يخيم شبح الحرب الطائفية والعرقية على عدد من المناطق العراقية المعروفة بتنوع تركيبتها الاجتماعية وخصوصا تلك المتنازع عليها بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان العراق، مثل قضاء طوزخورماتو بمحافظة صلاح الدين والذي باتت فسيفساؤه الاجتماعية بمثابة برميل بارود مهيأ للانفجار في أي لحظة. ويعتبر قضاء الطوز نموذجا عن تنوع التركيبة السكانية في العراق، فقوميا تتعايش داخله قوميات الكورد والعرب والتركمان، ومذهبيا يتعايش داخله السنّة والشيعة. وسرّع تقدّم الحرب على تنظيم داعش من وتيرة الصراع على عدد من مناطق العراق، مع بروز رغبة أطراف مشاركة في تلك الحرب باستغلالها لتغيير الحدود المتعارف عليها حاليا وتحوير خارطة السيطرة على المناطق. وسبق لرئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البارزاني، أ ن عبّر عن ذلك بالقول “إنّ حدود الإقليم ترسم الآن بالدم”. كانت قوات البيشمركة قد سيطرت على طوزخورماتو بعد غزو تنظيم داعش صيف 2014 للكثير من المناطق العراقية وسيطرته عليها بعد انسحاب الجيش منها. لكن المشاكل بدأت تطل برأسها في المدينة مع تشكيل الحشد الشعبي التركماني الشيعي فيها، وما تبع ذلك من توتر بين الجانبين.
ويدور الصراع الرئيس الان في طوزخورماتو المعروفة بـ” كركوك المصغر” بين الأكراد والتركمان الشيعة الواقعة،الواقعة على بعد نحو 175 كيلومترا شمالي بغداد، فالاكراد يديرون منذ عام 2003 المفاصل الادارية والامنية الحساسة للمدينة فيما شكل التركمان الشيعة بعد ظهور داعش قوات الحشد الشعبي كمناورة لدعم قوميتهم ومذهبهم الشيعي. ومع ان قوات البيشمركة قد تعاونت مع الحشد الشعبي في اعادة السيطرة على ناحية آمرلي التابعة لطوزخورماتو في شهر اغسطس/آب من العام الماضي واسترجاعها من مسلحي داعش، الا ان معادلة التحالف ضد داعش هذه قد تحولت مؤخرا الى صراع داخلي بين الجانبين على بسط النفوذ على المدينة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن العنف،أصبح يتكرر بصورة شبه شهرية بين جماعات مسلحة متحالفة على مضض في مواجهة تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام “داعش”، وذلك منذ طرد المتشددين من بلدات وقرى في المنطقة عام 2014. وفي شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي،وقع شجار في نقطة تفتيش امتد إلى داخل مدينة طوزخورماتو بين المقاتلين التركمان وعناصر قوات البيشمركة الكردية، نجم عنه حرق العديد من المنازل وانقسام المدينة عرقيا إلى مناطق تركمانية وأخرى كردية، ونزوح السكان منها، بحسب هذا التقسيم الإثني الطائفي. وشهد في نيسان/ أبريل الماضي تجدد القتال بين البيشمركة والحشد الشعبي التركماني الشيعي. وتمّ تطويق النزاع آنذاك بتفاهمات هشّة أبقت جمرة الصراع متقدة وقابلة للاشتعال في أي لحظة.
وتؤشّر هذه الصراعات المسلحة المتنقلة عبر مناطق العراق إلى الضرر البالغ الذي لحق بوحدة المجتمع العراقي شديد التنوّع، وهو ضرر يتجّه نحو بلوغ درجة الانفجار بفعل ما هو قائم من فوضى السلاح، وكثرة الأجسام شبه العسكرية غير النظامية، فضلا عن وفرة عوامل التوتر من عداء طائفي وعرقي ومن تدخلات إقليمية تترجم حجم المطامع في العراق الضعيف. إذ اعتبر المهتمون للشأن العراقي أنّ شبح الحرب الطائفية والعرقية أمراً متوقعاً ومؤشرا خطرا على صراع مذهبي عرقي تغذيه المطامع الإقليمية، وقد يكون عنوان مرحلة ما بعد الحرب على داعش في العراق بما أفرزته من تغوّل قوات غير نظامية منفلتة من رقابة الدولة، في مقابل تراجع مكانة القوات المسلّحة العراقية وسقوط هيبتها.
وعبّر مسؤولون من الجانبين الكردي والتركماني في مدينة الطوز، عن تخوفهم من عودة الاقتتال مرة ثانية بين طوائف المحافظة، مشيرين إلى أن الاتفاق الذي عقد لتهدئة الأوضاع في نيسان/ أبريل الماضي لم ينفذ منه سوى 10 بالمئة على أرض الواقع. وانتهى الاقتتال الأخير باتفاق بين الطرفين يتضمن إعادة التوازن للطوائف في جهاز الشرطة والحشد الشعبي والبيشمركة في مركز المدينة، ووضع نقاط حراسة وتفتيش مشتركة من الطرفين. وقال هيثم مختار أوغلو، مسؤول الجبهة التركمانية في المحافظة العراقية، إن “10 بالمئة فقط من الاتفاق تم تنفيذها بينما لم يلتزم الطرفان، الحشد الشعبي التركماني والبيشمركة الكردية، ببنوده كاملة”.وأضاف أوغلو لوكالة لأناضول أن “عمليات خطف يتبادلها أصحاب القوة في المدينة من الجانبين، وهو ما يهدد أمن طوزخورماتو ويذكي مخاوف من عودة الصراع بين الطوائف والقوميات”. ومن جانبه قال القيادي في الاتحاد الوطني الكردستاني، حسن بهرام، “لا يوجد تنفيذ حقيقي لبنود الاتفاق بين الطرفين، إذ لم ينسحب مقاتلو الحشد الشعبي التركماني من المدينة، ولم تتم عملية الموازنة داخل جهاز الشرطة للطوائف وقوميات المدينة”.وتابع بهرام أن “عمليات خطف المدنيين بدأت تنتشر في المدينة من قبل جهات نافذة ومعروفة تتحدث باسم الحشد الشعبي يجب ردعها لإعادة الثقة داخل المدينة”.
يعتبر قضاء طوزخورماتو نموذجا عن تنوع التركيبة السكانية في العراق، فقوميا تتعايش داخله قوميات الكرد والعرب والتركمان، ومذهبيا يتعايش داخله السنّة والشيعة.ويتوزّع التركمان طائفيا بين المذهبين الشيعي والسني. ويمارس الحراك السياسي والعسكري القومي والمذهبي لتركمان الطوز وجلولاء والسعدية دورا مزدوجا. فللحراك التركماني، حسب مصادر كردية، امتدادات خارج البلاد مرجعياتها في أنقرة من بينها “الجبهة التركمانية”. أمّا مذهبيا فالحشد الشعبي التركماني شيعي، وهو يعمل بالتنسيق مع أنقرة وطهران.
ووفق محللين استراتيجيين للشأن الإقليمي فإن للعاصمتين مصلحة وفق أجنداتهما في تحويل ما هو متنازع عليه في العراق إلى صراع كردي شيعي من خلال جرّ الحشد لقتال البيشمركة. وتتهم أوساط كردية تركيا بأن لها مصلحة كبيرة في خلق الأزمات في هذه المنطقة بغية إضعاف إقليم كردستان الذي تعلن أنقرة الصداقة لبعض قياداته لكنّها تضمر التوجّس من سعيهم لتأسيس دولة كردية مستقلّة في المنطقة. ولا تغفل ذات الأوساط التذكير بأن لإيران مصلحة أيضا في صراع الحشد ضد البيشمركة “بغية إضعاف أكراد الجنوب وتجربتهم”، وترى هذه المصادر أن الحشد الشعبي الذي يضم التركمان الشيعة يهدف إلى خلق حرب بين الشيعة والأكراد، فيما القوميون التركمان يحاولون من خلال تحالفهم مع القوميين العرب تحويل الصراع إلى عربي كردي أيضا.
أن الحرب المستقبلية المبنية على أسس طائفية وعرقية في بعض مدن العراق المتنوعة عرقيا وطائفيا في مرحلة ما بعد داعش ليست سوى نموذج عما أصاب العراق الدولة والمجتمع من بعد التاسع من نسيان/إبريل عام 2003م، والذي ساعد على ذلك الوهن الذي قد يؤدي إلى تمزيق العراق العملية السياسية القائمة على المحاصصة الحزبية والعرقية والطائفية. فما هذا المستوى العالي من الصراع بين المتقاتلون في طوزخورماتو إلا مؤشر على أنّ الحرب على داعش في العراق قد لن تكون المرحلة النهائية في الصراعات المسلّحة بالعراق، بل ربما تكون مقدمة لحروب أهلية مركبة ذات طابع قومي وطائفي.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية