فرضت حالة الاضطراب وعدم الاستقرار التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط تداعيات سلبية عديدة يتمثل أهمها في بروز ظاهرة “مناطق الفراغ” التي نتجت عن انسحاب القوات النظامية من بعض المناطق وانشغال الدول بـ”بؤر التوتر” التقليدية، وهو ما دفع العديد من الميليشيات المسلحة إلى السيطرة عليها بهدف تحويلها إلى نقطة انطلاق لعملياتها الإرهابية في المرحلة القادمة. وتكمن خطورة تلك الظاهرة في أنها أصبحت تمثل مصدرًا جديدًا لتهديد أمن واستقرار دول المنطقة.
مؤشرات عديدة:
ثمة مؤشرات عديدة تكشف عن وجود “مناطق فراغ” داخل بعض الدول التي تعاني من هشاشة وعدم استقرار استغلتها التنظيمات المسلحة لصالحها، ويمكن تناول أهم هذه المؤشرات على النحو التالي:
1- تمدد حركة “بوكو حرام” في جنوب ليبيا، وهو ما بدأت دول عديدة بالمنطقة وخارجها في التحذير من تداعياته الخطيرة، حيث طالبت تشاد ومالي والسنغال بتدخلٍ عسكري دولي عاجل لمنع تلك النوعية من الجماعات من الحصول على ملاذٍ آمنٍ لها في تلك المنطقة. فيما حذرت فرنسا من أن جنوب ليبيا تحول إلى “بؤرة للإرهاب”.
2- سيطرة بعض قوى المعارضة ومنها “جبهة النصرة” على معبر القنيطرة في هضبة الجولان السورية، في 27 أغسطس 2014، بعد معارك عنيفة مع قوات نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وهو ما بات يفرض تهديدات عديدة ليس على دول الجوار فحسب بل على قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في هضبة الجولان، حيث قامت الجبهة، في 28 أغسطس 2014، باحتجاز 45 من عناصر تلك القوات قبل أن تفرج عنهم في 11 سبتمبر 2014، وقد أشارت اتجاهات عديدة إلى أن اختيار يوم 11 سبتمبر بالذات لإطلاق سراح عناصر القوات الدولية كان متعمدًا من جانب “الجبهة” ليتوافق مع ذكرى أحداث 11 سبتمبر 2001.
وبدون شك فإن سيطرة الميليشيات على تلك المناطق تزيد من احتمالات انتقال المواجهات المسلحة من سوريا إلى لبنان، خاصة أن “حزب الله” اللبناني أصبح رقمًا مهمًا في المعارك التي تدور داخل سوريا، حيث يدعم قوات النظام السوري في مواجهة قوى المعارصة. أما بالنسبة لإسرائيل، فرغم أنها تترقب تحركات “جبهة النصرة” وقوى المعارضة الأخرى دون أن تتبنى رد فعل مباشرًا، فإن ذلك لا ينفي أنها تبدي اهتمامًا خاصًّا بالتداعيات التي يُمكن أن تتمخض عن ذلك، بل إن تقارير عديدة أشارت إلى أن أحد الأسباب التي دفعت إسرائيل إلى القبول بوقف إطلاق النار مع حركة “حماس” الفسلطينية خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة، يتمثل في اقتراب مقاتلي “الجبهة” من الحدود الشمالية، وهو ما عبر عنه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بقوله، في أواخر أغسطس 2014، أنه “اتخذ قراراته بشأن غزة ربطًا بالتهديدات في الجبهات الأخرى، ومن بينها وجود القاعدة في الجولان وحزب الله في لبنان”، مضيفًا أنه “قرر في ظل هذا الواقع ألا تضيع موارد إسرائيل في غزة”.
3- محاولة تنظيم “القاعدة” استعادة سيطرته على مناطق عديدة في اليمن، من خلال استغلال تصاعد حدة الصراع السياسي والأمني، سواء عقب اندلاع الثورة ضد نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح في عام 2011، أو بعد نجاح “الحوثيين” في السيطرة على العاصمة صنعاء في سبتمبر 2014، وهو ما أدى إلى اندلاع اشتباكات عديدة بين “القاعدة” و”الحوثيين” في الفترة الأخيرة.
4- تزايد احتمالات تكرار تجربة “داعش” في أفغانستان، حيث تبدي بعض الأطراف السياسية في أفغانستان مخاوف من احتمال تحرك تنظيم “طالبان” لاستغلال الفراغ الحكومي الذي نتج عن الخلاف الذي نشب بين الرئيس أشرف غني ومنافسه عبد الله عبد الله قبل أن يحسم لصالح الأول والذي أدى إلى عدم التوافق على تشكيل الحكومة الجديدة، فضلا عن الفراغ الأمني الناتج عن انسحاب قوات حلف “الناتو” بنهاية عام 2014، من أجل التحول من جديد إلى رقم مهم في أفغانستان، خاصة بعد فشل مفاوضات السلام التي أجريت بين الحركة والرئيس السابق حامد كرزاي في العام الماضي.
وفي هذا السياق، بدأت بعض الاتجاهات تشير إلى استعداد “طالبان” للسيطرة على مناطق واسعة من أفغانستان، على غرار ما فعل تنظيم “داعش” في العراق؛ الذي استغل ضعف الأجهزة الأمنية وقوات الشرطة والجيش من أجل السيطرة على مناطق واسعة في شمال العراق، خاصة مع حداثة عهد بعض الأجهزة التابعة لقوات الأمن الأفغانية، ونجاح “طالبان” في تنفيذ عمليات نوعية داخل أفغانستان خلال الفترة الأخيرة. ورغم تقليل اتجاهات أخرى من إمكانية تحول “طالبان” إلى “داعش” جديدة في أفغانستان، فإن ذلك لا يقلص من احتمالات تصاعد حدة عدم الاستقرار السياسي والأمني في أفغانستان خلال الفترة القادمة، بسبب فشل الجهود التي بذلت في الفترة الماضية في الوصول إلى تسوية سياسية بين “طالبان” والحكومة الأفغانية.
تداعيات محتملة:
يمكن تحديد بعض التداعيات التي من المتوقع أن تنتج عن انتشار ظاهرة “مناطق الفراغ” في بعض دول الإقليم. يتمثل أولها، في تصاعد حدة التوتر بين العديد من دول الجوار، على غرار ما حدث بين إيران وباكستان، عقب التهديدات الإيرانية بالتدخل عسكريًا عبر الحدود لملاحقة عناصر “جيش العدل” المناوئة لإيران، ووقوع اشتباكات بين الجيشين الإيراني والباكستاني في أكتوبر 2014.
وينصرف ثانيها، إلى اتجاه بعض الدول نحو تبني موقف جماعي تجاه الصراع الداخلي في الدولة التي تعاني من وجود تلك الظاهرة، حيث دعا رؤساء كل من تشاد ومالي والسنغال، خلال المنتدى الدولي للسلام والأمن في إفريقيا الذي عُقد في العاصمة السنغالية داكار في 16 ديسمبر 2014؛ إلى تدخل قوات حلف “الناتو” من أجل مواجهة المد الجهادي في جنوب ليبيا، والذي بات يفرض تهديدات قوية لمنطقة الساحل. وقال الرئيس السنغالي ماكي سال أنه “على الذين بدؤوا المهمة أن يساعدوا في إنهائها”، في إشارة إلى قوات “الناتو” التي شاركت في الإطاحة بنظام الرئيس الليبي السابق معمر القذافي.
ويبدو أن بعض الدول الإفريقية الأخرى تؤيد هذا التحرك، خاصةً نيجيريا التي تتخوف من تزايد عمليات تهريب الأسلحة من ليبيا إلى داخل حدودها، حيث نجحت حركة “بوكو حرام” في تأمين ممر لتهريب السلاح من جنوب ليبيا إلى نيجيريا عبر تشاد. وتُشير تقارير عديدة إلى أن الأسلحة الجديدة التي استطاعت الحركة تهريبها إلى داخل نيجيريا تتضمن مدافع مضادة للطائرات وقذائف هاون، وربما تشمل صواريخ أرض جو، بشكل يمكن أن يؤدي إلى تصاعد حدة عدم الاستقرار السياسي والأمني داخل نيجيريا.
ويتعلق ثالثها، بمحاولات بعض الميليشيات استغلال مناطق الفراغ التي تسيطر عليها لاختراق حدود بعض دول الجوار، على غرار محاولة “جبهة النصرة” استغلال وجودها في هضبة الجولان من أجل اختراق الحدود اللبنانية والدخول في مواجهة مباشرة مع “حزب الله” الذي يشارك بشكل قوى في المواجهات المسلحة التي تدور داخل سوريا إلى جانب قوات النظام السوري.
خلاصة القول، يبدو أن ظاهرة “مناطق الفراغ” سوف تستمر خلال المرحلة المقبلة، لا سيما في ظل عجز كثير من الدول التي تواجه أزمات داخلية عن السيطرة على حدودها مع دول الجوار، فضلا عن نجاح بعض التنظيمات الإرهابية في الحصول على أسلحة نوعية، وتطوير أداء مقاتليها، وهو ما يزيد من احتمالات تحول تلك المناطق إلى محور جديد للصراعات الإقليمية في المنطقة.
نقلا عن المركزالاقليمي للدراسات الاستراتيجية