على عكس ما كان يرتجى أن يكون حلا توافقيا لإنقاذ اليمن من هاوية السقوط في المجهول، تحول الرئيس عبد ربه منصور هادي ليكون جزءا رئيسيا من كل هذا التدهور المريع الذي تمر به بلاد بات من الواضح أنها تنزلق سريعا نحو ما هو أكثر خطرا من المجهول ذاته.
لقد ظل هادي زهاء عقدين إلا بضع سنوات (أكتوبر/تشرين الثاني 1994- فبراير/شباط 2012) نائبا شكليا لرئيس البلاد بسبب ظروف سيسيولوجية، حتى جاءت ظروف استثنائية أخرى خلقتها ثورة فبراير/شباط 2011 الشعبية السلمية، لتمكنه من اعتلاء المنصب الأول في البلاد.
ورغم كونه أزيح طوال تلك الفترة بعيدا عن أضواء السياسة الفاتنة، فإنه كان من السابق لأوانه اكتشاف عقدة جنرال قديم ومعتق ظل طوال 18 شتاء معزولا في الظل. بيد أن ثلاث سنوات أو أقل بقليل كانت أكثر من كافية لانكشاف حقيقة كهلٍ غُيب طويلا عن الفعل السياسي، بحيث لم يعد يمتلك سوى موهبة البقاء في الظل على الدوام. وتلك حقيقة عجز عن مواراتها طويلا في خضم طموحات ثورية متعاظمة.
وفي نهاية المطاف، كان الرجل الضعيف ليس فقط عاجزا عن القيام ولو بجزء من مهمة الإنقاذ التي اختير لأجلها، بل إن سياساته التقلبية أدت إلى مفاقمة الحالة أكثر مما كانت عليه إبان توليه السلطة قبل سنتين ونيف.
مقدمات وإرهاصات
حين انتخِب هادي مرشحا توافقيا وحيدا لرئاسة اليمن في 23 فبراير/شباط 2012، لم يكن الأمر يستوجب منه أكثر من تنفيذ خريطة الطريق المرسومة له عبر “المبادرة الخليجية” في ظرف عامين فقط.
وعلى ما اتضح حينها، لم يحظ رئيس عربي -في دول الربيع العربي- بدعم شعبي توافقي (مسنود بدعم وتأييد المجتمعين العربي والدولي) مثل الذي ناله الرئيس هادي.
“لم تدبّ الخلافات بين هادي وصالح إلا بعد أن بدأ الرئيس في عملية إعادة هيكلة الجيش. ذلك أن صالح نظر إلى قرارات الهيكلة باعتبارها محاولة لإقصائه ونجله وأفراد عائلته من الجيش، ناهيك عن أنها عززت شكوكه في تشكل حلف جديد على أنقاضه بين الرئيس هادي واللواء علي محسن الأحمر”
وهو الدعم الذي لم يتخلف عنه سوى قوتين سياسيتين كانتا ما زالتا تشكلان قضيتين رئيسيتين حيويتين توزعتا طرفي البلاد: الأولى تمثلت في قوى الحراك الجنوبي المطالب بالانفصال، والأخرى في حركة الحوثي المتمردة في شمال البلاد.
ولعل من مفارقات القدر أن تكون تلكم القوتان -من بين كافة القوى الأخرى تقريبا- هما اللتان رفضتا المشاركة في حفلة انتخابات محسومة سلفا تمنحه شرعية سلطة إدارة البلاد.
في بداية حكمه، بدا هادي وكأنه عزم فعلا على تجسيد حالة التوافق الشعبي باعتباره رئيسا محايدا يمثل كافة القوى والأطراف السياسية المنقسمة والمتصارعة. حينها لم يكن بينه وبين حزبه (المؤتمر الشعبي العام) أية خلافات سياسية أو إدارية. حيث كان يتبوأ موقعين قياديين في حزبه: النائب الأول لرئيس الحزب (كان صالح قد تمسك برئاسة الحزب عقب إسقاطه من السلطة)؛ والأمين العام للحزب.
ولذلك، ربما كان صالح ما زال ينظر إلى هادي باعتباره من داخل البيت، ومن المرجح أنه قرر التعامل معه على ذلك النحو كورقة رابحة يمكنه عبرها الاحتفاظ بقوته ونفوذه في السلطة والحزب.
جذر تحولات الرئيس
لم تدبّ الخلافات بين هادي وصالح إلا بعد أن بدأ الرئيس في عملية إعادة هيكلة الجيش. ذلك أن صالح نظر إلى قرارات الهيكلة باعتبارها محاولة لإقصائه ونجله وأفراد عائلته من الجيش، ناهيك عن أنها عززت شكوكه في تشكل حلف جديد على أنقاضه بين الرئيس هادي واللواء علي محسن الأحمر، حليف صالح السابق الذي تحول إلى عدوه اللدود إبان انشقاقه عن نظامه لمصلحة الثورة الشعبية.
وفي الواقع، كان هادي حينها قد راودته واستهوته فكرة التخلص من حليفه السابق، الذي رفض التوقف عن ممارسة العمل السياسي والتنازل له عن رئاسة الحزب. وربما نظر هادي إلى الأمر كإهانة له، حيث كان يطلق على صالح صفة “رئيس الرئيس”.
وكان صالح قد بدأ يفرض سطوته على هادي في إطار الحزب عبر قياداته الموالية، وتجاوزت تدخلاته ذلك لتشمل طريقة إدارة هادي للبلاد، وهو ما سبب للرئيس حرجا أمام الشعب والأطراف السياسية الأخرى، وربما بعض قوى المجتمع الدولي.
ولعل رغبة الرئيس هادي في التخلص من تلك الازدواجية المحرجة حدت بالطرفين إلى تبني ردة فعل طبيعية، أفضت بالضرورة إلى توتر العلاقات بينهما ليدخلا في أتون خلافات ثنائية شديدة امتدت تدريجيا لتصل عمق الحزب، الذي انقسم إلى تيارين متصارعين على المصالح بين تابع لصالح وآخر لهادي.
وربما سيكون من المجازفة هنا القول إن ذلك مثــّل “الخطأ الإستراتيجي الأول” الذي وقع فيه هادي، لتتراكم بعده الأخطاء السياسية والتكتيكية التي أوصلت البلاد إلى الحالة غير الطبيعية واللا مستقرة الراهنة.
مآلات التحول الرئاسي الأول
مع أني أدرك أن هذا الاستنتاج لن يروق لكثيرين، إلا أنني أستطيع -وإن إلى حد ما- المجادلة به استنادا إلى ثلاث حقائق -أو بالأحرى مسارات- متواترة ومتراكبة، أفضت إليها وساقتها الأحداث الأخيرة.
– المسار أو الحقيقة الأولى: أن الرئيس هادي اضطر لخوض صراعه الداخلي ذاك باللجوء إلى قوة أخرى من خارج حزبه للتحالف معها. مع أن الأمر كان سيختلف لو أنه واصل صراعه عبر محاولة تعزيز وتقوية تحالفاته الداخلية في الحزب.
لكن هادي تحالف مع قوى الثورة ممثلة في أحزاب “اللقاء المشترك”. ومع أن أمرا كهذا قد يبعث على الانشراح والتأييد لكونه يتفق مع مسار ثورة التغيير الشعبية، إلا أن النظرة التحليلية المتعمقة تكشف لنا أن ذلك التكتيك شكل انحرافا واضحا لجدية أن يمثل الرئيس حلا توافقيا جذريا لكافة القضايا المعلقة والمضطربة.
“يجدر بنا الاعتراف بأن تحول الرئيس هادي إلى تحالفه الجديد انتهى تدريجيا إلى تمتين تحالفه مع حزب الإصلاح (الإسلامي)، ربما باعتباره الحزب الأكثر قوة وتأثيرا وموثوقية، وربما لأهداف أخرى كتلك التي تكشفت مؤخرا، وانتهت إلى عزل الإصلاح من بين كافة قوى الثورة ”
لقد كان يفترض في هادي الحفاظ على مسافة متساوية من الأطراف الرئيسية المتصارعة، إلا أن ذلك الانحراف الواضح عن تلك المهمة أكد لنا اليوم أن الكوارث بدأت في التوالي تباعا من تلك النقطة.
– المسار أو الحقيقة الثانية: وهي لا تنفصل في السياق عن سابقتها؛ ذلك أن هذا التحالف التكتيكي أفضى -للأسف الشديد- إلى أمرين متداخلين، الأول: تعزيز فكرة استهداف هادي لحزبه لمصلحة تقوية خصومه التاريخيين. وقد ساعد ذلك على تمتين التعاضد الداخلي لتيار صالح داخل الحزب في مقابل إضعاف موقف هادي وتياره.
أما الأمر الآخر، فتمثل في إبراز أحزاب “اللقاء المشترك” كقوة حاكمة للبلاد من وراء الرئيس هادي. مما ألقى عليها مسؤولية كل ما يحدث من تدهور متواصل.
بل أكثر من ذلك، يجدر بنا الاعتراف بأن تحول الرئيس هادي إلى تحالفه الجديد انتهى تدريجيا إلى تمتين تحالفه مع حزب الإصلاح (الإسلامي)، ربما باعتباره الحزب الأكثر قوة وتأثيرا وموثوقية، وربما لأهداف أخرى كتلك التي تكشفت مؤخرا، وانتهت إلى عزل الإصلاح من بين كافة قوى الثورة الشعبية، ليتسنى لاحقا تحميله كافة التبعات والمسؤوليات، وبالتالي تلقيه وحده الضربة القاضية.
– المسار أو الحقيقة الثالثة: هي أيضا إحدى النتائج السلبية الناجمة عن تكتيكات الرئيس المدمرة. ذلك أن الرئيس السابق، حين شعر برغبة خلفه في الانقلاب عليه وعلى تياره داخل الحزب، لجأ تكتيكيا إلى التحالف مع جماعة الحوثي المسلحة، أي الطرف الذي كان -وإلى وقت قريب- يعد أحد أعدائه السياسيين.
وبغض النظر عن وجود مؤشرات عملية تدحض فكرة كون مثل هذا العداء حقيقيا أم لا، إلا أن التحالف الذي بدا عليه الطرفان، شكل قوة مكافئة -وربما أكبر- ضد تحالف الرئيس هادي مع الإصلاح وعلي محسن.
وقد يمكن القول إن استفادة صالح من هذا التحالف لم تكن بأقل من استفادة حركة الحوثي نفسها. إذ إن صالح لم ينجح فقط في إفشال مخططات هادي، بل وأيضا حقق أكثر من الانتقام الذي كان يحلم به ضد خصومه الرئيسيين الذين أسقطوه بالثورة الشعبية: أولاد بيت الأحمر، وعلي محسن، وحزب الإصلاح.
أما بالنسبة لجماعة الحوثي المسلحة -والتي كانت مع انطلاق ثورة فبراير/شباط 2011 لا تزال مجرد تهديد بسيط لا يرقى إلى الفعل المخيف والمؤثر- فقد حصلت هي الأخرى على أكثر مما كانت تخطط له لسنوات طويلة.
فإلى جانب حصولها على معدات الحرس الجمهوري المنهوبة من صالح وعائلته إبان قرارات هيكلة الجيش، فقد حصلت أيضا -عبر صالح نفسه- على دعم وولاء قبائل حاشد القوية التي اعتبرت من أذرع قوة بيت الأحمر، عوضا عن أن الجماعة -في نهاية المطاف- انتهت بالسيطرة على الدولة بشكل شبه كامل، وأصبحت ميدانيا هي القوة الكبرى والأكثر تأثيرا في البلاد.
التحول الانقلابي الثاني
في الواقع، شكلت تلك الطريقة التكتيكية الفاشلة البدايةَ الفعلية لسياسات هادي التقلبية، والتي رسمت بعد ذلك بقية سلوكه الانقلابي طوال فترة حكمه الماضية، وصولا إلى انقلابه الراهن على السلطة التي يفترض أنه يمتلكها، بينما هو لم يعد عمليا أكثر من مجرد آلة ساكنة لا تتحرك إلا بحسب الطلب، وفقط لتدمير ما تبقى من معنى للدولة والسلطة والقانون، مقابل فرز وتضخيم وتعزيز سلطات وقوة المليشيا.
“لقد بات من شبه المؤكد -من خلال المواقف الأخيرة بشكل خاص- أن هادي قرر عقد صفقة تحالفية تكتيكية جديدة مع جماعة الحوثي، إذ من شأن رئيس منهار مثله الاعتماد فقط على سياسة الانقلاب على من يعتقد أنهم باتوا الحلقة الأضعف في المعادلة والتحالف مع من أصبحوا هم الأقوى”
ولما كان جذر التحول الانقلابي الأساس قد أفضى إلى فشل ذريع في مواجهة ما كان يعتقد أنه الخصم المختلق له مع بدايات حكمه، فقد انسحب الأمر تباعا على الرئيس هادي في شكل سلوك وسياسة بسطت وسهلت له عملية الانقلاب التالي على حليفه الجديد، المتمثل في حزب الإصلاح.
إذ بمجرد شعوره بدنو الخطر منه بسبب انقلابه الأول -عبر استياءات معلنة وغير معلنة بلغته بشكل مباشر وغير مباشر من الحلفاء والداعمين الإقليميين والغربين، على أساس اعتقادهم بتمكين حليفه المفترض (الإصلاح) من القوة والسلطة، في وقت كانت فيه المتغيرات والتداعيات الإقليمية على أشدها- سارع هادي بكل برودة إلى تنفيذ انقلابه التالي وبدون أدنى أسف.
وبذلك تخلى عن حليفه الجديد (الإصلاح) لمصلحة القوة الصاعدة (الحوثيين) المسكوت عنها، بل وربما -على الأرجح- المدعومة من الحلفاء الإقليميين والدوليين، ضمن صفقة كبيرة من الواضح أنها لم تكن تقتصر على حدود المربع المحلي، بل تجاوزتها إلى المحيطين الإقليمي والدولي.
لم تكن تحولات الرئيس الضعيف قد توقفت عند ذلك الحد، بل واصل هادي انقلاباته التكتيكية المدمرة. وحين خرجت الأمور عن السيطرة المتوقعة، واصل الرئيس هادي غواياته الانقلابية تلك لتشمل هذه المرة داعميه الإقليميين من دول الخليج، ردا على قراراتهم بوقف الدعم عنه.
وبهذا الخصوص، يُعتقد أن هادي أحدث مؤخرا انقلابا على تحالفاته الخليجية، وعلى رأسها المملكة السعودية، وذلك حين بدا وكأنه قرر الارتماء في أحضان إيران نتيجة نجاحات حققها الوسيط العُماني.
لقد بات من شبه المؤكد -من خلال المواقف الأخيرة بشكل خاص- أن هادي قرر عقد صفقة تحالفية تكتيكية جديدة مع جماعة الحوثي، إذ من شأن رئيس منهار مثله الاعتماد فقط على سياسة الانقلاب على من يعتقد أنهم باتوا الحلقة الأضعف في المعادلة، في مقابل نسج تحالفات جديدة مع من يعتقد أنهم الطرف الأقوى والأكثر سيطرة وهيمنة وتأثيرا في هذه اللحظة فقط.
ويتردد حاليا أن هذا التحالف التكتيكي الجديد يستهدف منه طرفاه تحقيق غايتين متداخلتين ومزدوجتين لكل منهما.
فبالنسبة للرئيس هادي، يُعتقد أنه ما زال يسعى نحو تحقيق فكرة القضاء على خصمه اللدود صالح، عبر سحب البساط من تحته بتحالفه مع الحوثي، بينما يضع في حساباته تحقيق مسألة تقسيم البلاد إلى إقليمين فقط (شمالي وجنوبي)، بحيث يتسلم هو -أو أنصاره- الشطر الجنوبي.
وفي المقابل، يستحوذ حلفاؤه الجدد (الحوثيون) على الشطر الشمالي الخاضع عمليا لسيطرتهم، ومن ثم يتسنى لهم القضاء على عدوهم الأقوى المفترض مستقبلا: صالح وحزبه وقواته العسكرية الموالية له.
عبد الحكيم هلال
المصدر : الجزيرة
http://goo.gl/HghPZt