أفاد استطلاع رأي أجري مؤخراً بأن أغلبية الأميركيين باتوا يثيرون أسئلة حول الاستراتيجية الأميركية الكبرى على صعيد عالمي. وفي مواجهة هذا الحال يقدم لنا أكاديميان أميركيان مرموقان أطروحتهما المتعلقة بسياسة «إعادة التوازن الخارجي»، التي يعتبران أنها هي الطريق الوحيد الممكن الآن للحفاظ على مكانة الولايات المتحدة على المسرح الدولي.
ففي أبريل 2016 أظهرت نتائج استطلاع أجراه «مركز بيو للأبحاث» أن 57% من الأميركيين يرون أن على الولايات المتحدة الآن أن تركز أولاً وقبل كل شيء على تسوية مشكلاتها الداخلية، وتترك للأمم الأخرى أن تحل هي أيضاً مشكلاتها بنفسها كذلك. ولاشك أن الأثمان الباهظة، اقتصادياً، واستراتيجياً، وأخلاقياً، لحربي العراق وأفغانستان الكارثيتين، كان له دخل كبير في توليد مثل هذا الموقف لدى كثير من الأميركيين. والحال أن وضع هذه المشاعر الشعبية والحقائق الاستراتيجية في الاعتبار هو ما دفع الرئيس باراك أوباما إلى اجتراح مفهوم «القيادة من الخلف»، أو قيادة المساعدة، ولذا فقد حرص على عدم الانخراط في أية مغامرة عسكرية خارجية، بما في ذلك الامتناع عن التدخل في سوريا، على رغم استخدام بشار الأسد لأسلحة كيماوية، متخطياً بذلك «الخطوط الحمراء».
وقد دأب معظم مترشحي الانتخابات التمهيدية «الجمهورية»، لنيل بطاقة الترشيح للرئاسة الأميركية، على اتهام أوباما بالقصور والغياب عن لعب دور الزعامة الأميركية في النظام العالمي، متعهدين، في المقابل، بتبني مقاربة خارجية دولية مستندة إلى العصا الغليظة وسياسة القوة. بل إن دونالد ترامب الذي انتزع بطاقة الترشيح الجمهوري، في النهاية، يعِد بسياسة انعزالية، تروم ترك الحلفاء الأوروبيين، والآسيويين، والخليجيين، يتولون هم بأنفسهم توفير متطلباتهم الأمنية، اللهم إلا من كان منهم مستعداً لتحمل أعباء ودفع ثمن الوجود العسكري الأميركي بالكامل.
وكان أكاديميان مرموقان، ينتميان إلى المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية، هما جون ميرشايمر وستيفن والت، قد دخلا بقوة مؤخراً على خط هذا السجال، في مقال نشراه في عدد يوليو- أغسطس من مجلة «فورين أفيرز»، بعنوان: «حالة التوازن الخارجي: سياسة أميركا الاستراتيجية العليا»، حيث دعيا إلى إعادة صياغة شاملة للاستراتيجية الأميركية. وبحسب رأيهما فإن السياسة الحالية المتسمة بغلبة الروح الليبرالية عليها، قد أخفقت بشكل ذريع. ففي آسيا ما زالت الترسانات النووية الهندية، والباكستانية، والكورية الشمالية، تتنامى، فيما الصين تواصل الصعود كقوة كبرى. وفي الشرق الأوسط، تكشفت التدخلات في كل من العراق وأفغانستان عن فشل فاجع، وما زال الإرهاب حاضراً بقوة، فيما العالم العربي في حالة ركود، وطريق عملية السلام بين إسرائيل وفلسطين تبدو غير سالكة. أما روسيا، فقد ضمت شبه جزيرة القرم، وعلاقاتها مع الولايات المتحدة في أوطأ مستوى. وفي مواجهة كل هذه التحديات والأحوال يقترح ميرشايمر ووالت أن تعمل الولايات المتحدة على إيجاد سياسة إعادة توازن خارجي (توازن قوى عن بُعد)، هي في نظرهما الطريق الوحيد للحفاظ على التفوق والزعامة الأميركية على صعيد عالمي.
لقد كانت الرغبة في تصدير الديمقراطية بالقوة فشلاً ذريعاً آخر قاد الولايات المتحدة في النهاية إلى ممارسة التعذيب، وفتح معتقل الاحتجاز في غوانتانامو. هذا في حين أن أفضل طريقة لنشر الديمقراطية هي ضرب المثل أمام الآخرين بإظهار مزاياها وما تنطوي عليه من إيجابيات. كما أن إرسال قوات إلى الخارج فقط في الحالة التي يكون فيها أحد الحلفاء محل تهديد حقيقي، يجعلها تستقبل كقوات منقذة وليس كقوات احتلال.
وبحسب هذين المتخصصين في الشؤون الدولية، فإن الولايات المتحدة قد تصرفت بحنكة وحكمة في الخليج بإنشائها لقوات تدخل سريع (متمركزة في الولايات المتحدة) سنة 1979، بهدف منع الاتحاد السوفييتي أو إيران من الهيمنة على المنطقة، ولم تتدخل بشكل مباشر إلا في سنة 1990 عندما كان ذلك ضرورياً لطرد العراق من الكويت. ولكن كل التدخلات بعد ذلك لم تفعل شيئاً سوى تغذية المشاعر المناهضة للأميركيين. بل إن إثارة هذه القضية هي التي ركب موجتها بن لادن حين انقلب على الولايات المتحدة. ويرى الكاتبان أيضاً أن تلك التدخلات كان لها دور في مفاقمة الانتشار النووي (بدعوى حماية النفس من التدخلات الأميركية).
كما أن توسيع حلف شمال الأطلسي «الناتو» اعتبر أيضاً خطأ فادحاً، أعاق بشكل كبير تطوير العلاقات الأميركية مع موسكو. ويميز الكاتبان بين ثلاث مناطق مصالح استراتيجية كبرى بالنسبة للولايات المتحدة: أوروبا، وشمال شرق آسيا، ومنطقة الخليج. ويقترحان سحب أميركا لقواتها من أوروبا والخليج، لعدم وجود أية قوة، في كلتا المنطقتين، يمكن أن تشكل خطراً على المصالح الحيوية الأميركية، أو تفرض هيمنتها الأحادية. وحتى لو دعت الضرورة تغيير هذه السياسة، فسيبقى في مقدور أميركا دائماً إعادة نشر قواتها هناك أيضاً عند اللزوم. ومن شأن هذا الانسحاب أن يساعد على تخفيض النفقات العسكرية الأميركية بشكل كبير. أما في آسيا، حيث تواصل الصين الصعود كقوة كبرى مع تفادي أي تدخل عسكري خارجي، فقد تعرضت الولايات المتحدة للاستنزاف والإنهاك وهي تتعهد بأن تحافظ على تفوقها على المدى البعيد. ولذا فإنه لابد من الاستعداد والعمل على احتواء أية رغبة هيمنة صينية محتملة، وتنسيق الجهود هناك مع بقية القوى الإقليمية.
إن هذه الرؤية ربما تبدو غير نمطية وغير مألوفة، ومغرقة في الخروج على كل ما هو قائم وموجود الآن، بما يحول دون إمكان تنفيذها. ولا أحد يشك في أن الكونجرس والبنتاجون سيعارضانها طبعاً. كما أن هيلاري كلينتون، التي تبدو أيضاً أكثر تدخلية من أوباما، سترفضها بكل تأكيد، وهي التي تريد تقوية «الناتو» في مواجهة موسكو. ولكن، بطريقة لا تخلو من مفارقة، فأطروحات هذين الأكاديميين الأميركيين المرموقين، المنتميين إلى نخبة منظّري العلاقات الدولية، يمكن أن تقدم أيضاً حجة أو ذريعة لدونالد ترامب وطرحه السطحي التبسيطي. ذلك أن هذا الأخير أعلن للتو في مؤتمر الحزب الجمهوري الذي كرّس ترشيحه للرئاسة أنه ينوي -في حال دخوله البيت الأبيض- عدم الاستثمار أو الانخراط كثيراً في الشؤون الدولية. وهو ما يعني، في المحصلة، الانكفاء وعودة الانعزالية الأميركية من جديد.
باسكال بونيفاس
نقلا عن الاتحاد