنوبية الفقيرة، وكذلك تسود بين قطاع كبير من الشباب كما هي بين كبار السن. ووفقاً لاستطلاع جرى أخيراً من قبل «ديموس»، وصلت حالة عدم الرضا إلى مستويات أعلى بين المواطنين في إيطاليا عن نظيراتها في الدول الأعضاء الكبيرة الأخرى، بما فيها فرنسا وإسبانيا وألمانيا.
واللافت للنظر، أن الاستطلاع وجد أن أغلبية الإيطاليين يدعمون فكرة استعادة الضوابط الحدودية في منطقة «شنجن» التي تتم الحركة فيها دون جوازات سفر. وعلى وقع التراجع الاقتصادي وانعدام أفق الحل، تولى ماثو رينزي، رئاسة الوزراء في إيطاليا، وتعهد بتنفيذ خطة إصلاحات وصفها بالصادمة تهدف إلى خلق 200 ألف وظيفة جديدة لمن تقل أعمارهم عن 30 عاماً، ومدة الوظيفة أربعة أشهر، وفرض ضريبة على الشركات لتوفير مليار يورو للخزينة العامة، وزيادة الضرائب على الأنشطة المالية، وتجديد وتطوير المدارس، ومكافحة البيروقراطية الناشئة عن تضخم جهاز الدولة. وما إن تم الإعلان عن هذه الخطة حتى تظاهر مئات الآلاف من الأشخاص في روما للتنديد بها ورفضها. وقد فاقم تعثر تنفيذ هذه الإصلاحات، من الوضع الاقتصادي المتردي لإيطاليا، فالنظام المصرفي الإيطالي أصبح في ورطة حقيقية بعد وصول القروض المتعثرة إلى 360 مليار يورو، وتسعى الحكومة إلى تبني خطة إنقاذ عاجلة لبنوكها المتعثرة بسبب تراكم الديون. وخطة الإنقاذ هذه ستبلغ نحو 5 مليارات يورو مبدئياً. وأولى الخطوات تتمثل في تشكيل نوع من الاتحاد بين البنوك التي لا تعاني أزمات كبيرة من جهة، والبنوك المتعثرة من جهة أخرى، بحيث تقوم هذه البنوك بدعم بعضها بعضاً. ويبقى التحدي الأكبر الذي يواجه تحقيق هذا المقترح، هو عدم شفافية البنوك الإيطالية من جهة، وضعف الرقابة المفروضة عليها داخلياً من جهة أخرى، وأيضاً تمثل التعقيدات الإجرائية على المؤسسات المالية الصغيرة في إيطاليا عائقاً كبيراً أمام توحيد توجهات البنوك واندماجها ودعم بعضها بعضاً، علاوة على أن الحكومة الإيطالية المثقلة أصلاً بالديون لا تمتلك قدرات مالية قوية، أو حرية كبيرة في سياساتها المالية والمصرفية بموجب الأحكام والقوانين التي يفرضها الاتحاد الأوروبي، فالقوانين الأوروبية تمنع مساعدة الدولة للمصارف ورسملتها.
وتعتبر أزمة القطاع المصرفي الإيطالي الأكبر في منطقة اليورو، بل إن أرقامها تخطت ما وصلت إليه الأزمة اليونانية. وفي ظل تخبط الحكومة تجاه تلك الأزمة الاقتصادية المستفحلة، ألقى رئيس الوزراء رينزي بجزء كبير من المسؤولية في ذلك على النظام الدستوري الإيطالي، واقترح خطة لإصلاح ذلك النظام، وتعزز هذه الخطة من الصلاحيات الرئيسية للسلطة التنفيذية على حساب السلطة التشريعية، وتتضمن إلغاء مجلس الشيوخ تقريباً ككيان منتخب، والحد بشدة من قدرته على نقض التشريعات، وأيضاً تقليص الصلاحيات الممنوحة للأقاليم. وأعلن رينزي أنه سيقدم استقالته في حال الفشل باعتماد الإصلاحات، عقب الموافقة النهائية عليها في البرلمان، وعند طرحها للتصويت في استفتاء لم يحدَّد موعد له حتى الآن، لكن من المتوقع أن يجرى في أكتوبر/تشرين الأول المقبل. وتشير أحدث استطلاعات للرأي إلى أن الناخبين سيرفضون اقتراحه الخاص بتبسيط النظام البرلماني، وتجريد المناطق الإيطالية من بعض صلاحياتها في اتخاذ القرارات. وفي حال رفض الناخبون تنفيذ الإصلاح، فإن ذلك سيؤدي إلى استقالة الحكومة، وبالتالي زيادة الأزمة الاقتصادية المستفحلة أساساً. والواقع أن الاستفتاء على الإصلاحات الدستورية هو استفتاء على البقاء في الاتحاد الأوروبي من عدمه، فهدف رينزي من وراء ذلك الإصلاح هو، مواءمة النظام السياسي في إيطاليا، ليكون أكثر قدرة على التعامل مع أزمة الديون، وبالتالي تحقيق مطالب الاتحاد الأوروبي، وإذا فشل في مهمته تلك، فإن ذلك يعني فصم العرى بين إيطاليا وأوروبا، أي أن إيطاليا ستكون ثاني دولة، بعد بريطانيا، ستخرج من الوحدة الأوروبية.
أغلبية الإيطاليين يدعمون استعادة الضوابط الحدودية في منطقة «شنجن» التي تتم الحركة فيها دون جوازات سفر.
محمد خليفة