روح الحضارة العربية: محمد بن عبدالله الهاشمي القرشي

روح الحضارة العربية: محمد بن عبدالله الهاشمي القرشي

Items_1881

بعد أحداث باريس صرنا نسمع ونشاهد نقاشات وجدلًا بشأن: ماهية الإسلام وهوية مؤسسه محمد بن عبدالله الهاشمي القرشي؟ واللافت في الأمر هو حضور شخص النبي بشكل متقطع وخارج عن سياقه، أعني سياق شخصيته. والحديث سيكون عن سياق شخص النبي، والذي أعتقد بضرورة حضوره عند أي نقاش موضوعه هو شخص محمد، وهو ضروري، كونه مهمًا في تشكيل صورته في الذهن العالمي. فمن الجناية على أي شخص أن تُشكل صورته من خلال مرويات مفردة ومنتقاة ويصعب التأكد من صحتها؛ ومن ثم تقديمها جاهزة إلى الجماهير لتحكم عليه؛ ولن ندخل في نقاش حول أهلية هذه الجماهير وقدرتها على إصدار الأحكام فهذا أمر لا أقول إن هذه المقالة ليست موضوعًا له، بل لأني لا أملك ما أدلي به، فالمهم أن نعلم أن الجماهير حين تحكم فهي تفعل ذلك مخدوعة من قبل النخب التي تصدر لها الصور الجاهزة، وأتحدث عن نخب المسلمين باختلافهم وغير المسلمين.

لقد كان لفيلسوف الحضارة الألماني “أوزفالد اشپنجلر” سبق في اكتشاف حضارة حدها الشمالي مدينة الرها، والجنوبي سوريا وفلسطين، والإسكندرية كانت طليعتها. ومن الشرق تحد بمنطقة سيطرت عليها الديانة المزدكية وولدت فيها الديانة المانوية. وفي أقصى جنوبها الجزيرة العربية والتي ستكون مهدًا لديانة الإسلام بعدما بلغ عصرها الغاية والأوج في النضوج والفروسية.

إنها حضارة قد نشأت في بيئة لها ماض موغل في القدم، هي بيئة الحضارة البابلية القديمة، وهذه الأخيرة يجب الاطلاع عليها جيدًا، لنعلم ماهية الأنقاض التي نشأت عليها الحضارة العربية، وهذا شرط مهم لتشكيل ملامح سياق شخص مؤسسه، فهذه الحضارة قد كانت مسرحًا إنسانيًا حافلًا بالوقائع المصيرية في تاريخ البشرية.

لقد حصل في هذه البقعة يقظة دينية هائلة لدى شعوبها الشابة، التي تقطن مابين سينا وجبال إيران، حيث حدث صلة جديدة بين الله والإنسان؛ تسببت في شعور كوني جديد نحو كل الأديان القائمة دفع إلى خلق جديد. وحينها حدث تشكل حضاري كاذب حينما ظهر المقدونيون الغزاة، وبدافع موقعة أكتيوم بين أنطونيو وأوكتاڤوس حيث انتصر الأخير، ولذلك تشكلت حضارة امتدت حتى الهند والتركستان، وقد كانت هذه المعركة في الحقيقة بين روحين من أرواح الحضارة، الروح الأپلونية (اليونانية) والروح السحرية (العربية) بين الآلهة المتعددة والإله الواحد، بين الإمارة وبين الخلافة.

هنا كلام قد لا يكون على درجة من الوضوح، لكني آمل من القارئ مساعدتي بالاطلاع على ملامح فلسفة صاحبنا والتي بدأت في عرض ملامحها من خلال قراءتي البطيئة لمؤلفه الجامع، “تدهور الحضارة الغربية لمترجمه الشيباني”، لكني أوجز في وصف بعض ملامحها المهمة لفهم ماسبق.

تولد الحضاة حينما تستيقظ روحًا كبيرة وتنفصل عن الحالة الروحية الأولية للطفولة الإنسانية، وهي تنمو في تربة بيئة يمكن تحديدها بدقة، وتظل مرتبطة بها ارتباط النبتة بالأرض. فصاحبنا يعتقد أن الحضارات دوائر مغلقة، لكل حضارة كيان خاص، ولذلك هو لا يعتقد بإمكان حصول تواصل ما بين حضارة وأخرى. فكل تشابه بينها في الموضوع أو الأسلوب ما هو إلا وهم، ذلك أنه تشابه في العرض لا في الجوهر. وهنا نفهم ما ذكرناه سابقًا حول التشكل الكاذب الذي حدث بعد موقعة أكتيوم.

ولأنه يعتقد أن الحضارات كائنات عضوية، وهذه الفكرة قد أخذها من جوته، فإن “اشپنجلر” يختار تقريب فكرته من خلال القول بأن لكل حضارة: ربيعها، وصيفها، وخريفها، وشتائها. فإذا ما وصلت الحضارة إلى قمة تطورها وحققت كل ما فيها من إمكانات واستنفدت قواها الخالقة، بدأت شيخوختها، وعندئذ فإنها تنتقل إلى المدينة، حيث يبدأ تدهورها وتقهقرها.

إن هذا العالم المترامي الأطراف كان يحتاج إلى نضوج روح حضارته ليجتمع، والذي حدث أن محمدًا كان روح الحضارة العربية التي جعلته يشعر بالوحدة بعد الشتات والافتراق. وبحسب صاحبنا هذا ما يفسر لنا نجاحه الهائل والسريع في جمع هذا الشتات بتأسيسه لدين الإسلام، حيث اتضح أن الإسلام وحده القادر على جعل هذه البيئة تكون وحدة، وهي وحدة الحضارة، الحضارة العربية.

لقد كان لظهور الإسلام وانتشاره مظهر المعجزة كما قال العلامة الفرنسي المؤرخ “كلود كاهن” في مقدمة كتابه عن تاريخ الإسلام، ذلك أنه وبوثبة وحد شعبًا كان إلى ذلك الحين مجهولًا، واستطاع في غضون بضع سنين أن يحتل الإمبراطورية الساسانية برمتها، وجملة من المناطق الآسيوية والإفريقية.

نعود للألماني الذي أكد على أن هذه الحضارة العربية قد اغتيلت قبل أن تستنفد ما في جعبتها، وقد كان ذلك حينما أغار المتبربرون الأوربيون عليها قاصدين بيت المقدس، وعلى ذلك نجد الفرنسي يؤكد على ضرورة التخلص من “الاستخفاف بالشعوب الإسلامية المعاصرة بسبب تراجعها الذي قد يكون عابرًا ومؤقتًا أمام أوروبا التي تتقدم ثقافتها وقوتها بخطى هائلة”، صحيح أن هذه الحضارة تجاهد للنهوض في زمن ليس بزمانها، وعالم ليس بعالمها كما يقول في الخاتمة: “ومع ذلك، ففي كل مرحلة من تاريخ الإسلام، ثمة مايدهش.. ذلك أن تاريخ عدد قليل من الرجال كانوا معزولين في أول الأمر، مالبث أن غدا تاريخًا مشتركًا لعدد كبير من الشعوب التي انضمت إليه تباعًا وبقيت وفيّة له ومتشبثة به”.

إذن، محمد بن عبدالله كان روح الحضارة العربية، المتصل بجذورها اتصال النبتة بأرضها، والشخصية العظيمة المتفوقة، والتي استطاعت بصدق وشجاعة لا مثيل لهما في رفع مستوى الحياة الأخلاقية والفكرية للشعب العربي -وهو عربي من حيث أن العرب كانوا هم حملة لوائه الحضاري-، وبتفهم وحس تنظيمي عميق ضمن له السلامة والفوز، والكلام لكاهن. فمحمد الذي رمى العالمين عن قوس واحدة، حينما أسخطهم أجمعين بدعوته للدين لجديد، وقد كان وسط قوم “لا يقارون من عاب خيولهم وجمالهم فكيف بمن عاب آلهتهم وآباءهم وعقولهم وضلل أديانهم” -كما يؤكد القاضي عبدالجبار، قد عصم من أذاهم بالرغم من ذلك.

إن هذا هو السياق الذي أريد أن نضع شخص محمد فيه قبل أن ندلف في تتبع الروايات الهائلة عن حياته وقوله وفعله، بحيث يكون السياق التاريخي لهذه الشخصية الفارقة في تاريخنا البشري هو المحكم الذي نرد إليه المتشابه وهي تلك الروايات، وإلا فإنا سنخسر خسارة فادحة بالجهل الذي يولده تجاهل سياق شخصيته، وسنصبح مبهوتين بمن لا يفرق بين محمد وسواه، وسنصبح أمام إقرار متهور لمدعي الوصل بليلى، فليلى حينما تكون مجهولة لا نتمكن من سماع عدم إقرارها بتلك الصلة، وهذا يقودنا للوقوع في جدل رهيب حول داعش والنصرة وغيرها من التنظيمات التي لا يمكن أن يكون بؤسها انعكاسًا لروح الحضارة السحرية.

عبدالله بن عبدالعزيز

نقلا عن التقرير