يبدو أن محاولة الانقلاب الأخيرة في تركيا سوف تفرض تداعيات مباشرة على العلاقة بين حكومة حزب العدالة والتنمية والأكراد. فرغم أن القوى السياسية الكردية حرصت على رفض الانقلاب، إلا أنها في الوقت نفسه دعت الحكومة إلى الحرص على العملية الديمقراطية، في إشارة إلى أنها لم تستبعد من البداية احتمالات اتجاه الرئيس رجب طيب أردوغان إلى استغلال الانقلاب في تعزيز سلطاته على الساحة السياسية وفرض مزيد من الضغوط على خصومه السياسيين، بشكل يمكن أن يقوض من فرص الوصول إلى تسوية محتملة للقضية الكردية ويؤدي إلى استمرار الصدام والتصعيد بين الطرفين، وهو ما يوحي في النهاية بأن التوتر والصراع سوف يكون هو السمة الرئيسية للعلاقة بين الحكومة والأكراد خلال المرحلة القادمة.
ملامح رئيسية:
وقد برزت مؤشرات عديدة تزيد من احتمالات تصعيد حدة التوتر في العلاقة بين الطرفين تتمثل في:
1- استغلال الأزمة: سارع حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، الذي يمثل أحد أبرز أحزاب المعارضة في البرلمان، إلى رفض الانقلاب العسكري، مشددًا على أهمية الديمقراطية وعلى الحاجة إلى الوصول لـ”اتفاق ديمقراطي” للسلام فيما يتعلق بالقضية الكردية، بما يعني أنه اعتبر ما حدث بمثابة مؤشر ضعف للسلطة قد يفرض عليها إعادة النظر في سياساتها تجاه القضية الكردية، وهو ما دفعه لاحقًا إلى عدم التسرع في تأييد موقف السلطة أو إجراءاتها اللاحقة عقب فشل الانقلاب، بشكل أثار استياء الحكومة التي وجهت انتقادات لمواقف القوى الكردية تجاه التطورات الداخلية الأخيرة.
2- تبادل الاتهامات وحرب البيانات: تصاعدت حدة الحملات المتبادلة بين بعض القوى الكردية والمسئولين الأتراك، حيث وجهت منظومة المجتمع الكردي اتهامات للرئيس أردوغان بأنه “أخرج مسرحية الانقلاب لتصفية خصومه”، وهو ما دفع رئيس الوزراء بن علي يلدرم إلى اتهام بعض عناصر حزب العمال الكردستاني بالمشاركة في الانقلاب، والانحياز إلى جماعة المعارض الإسلامي فتح الله جولن، معتبرًا أن “توقف عمليات الحزب قُبيل تحرك الانقلابيين بليلة يدل على علمهم بساعة الصفر”.
3- سرعة الصدام السياسي والعسكري: وجه الرئيس أردوغان إشارات عديدة إلى أنه سوف يتبنى سياسة متشددة في التعامل مع الأكراد، على غرار حرصه على استبعاد رئيس حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دمرتاش من أول لقاء عقده مع رؤساء أحزاب المعارضة، وفي مقدمتهم رئيسا حزبى الشعب الجمهوري والعمل القومي في 25 يوليو 2016، أى بعد أسبوع على الانقلاب تقريبًا، بالتوازي مع توجيه ضربات سريعة من جانب قوات تابعة للجيش لمواقع حزب العمال الكردستاني في شمال العراق استهدفت 20 من مقاتليه، ردًا على العملية التي قام بها الحزب واستهدف من خلالها أحد أقسام الشرطة.
محددات عديدة:
لكن ثمة محددات عديدة سوف تؤثر على مسار العلاقة بين الطرفين خلال المرحلة القادمة، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- تداعيات عملية إعادة هيكلة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية: إذ يرجح أن يتجه أردوغان نحو الاعتماد على المؤسستين الأمنية والعسكرية في التعامل مع الأكراد، لا سيما بعد الإجراءات الأخيرة التي تم اتخاذها لإعادة هيكلة المؤسستين بعد إقالة واعتقال عدد كبير من القيادات والضباط عقب محاولة الانقلاب.
2- تكتل الخصوم: ربما تؤدي الإجراءات التي اتخذتها الحكومة إلى تقوية جبهة الخصوم السياسيين للرئيس أردوغان، خاصة في ظل حرص بعض المؤيدين للأخير على الإشارة لوجود حالة من التوافق المحتمل بين الأكراد وجماعة فتح الله جولن وقادة الانقلاب الأخير، بشكل يزيد من احتمالات تصعيد حدة الصراع بين تلك الأطراف خلال الفترة القادمة.
3- التطورات الطارئة على الساحة الإقليمية: بدأت التطورات الإقليمية التي تشهدها العراق وسوريا تفرض تداعيات مباشرة على مستقبل العلاقة بين الطرفين، حيث تتزايد مؤشرات اقتراب معركة الموصل في العراق ومنبج في سوريا لتحريرهما من تنظيم “داعش”. لكن يبدو أن تركيا لن تساهم بدور بارز في هذه العمليات، وحتى لو كانت هناك مشاركة فربما تكون رمزية، خاصة أن قاعدة “إنجرليك” التركية ليست هى القاعدة الأساسية التي سيستخدمها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في عملية الموصل، حيث جرى تجهيز قاعدة القيارة جنوب الموصل للقيام بالمهام الأساسية في المعركة.
لكن في مقابل ذلك، فإن ثمة متغيرًا آخر قد يساعد في توسيع هامش المناورة المتاح أمام أنقرة، ويتمثل في تصاعد حدة الخلاف بين قوات البشمركة الكردية التي مارست دورًا رئيسيًا في الحرب ضد “داعش”، وبين الحكومة العراقية، بعد أن وضعت الأولى شروطًا لم تقبل بها الأخيرة، وهو ما يمكن أن يعزز من فرص أنقرة في ممارسة دور الوسيط في ظل علاقاتها القوية مع إقليم كردستان العراق.
أما معركة منبج فستعتمد على موقف أردوغان وحكومته من إتمام صفقة غير معلنة مع الأكراد تسمح لحزب العمال الكردستاني بالمشاركة في الخطوط الخلفية في المعركة، ودعم قوات سوريا الديمقراطية، مقابل تكوين مجلس حكم عربي في المدينة، والإبقاء على خط تماس -وهو نهر الفرات- لا يسمح بالاتصال المباشر بين القوات الكردية في سوريا وتركيا، ولكن من المتصور أن هذه الصفقة باتت مهددة في ظل تطورات الموقف في سوريا واضطراب العلاقة بين أنقرة وواشنطن.
وفي النهاية يمكن القول، إن التطورات الأخيرة التي طرأت على الساحة الداخلية التركية سوف تزيد من احتمالات تصاعد حدة الصراع بين أنقرة والأكراد، بشكل سوف يؤدي إلى استبعاد التفاهمات السابقة التي كان يمكن البناء عليها للوصول إلى تسوية للقضية الكردية. وربما يتخذ هذا الصراع مسارين رئيسيين: أولهما، عسكري ويتمثل في اتساع نطاق المواجهات بين الطرفين خلال الفترة القادمة. وثانيهما، سياسي ويرتبط باحتمال اتجاه أردوغان إلى تبني خيار إجراء انتخابات مبكرة بهدف إضعاف قدرة الأكراد على تشكيل كتلة قوية داخل البرلمان، وهو خيار يواجه عقبات عديدة يتمثل أبرزها في رفض القوى السياسية الأخرى لهذا الخيار، لإدراكها أن الهدف منه هو تعزيز سلطة الرئيس وحكومة حزب العدالة والتنمية.
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية